الثانوية العامة في الصين

الاختبار الوطني للقبول بالتعليم العالي (قاوكاو باللغة الصينية، اختصارا) هو المعادل لاختبار الثانوية العامة أو البكالوريا في الدول العربية. قاوكاو الصيني صورة تكاد تكون مطابقة لاختبارات الثانوية العامة في البلدان العربية، مع فروق طفيفة.

بدأ نظام الاختبار الوطنيللقبول بالتعليم العالي سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وألف ميلادية، أي بعد تأسيس الصين الجديدة بثلاث سنين، فيما اعتبر آنذاك بالخطوة الأولى لإصلاح سياسات اختبارات الالتحاق بالجامعات في الصين. وإذا كان نظام اختبار قاوكاو قد تأثر بالتطورات السياسية في الصين في أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن العشرين، إلا أنه استمر حتى اندلاع ما سُمي بالثورة الثقافية سنة 1966، فتم إلغاء الاختبار الوطني للقبول بالجامعات، ليحل محله نظام للقبول يمهد طريق الالتحاق بالجامعات للعمال والفلاحين والجنود، باعتبارهم الفئات الأكثر تفضيلا في تلك الفترة. وخلال السنوات العشر للثورة الثقافية (1966- 1976)، ظهرت حركة "الذهاب إلى الريف"، التي أطلقها الرئيس ماو تسي تونغ، والتي اضطرت خريجي المدارس الثانوية للذهاب إلى الريف للعمل كفلاحين، وأغلقت الجامعات. في بداية سبعينات القرن العشرين، أعيد افتتاح الجامعات، ولم يُستـأنف العمل لنظام اختبار قاوكاو، إذ كان يتم ترشيح الطلاب وفقا لخلفياتهم السياسية والأسرية وليس على أساس نتائجهم الدراسية. في سنة 1977، أعيد العمل بنظام الاختبار الوطني للقبول بالتعليم العالي المستمر حتى الآن. كان الاختبار الأول الذي أقيم بعد الثورة الثقافية، في أواخر سنة 1977، حدثا تاريخيا هاما. وتميز اختبار ذلك العام بالإعفاء من شرط تحديد عمر المتقدم للاختبار أو خلفيته التعليمية. ومن ثم، تقدم لاختبار قاوكاو 1977، غالبية الصينيين الذين تراكمت آمالهم طوال عشر سنوات وآخرون رأوا أن يجربوا حظهم. بلغ عدد من تقدموا لاختبار عام 1977 خمسة ملايين وسبعمائة ألف فرد. وبرغم أن وزارة التعليم الصينية زادت نسبة القبول بالجامعات، لم يتجاوز معدل المقبولين في الجامعات من الذين تقدموا للاختبار 8ر4%، حيث قبلت الجامعات نحو مائتين وثلاثة وسبعين ألف طالب. واعتبارا من سنة 1978، طبقت الصين نظام الاختبار الموحد على مستوى الدولة، والذي استمر كالنمط الوحيد لاختبار قاوكاو حتى سنة 1985، عندما بدأت مدينة شانغهاي تطبيق نظام اختبار خاصا بها، وتبعتها مدن ومقاطعات أخرى وصل عددها حاليا إلى ست عشرة مقاطعة ومدينة تابعة للحكومة المركزية. بعض المقاطعات طبقت تجريبيا فكرة إجراء اختبارين في السنة، أحدهما في فصل الربيع، ولكن تجربة "اختبار الربيع" لم تثبت نجاحا.

المواد الإجبارية لاختبار قاوكاو هي اللغة الصينية والرياضيات واللغة الأجنبية (تكون عادة الإنجليزية)، والمواد الاختيارية للقسم العلمي هي الفيزياء والكيمياء والأحياء، وللقسم الأدبي التاريخ والجغرافيا والتربية السياسية. وقد أدى الاختبار الوطني للقبول بالتعليم العالي في الصين سنة 2016، تسعة ملايين وأربعمائة ألف طالب، أي ما يقارب عدد سكان دولة متوسطة الحجم مثل تونس.

وإذا علمنا قيمة التعليم لدى الأسرة الصينية، مع ندرة فرص الدراسة في الجامعات مقارنة مع عدد سكان الصين، يمكن أن نفهم معاناة الأسرة الصينية وتضحياتها ليحصل أبناؤها على فرصة الدراسة الجامعية في مجتمع مازال التعليم فيه من أدوات ارتقاء السلم الاجتماعي. الفشل في اختبار قاوكاو يعني بالنسبة للبعض نهاية كل شئ، حتى الحياة. هناك حالات انتحار في الصين بسبب اختبار القبول بالتعليم العالي.

