الفوضى الأمريكية في جنوب شرقي آسيا

في حديث لصحيفة ((واشنطن بوست)) الأمريكية نُشر في إبريل سنة 2005، قالت كونداليزا رايس، وزيرة خارجية إدارة جورج بوش الابن، إن الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم نشر "الديمقراطية" في الشرق الأوسط من خلال "الفوضى الخلاقة". منذ ذلك الوقت، بدأت الميديا العالمية تتداول هذا المصطلح، الذي يعني خلق حالة من الفوضى المتعمدة تتم بعدها صياغة نظم وأوضاع جديدة. يدبر الفوضى من خلف ستار دول وأشخاص، بينما ينفذها على الأرض دول "وظيفية" وأشخاص "عملاء". حصاد الفوضى الأمريكية في الشرق الأوسط دول ممزقة، وأخرى في طريقها للتمزق وانتشار التطرف الديني والعرقي وملايين اللاجئين وتراجع اقتصادي واقتتال أهلي وفواجع إنسانية.

عودة إلى التاريخ القريب، نجد أنه بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تقليل وجودها العسكري في منطقة آسيا- المحيط الهادئ، خاصة بعد أن سحبت روسيا قواتها من خليج كام رانه في فيتنام، فقامت واشنطن في عام 1992، بإغلاق قاعدتها العسكرية في خليج سوبيك وقاعدة كلارك الجوية في الفلبين. ولفترة طويلة نأت واشنطن بنفسها عن التدخل في نزاعات السيادة حول جزر بحر الصين الجنوبي، على أساس أن الصين تفتقر إلى القوة البحرية والجوية التي تمكنها من الوصول إلى أبعد من مياهها الساحلية. ولكن تطور القدرات العسكرية الصينية جعل واشنطن تعتبر بكين تهديدا لها. وقد جاء في التقرير السنوي الأمريكي حول القوة العسكرية الصينية لعام 2008، أن "الصين تخطط لإرسال قواتها العسكرية إلى الخارج". وفي عام 2010، رأت واشنطن لأول مرة أن الصين تسعى إلى "منع دخول القوات العسكرية من مسافات بعيدة". وكانت الإدارة الأمريكية  قد أعلنت في عام 2009، استراتيجية أطلقت عليها "إعادة التوازن إلى منطقة آسيا- المحيط الهادئ"، والتي تعني نقل ثقل الاستراتيجية الأمريكية من أوروبا والشرق الأوسط إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. وفي عام 2010، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون بأن بلادها لديها مصالح وطنية في بحر الصين الجنوبي، لتبدأ سياسة التحريض ضد الصين في هذه المنطقة، والقيام بأعمال استفزازية ضد بكين في مياه بحري الصين الشرقي والجنوبي. وفي عام 2011، أكدت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما استراتيجية "إعادة التوازن" في منطقة آسيا- المحيط الهادئ. وفي شهر مايو 2016، زعم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن بكين تخلق "صندوق مواد قابلة للاشتعال" في المنطقة. وفي شهر يوليو 2016، صدر عن ما يُسمى بالمحكمة الدائمة للتحكيم بيان بشأن دعوى أقامتها الفلبين ضد الصين، أنكر حقوق بكين التاريخية في بحر الصين الجنوبي. 

لا يمكن فهم نزاعات بحري الصين الشرقي والجنوبي بمعزل عن الاستراتيجية الأمريكية، التي تم التأكيد عليها في وثيقة "استراتيجيّة الأمن القومي" التي صدرت في شهر فبراير 2015، فضلا عن سياسة احتواء الصين، التي تنتهجها واشنطن من خلال تمتين علاقاتها مع الدول الحليفة لها في شرقي آسيا، وخلق حلفاء جدد، وبمعنى أدق دول وظيفية تنفذ أجندتها التي لخصها القانوني الأمريكي بروس فين (Bruce Fein) بالقول: "السياسة الأمريكية في بحر الصين الجنوبي علامة على تفكيرها الاستعماري الخطير."

