تراث طريق الحرير القديم في شيآن

خلال زيارته لأوزبكستان في عام 2013، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ متحف الأمير تيمور الذي رأى فيه خريطة لطريق الحرير القديم. السيد شي أشار إلى موقع في الخريطة وقال لمضيفيه: "إنها شيآن، نقطة انطلاق طريق الحرير، ومسقط رأسي."

شيآن، أو تشانغآن كما كان يطلق عليها لقرون عديدة، منطقة حضرية عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام. كانت تشانغآن العاصمة الوطنية الرسمية للصين في فترة الحكم الإقطاعي لمدة أكثر من ألف ومائة سنة. خلال فترتي أسرة هان (220-206 ق.م) وأسرة تانغ (618-907)، بلغت أزهى عصورها؛ حيث انتشر تأثيرهاعلى نطاق واسع بفضل فتح طريق الحرير القديم. عبر هذا الطريق الذي كان ممرا للتبادل التجاري والثقافي، استطاعت أسرتا هان وتانغ الإمبراطوريتان استيراد واحتضان العناصر والمبادئ المفيدة من الحضارات الأخرى، ودمجها مع الثقافة الصينية؛ فأدى ذلك إلى الشمولية والانفتاح والتنوع المعروف عن هاتين الفترتين من التاريخ الصيني، وظهور ثقافة شيآن الغنية والمتنوعة  في تاريخ تراثها وفي العادات الثقافية والأطعمة.

مدينة عالمية قديمة كبيرة

في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد، طورت المناطق الداخلية في الصين، كما كانت تسمى قديما، تجارتها مع المناطق الغربية (التي تعرف حاليا بآسيا الوسطى وغربي وجنوبي آسيا ومنطقة شينجيانغ في الصين). خلال فترة حكم إمبراطور  أسرة هان، وو دي، (156-87ق.م) أوفد مبعوثه تشانغ تشيان مرتين إلى  حكام الخانات في المناطق الغربية. وعلى مدة أكثر من اثني عشر عاما، كانت حركة التجارة بين تشانغآن وأوروبا تمر عبر وسط وغربي آسيا. وللحفاظ على طريق آمن وسلس، أنشأت أسرة هان المناطق الغربية المحمية، والتي كانت تغطي مساحة واسعة، بما في ذلك منطقة شينجيانغ وآسيا الوسطى. أول من أشار إلى هذا الطريق باسم طريق الحرير القديم هو الرحالة والجغرافي الألماني، فرديناند بارون فون ريشتهوفن، في كتابه "نتائج رحلاتي ودراساتي عن الصين"، وهو الاسم الذي تم قبوله واستخدامه على نطاق واسع، لاحقا.

عرفت تشانغآن خلال فترة حكم أسرة تانغ، سوقين شهيرين؛ السوق الشرقية والسوق الغربية، حيث قلب المدينة، وأيضا المركز الصناعي والتجاري للدولة. استقطبت السوق الشرقية أفراد الأسرة الحاكمة والنخبة وكبار الشخصيات في المجتمع، لذلك كانت متخمة بالبضائع الفاخرة، بينما السوق الغربية، والمعروفة بسوق الذهب، كانت تلبي حاجات وطلبات العملاء والزبائن الدوليين، ومنهم أبناء آسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا وكوريا واليابان. وكان المحليون يطلقون على التجار من آسيا الوسطى وبلاد فارس والدول العربية اسم "تجار هو"، الذين شكلوا أكبر تجمع للأجانب حيث بلغ عددهم الآلاف خلال فترات الازدهار. وبالتالي، فإن ثقافات وعادات بلدان هؤلاء التجار وجدت طريقها تدريجيا إلى الحياة المحلية في تشانغآن، من حيث الملابس والمواد الغذائية. وقد وصف شاعر أسرة تانغ، لي باي، نزهة ربيعية لشباب من تشانغآن، قائلا: "خيالة على خيول بيضاء بسروج فضية، جابت مجموعة من فتيان الأسر الغنية الجزء الشرقي من سوق الذهب تتطلع إلى زهور الربيع المتساقطة. في نهاية رحلتهم، دخلوا حانة وأصوات ضحكاتهم تتعالى حيث لقوا الترحيب والخدمة من قبل النادلات."

متحف سوق تانغ الغربية

يقع هذا المتحف في طريق لاودونغ الجنوبي في منطقة بيلين، بمدينة شيآن. ويوجد هذا المتحف حاليا في منطقة السوق الغربية القديمة، والتي تغطي أحد عشر ألف متر مربع، من ضمنها 2500 متر مربع من المواقع التاريخية.يبلغ عدد مقتنيات المتحف من التحف عشرين أكثر من ألف قطعة أثرية، تقدم للزوار لمحات عن المشاهد  الحيوية والصاخبة للسوق التي يرجع تاريخها إلى ما قبل أكثر من ألف عام.