الاستعداد لاختبار قاوكاو يبدأ مبكرا قبل بدء العام الدراسي، وذلك من خلال الدورات التعليمية في مراكز للدروس الخصوصية في مختلف المواد. وتشمل ترتيبات الاختبار، الذي يعتبره الصينيون الأهم في حياة الإنسان، استئجار بعض أولياء الأمور رفقاء لأبنائهم من الطلاب والطالبات مع اقتراب موعد الاختبار. تكون مهمة رفيق الطالب هي مصاحبته إلى أماكن الدروس الخصوصية وأثناء مذاكرته ليلا، وفي بعض الأحيان إعداد الطعام والمشروبات له. بعبارة أخرى، مهمة ما يمكن تسميته بأنيس الطالب هي التخفيف عنه وتشجيعه حتى لا يشعر بالملل. في مدينة شانغهاي يصل أجر رفيق الطالب إلى ثلاثمائة يوان (الدولار الأمريكي يساوي 6ر6 يوانات) يوميا. ويراعى أن يكون الرفيق أو الرفيقة من خريجي الجامعات الجدد، بحيث تكون أعمارهم قريبة من أعمار الطلاب.

ومثلما يقرأ المصريون في إعلانات الدروس الخصوصية عبارات من قبيل "إمبراطور الكيمياء"، و"قيصر التاريخ والجغرافيا" و"عملاق الفيزياء"، الصين بها ما يصفه البعض بالأرض المقدسة لاختبار قاوكاو، ويقصد بذلك مركز إعداد الطلاب لاختبار قاوكاو في مدرسة ماوتانغتشانغ في مقاطعة آنهوي، والذي ينضم إليه نحو عشرين ألف طالب سنويا، يدفع كل منهم نحو خمسين ألف يوان. هذه المدرسة تمنع دخول الهواتف والحواسب النقالة، ولا توجد في غرف سكن الطلاب مقابس كهرباء. الأكثر من ذلك أن حكومة مدينة ماوتانغتشانغ التي تقع فيها المدرسة تغلق كافة مرافق التسلية والترفيه في المدينة خلال فترة الإعداد الدراسي. 

في أوقات مراجعات الدروس قبل الاختبار، تعلن الفنادق عما تسميه "غرف الدرجات العالية". تكون هذه الفنادق قريبة من المراكز التي تعقد فيها الاختبارات، ومن ثم تفضل بعض الأسر أن يقيم فيها الأبناء توفيرا للوقت. يصل سعر الغرفة من هذا النوع إلى ألفي يوان في الليلة الواحدة. ومن أجل تيسير وصول الطلاب إلى مراكز الاختبارات، تخصص بعض المدن الصينية علامات صفراء لسيارات الأجرة التي تنقل الطلاب إلى مراكز الاختبار، ليتم إفساح الطرق لها. أثناء اختبار قاوكاو لعام 2016، تم حجز ألف سيارة أجرة من هذا النوع لدى شركة تاكسي واحدة في مدينة شانغهاي.

وإذا كان الغش قد أجبر حكومة أثيوبيا على تأجيل اختبارات القبول بالجامعات لعام 2016، كما جعل حكومتي الجزائر ومصر تقرران إعادة الاختبار في المواد التي تم تسريب اختباراتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل وقيام الحكومة الجزائرية بحجب كافة مواقع التواصل الاجتماعي خلال فترة الإعادة الجزئية لاخبتارات الثانوية العامة، فإن الغش أثناء اختبار قاوكاو الصيني له أشكال مختلفة، تتجدد سنويا مع التقدم التكنولوجي. وبرغم الرقابة الصارمة التي تفرضها السلطات المعنية  على الغرف التي تقام بها الاختبار، تظل مهمة منع الغش صعبة للغاية، إذ يخفي الطلاب أجهزة استقبال في سماعات الهاتف والساعات، بل وفي ملابسهم. ومع استخدام أجهزة الكشف عن الأغراض المعدنية، لجأت مقاطعة جيلين إلى منع الفتيات من ارتداء حمالات الصدر ذات المشابك المعدنية، بل واستخدام طائرات بدون طيار وماسحات ضوئية بالراديو للإمساك بالغشاشين. وقبيل اختبار 2016، اعتقلت الشرطة في مدينة جينان بمقاطعة شاندونغ شخصا للاشتباه في قيامه ببيع أجهزة غش فائقة التطور، مثل أسلاك بدقة الشعر، وسماعات صغيرة بحجم حبة فول الصويا وغيرها من أجهزة الإرسال التي تساعد الطلاب على الغش.  وبرغم ذلك، لم تنحسر ظاهرة الغش، ما دفع السلطات الصينية إلى إقرار عقوبة تصل إلى سجن من يُضبَط متلبسا بالغش سبع سنوات ومنعه من دخول اختبار قاوكاو لمدة ثلاث سنوات. كما انطلقت حملة على مستوى الصين لاتخاذ إجراءات صارمة ضد بيع الأجهزة اللاسكلية التي تستخدم في الغش وتسريب محتويات اختبار قاو كاو عبر مواقع الإنترنت. بيد أن الأمر يصل أحيانا إلى ما هو أبعد من الغش. بعض الأسر اليائسة تلجأ إلى التزوير والاحتيال لضمان مكان لأبنائها في الجامعات. هذه الأسر تدفع  عشرات آلاف اليوانات لتأجير أشخاص يؤدون اختبار قاوكاو بدلا من أبنائهم. ومن أجل ذلك، يتم عمل بطاقات هوية مزورة تحمل صورة البديل وبيانات الطالب الحقيقي. وتوجد في السوق أجهزة تساعد في تجاوز إجراءات التأكد من هوية الطالب الحقيقي. تسعيرة البديل يمكن أن تصل إلى خمسة وعشرين ألف يوان إذا كانت نتيجة الاختبار تسمح للطالب بالالتحاق بجامعة من جامعات المستوى الأول. وإذا كان المصريون يصنفون الكليات الجامعية إلى كليات قمة وكليات وسط وكليات قاع، فإن التصنيف في الصين يضم جامعات القمة، وهي جامعات المستوى الأولى وتوجد في العاصمة بكين وفي شانغهاي والمدن الكبرى، ثم جامعات المستوى الثاني وتوجد في المدن المتوسطة الحجم ثم جامعات المستوى الثالث وتوجد في المدن الصغيرة. خريجو الجامعات المتميزة لا يجدون صعوبة كبيرة في الحصول على فرص عمل، بينما خريجو جامعات المستوى الثالث لا يجدون تقريبا فرص عمل مناسبة، ويضطرون في نهاية الأمر إلى القيام بأعمال جسمانية، لا تتفق البتة مع مجال دراساتهم.