بعد أن أعلنت الصين في الثالث والعشرين من نوفمبر 2013 إقامة منطقة الدفاع الجوي لبحر الصين الشرقي، سارعت واشنطن في الخامس والعشرين من نفس الشهر بتوجيه قاذفتين أمريكيتين من طراز 52B بالتحليق فوق جزر دياويوي (يسميها اليابانيون "سينكاكو") ببحر الصين الشرقي دون إبلاغ بكين، متجاهلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية بنشر إحداثيات "منطقة تحديد الهوية للدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي". وحينها، حذرت الصين من أنها ستتخذ إجراءات دفاعية طارئة ضد الطائرات التي تحجم عن الكشف عن هويتها أثناء طيرانها في المجال الجوي. وفي السابع والعشرين من أكتوبر 2015، دخلت سفينة حربية أمريكية منطقة تعتبرها الصين ضمن مياهها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي. وقد أعربت الصين في ذات اليوم عن استيائها الشديد ورفضها القوي لقيام سفينة حربية أمريكية بدوريات بالقرب من شعاب تشوبي التابعة لجزر نانشا الصينية ببحر الصين الجنوبي.

 تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى إثارة الفوضى والقلاقل في منطقة آسيا- المحيط الهادئ وزعزعة الاستقرار فيها، أملا في صياغة أوضاع جديدة في المنطقة تحقق مصالحها الذاتية دون غيرها. تلك هي الفوضى "الخلاقة" التي تؤمن بها واشنطن، متجاهلة نتائجها الكارثية في منطقة الشرق الأوسط. تعلم واشنطن أن النزاعات الإقليمية حول جزر بحر الصين الجنوبي تهديد كامن للأمن والتعاون في منطقة شرقي آسيا. هذه النزاعات ليست بين الصين وبعض دول رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) فحسب، وإنما أيضا بين أعضاء آسيان ذاتها، ومنها النزاعات حول السيادة على بعض الجزر بين الفلبين وفيتنام وماليزيا وإندونيسيا وبروناي. ولفترة طويلة بات في يقين تلك الدول الآسيوية أن تسوية هذه النزاعات يتطلب حكمة دبلوماسية وإرادة سياسية، تتجسد في متانة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الصين ودول آسيان من جانب وبين دول آسيان ذاتها من جانب آخر.

تعمل واشنطن على تحريض بعض الدول لإثارة النزاعات في المنطقة وتقديم الدعم والحماية العسكرية لتلك الدول. ومن ناحية أخرى، تسعى جاهدة إلى تعكير صفو المياه الدبلوماسية الهادئة في المنطقة وإشعال الفتن بها، لدرجة أن البعض وصف وزير خارجية واشنطن بأنه "وزير الفتنة".

ولكي ندرك حجم الدور الأمريكي في صياغة بيان محكمة التحكيم في لاهاي، الصادر في الثاني عشر من يوليو 2016، والذي جاء فيه "أن المحكمة ترى عدم وجود أساس قانوني لمطالبة الصين بحقوق تاريخية على الموارد في المناطق البحرية داخل خط النقاط التسع"، علينا أن نرجع إلى ما قاله مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شرقي آسيا والمحيط الهادئ، دانيل راسل، في جلسة استماع للكونغرس الأمريكي في الخامس من فبراير عام 2014. راسل قال: "إن مطالبة الصين بحقوق ومصالح بحرية في بحر الصين الجنوبي على أساس خط النقاط التسع في حاجة إلى تفسير أو أساس واضح بموجب القانون الدولي". مضيفا أن ذلك لا يتفق مع مبادئ القانون الدولي، إذ لا يمكن لأي بلد أن يطالب بالسيادة على جزر استنادا إلى سجلات تاريخية، ولا يمكن لأي بلد أن يتحدث عن حق السيادة على جزر من دون مراعاة مصالح البلدان المجاورة. وكما هو واضح، يبدو أن بيان محكمة التحكيم قد نقل كلام السيد راسل حرفيا.

التحريض الأمريكي أمسى سافرا، بتأكيد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) غير مرة أن واشنطن، كحليف للفلبين، لن تقف متفرجة في حالة وقوع هجوم من جانب الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي.

إنه "جنون الفوضى"، وفقا للوصف الذي أطلقه الكاتب الصيني تشونغ شنغ في مقالة له بصحيفة ((الشعب اليومية)) الصينية في العشرين من يوليو 2016. الكاتب الصيني قال إن السياسة الخارجية الأمريكية تعاني من "جنون الفوضى" الذي يتجسد في سلوكها تجاه قضية بحر الصين الجنوبي. وأضاف: "مع تحول مركز الاقتصاد العالمي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، بدأ نمط جديد من التنمية الإقليمية مبني على أساس التعاون المربح للجميع يبرز بشكل مستمر." وأشار تشونغ  إلى أنه منذ تسعينات القرن الماضي، شهدت العلاقة بين الصين ودول جنوب شرق آسيا "عقدين ذهبيين"، حيث حقق التعاون بين هذه الدول تقدما كبيرا، لا سيما العلاقات الاقتصادية والتجارية. ويرى الكاتب الصيني أن هذه الإنجازات لم تكن بمعزل عن الإجراءات العملية التي قامت بها الصين للحفاظ على السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي، والجهود المخلصة التي بذلتها للالتزام بالتسوية السلمية للنزاعات من خلال المفاوضات والمشاورات، ما خلق وضعا جيدا يتطلب الحفاظ عليه. بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية استغلت هذا الوضع لاستعراض "جنون الفوضى" في منطقة آسيا- المحيط الهادئ، لا سيما في بحر الصين الجنوبي.

وقد بدت إرهاصات تشير إلى إدراك متزايد في جنوب شرقي آسيا بأن التنمية المشتركة هي القاعدة الأساسية لعلاقاتها، وأن سياسة واشنطن تسير في اتجاه معاكس تماما. الإرهاصات بدأت بإعلان مانيلا عن تعيين الرئيس الفلبيني الأسبق فيديل راموس مبعوثا خاصا للمحادثات الثنائية مع الصين. وقال راموس في الثالث والعشرين من يوليو 2016، إنه قبل عرض رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي ليكون مبعوثا خاصا للمحادثات الثنائية مع الصين. قد تكون هذه الخطوة محاولة من مانيلا لإعادة مد الجسور مع بكين بعد التوتر الذي شهدته علاقاتهما خلال فترة الرئيس الفلبيني السابق بنينو أكوينو، والتي وصلت ذروتها بلجوء مانيلا منفردة إلى ما يسمى بالمحكمة الدائمة للتحكيم.

وفي الخامس والعشرين من يوليو 2016، اتخذت الصين ودول آسيان خطوة في اتجاه تعزيز السلام والاستقرار والثقة المتبادلة في منطقة بحر الصين الجنوبي. فقد جاء في البيان المشترك للدورة التاسعة والأربعين لاجتماع وزارء خارجية الصين ودول آسيان الذي عقد في فينتيان، عاصمة لاوس، أن "الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة بحر الصين الجنوبي يخدم المصالح الأساسية للدول الأعضاء في آسيان والصين والمجتمع الدولي أيضا".

وتعهد وزراء خارجية الصين ودول آسيان بالتنفيذ الكامل والفعال لإعلان سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي، وبالعمل الواقعي تجاه إقرار ميثاق للسلوك في وقت مبكر وعلى أساس توافق الآراء. وذكر البيان أن الصين ودول آسيان "أكدوا مرة أخرى على احترامهم والتزامهم بحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والطيران فوقه وفقا لمبادئ القانون الدولي المعترف بها عالميا، ومن بينها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982. ولكن، لم يكد يمر يومان على هذا البيان حتى خرج بيان لوزير الخارجية الأمريكي ونظيريه الياباني والأسترالي اعتبروا فيه أن حكم المحكمة الدائمة للتحكيم، والذي رفضته الصين، حكما مُلزما.

الوضع في جنوب شرقي آسيا رهن بمدى استجابة دول تلك المنطقة للفوضى الأمريكية. وبعبارة أخرى يتوقف على الوزن النسبي لقوى الاستقرار التي تسعى للحفاظ على ما تحقق من ازدهار اقتصادي وتنمية مشتركة واستقرار سياسي في المنطقة، وقوى الفوضى التي تسير في ركاب السياسة الأمريكية ضد مصالح منطقتها.