اختبار قاوكاو همُّ ثقيل على كاهل الطلاب الصينيين، فما إن يفرغ هؤلاء الطلاب من أداء الاختبار حتى ينفسون عن أنفسهم بطرق شتى، أبرزها تمزيق الكتب الدراسية. وقد حظرت مدينة شيامن في مقاطعة فوجيان هذا العام هذا التصرف من جانب الطلاب، وطالبت بأن ينفس الطلاب ضغوطهم بطريقة صحية أكثر. هذه الطريقة الصحية ربما تكون تكسير البطيخ، ففي مدينة تشونغتشينغ بجنوب غربي الصين خاض أكثر من ألفي طالب "حرب البطيخ" بعد الانتهاء من الاختبار.  فرقعة البالونات، طريقة أخرى يلجا إليها الطلاب لتفريغ ضغوطهم. 

قاوكاو أيضا صداع في رأس كل أسرة صينية. ويرى خبراء أنه ليس النظام الأفضل لتقييم المستوى العلمي للطلاب، وأنه يعتمد في الغالب على الحفظ والتلقين وليس التفكير والإبداع، باعتبار أن التعليم الذي يقوم على الحفظ، وأيضا الضغوط التي يتعرض لها الطلاب للحصول على درجات عالية، تكبح قدراتهم الإبداعية وتعوق قدراتهم على حل المشكلات، ولا تترك لهم سوى القليل من الوقت لاكتساب وتطوير المهارات الحقيقية اللازمة لدخول سوق العمل. ولكن من ناحية أخرى، يرى كثير من الصينيين أن اختبار القبول للتعليم العالي يشبه طقوسا وشعائر ينتقل عبرها الشاب أو الفتاة من مرحلة إلى مرحلة أخرى في حياته؛ ذلك أن عملية الاختبار نفسها تغرس في نفس من يخوضها قيم الانضباط والمرونة والعمل الشاق والجاد والسليم.

مازال، وسيظل إلى الأمد المنظور، التعليم الجامعي في الصين طموحا تتعلق به الأسرة الصينية، برغم أن فرص توظيف خريجي الجامعات تتقلص. الصين حاليا هي أكبر بلد في العالم من حيث عدد خريجي الجامعات، ولكن معدلات البطالة تتزايد بين خريجي الجامعات. في عام 2013، بلغت نسبة من نجحوا في الحصول على فرصة عمل بحلول موعد تخرجهم أقل من ثلاثين في المائة من خريجي الجامعات، وتلك مؤشرات تثير قلق الحكومة الصينية، وربما تجعل البعض يعيد النظر في مسألة التعليم الجامعي وارتباطه بالمكانة الاجتماعية والحصول على وظيفة مرموقة.

ولكن، برغم كل شئ يبدو أن نظام قاوكاو، أو الثانوية العامة، سيظل الطريقة الأفضل لتقييم مستوى الطلاب، والتي يمكن بها ضمان الحد الأدنى من العدل بينهم، ذلك أن البديل قد يفتح الباب لفساد مساوئه ربما تكون أعظم بكثير من مثالب النظام القائم بكل عيوبه.