الدخول إلى المتحف مجانا من الطابق الأول إلى الطابق الثالث، فقط بإظهار البطاقة الشخصية. رسم دخول الطابق الرابع ثلاثون يوانا للفرد، ويعفى منه حاملو بطاقة المرور السياحية السنوية لمقاطعة شنشي. يغلق المتحف يوم الاثنين من كل أسبوع.

المواصلات: الحافلات رقم  24  و 43 و 106 و 107 و 201 و 502 و503 و916 من مركز مدينة شيآن إلى موقف داتانغ شيشي (سوق تانغ الغربية)

بوتقة انصهار للثقافات!

مع تزايد الأنشطة الاقتصادية بين الشرق والغرب، كثر أيضا تبادل وجهات النظر في الدين والعلوم والتكنولوجيا والثقافة والفن. وقد وصل الإسلام والبوذية والزرادشتية إلى الصين، وتطورت جنبا إلى جنب مع المذاهب والأديان الأصلية في البلاد. وقد دخلت البوذية إلى الصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وازدهرت في  فترة أسرة تانغ. كانت تشانغآن موطنا للشخصيات البارزة والدعاة من مختلف الطوائف البوذية في مختلف البلدان، وانتشرت فيها العديد من المعابد والباغودات المليئة بأتباع هذا الدين. وحسب السجلات، كان في تشانغآن خلال فترة أسرة تانغ، 122 ديرا ومعبدا للرهبان، و31 للراهبات. كان الأباطرة وكبار الشخصيات يفخرون بتمويل بناء وزخرفة الأضرحة البوذية للرهبان والراهبات. كان الراهب شيوان تسانغ، (664-602) هو الراهب الأشهر في تلك الفترة، والأكثر معرفة بمبادئ البوذية القادمة من الهند.  غادر شيوان تسانغ مدينة تشانغآن في عام 627 في رحلة لمسافة ألفين وخمسمائة كيلومتر على طول طريق الحرير متجها إلى الهند. وهناك درس في معبد نالاندا، قبل القيام بجولة في البلاد للتعريف بنفسه لمختلف المدارس البوذية. وعندما عاد إلى الصين، أتى ومعه 657 مجلدا من الأسفار البوذية المقدسة باللغة السنسكريتية، والكثير من الآثار البوذية "الساريرا"، والعديد من التماثيل البوذية. وبدعم من إمبراطور أسرة تانغ، أسس شيوان تسانغ أكاديمية سوترا الوطنية للترجمة في تشانغآن، وقام باستقطاب العديد من المترجمين من مختلف بلدان العالم ومن دول أخرى في شرقي آسيا. وفي السنوات العشرين التالية، قام هو ومساعدوه بترجمة 1335 مجلدا من 74 من الأسفار البوذية، التي وصل حجمها إلى 35ر13 مليون مقطع كتابة صيني.

الكتاب البوذي عن العالم الغربي في عهد أسرة تانغ، كتبه تلميذه بيان جي وسجل فيه تجاربه في أكثر من مائة من الخانات ومزارات ومدن بلدان واقعة غرب قاوتشانغ (مملكة توربان القديمة، شينجيانغ حاليا.)، وهو من المصادر الأساسية القيمة لدراسة تاريخ وسط وجنوبي آسيا.

وقد صمد العديد من المواقع الدينية في شيآن أمام الزمن، لتكون شهادة موثقة على التبادلات بين الأديان خلال عهد شيوان تسانغ، بما في ذلك معبدا الإوز البري، وعدد من المعابد البوذية، أبرزها معبد فامن (حيث تم اكتشاف أربع قطع من الرماد المقدس لأصابع بوذا، والمزارات الطاوية ومسجد هواجيويشيانغ الكبير).  

برج الإوز البري الكبير

 يقع هذا البرج داخل معبد تسيأن في الضاحية الجنوبية لمدينة شيآن. وقد بني هذا المعبد الفخم بأمر من إمبراطور أسرة تانغ. كان شيوان تسانغ هو أول رئيس للمعبد، وقد أشرف على بناء برج الإوز الكبير في عام 652، لحفظ الكتب وتماثيل البوذا، التي جلبها معه من الهند. برج الإوز البري الكبير هو أكبر وأقدم باغودا مبنية من الطوب، على شكل رباعي، من عهد أسرة تانغ. ولا يزال به صفحتان من بوترا المقدسة، عاد بهما شيوان تسانغ من رحلته، بالإضافة إلى قطعتين من الرماد المقدس لبوذا تبرع بهما شي وو تشيان، وهو راهب من الصينيين المغتربين المقيمين في كلكتا، في الهند.

سعر التذكرة: خمسون يوانا لمعبد تسيأن، وأربعون يوانا للباغودا.

 

المواصلات: الحافلات رقم:  5، 21،23، 27، 30 و41.

قصر تشونغيانغ

يقع في محافظة هوشيان، على بعد أربعين كيلومترا جنوب غرب  شيآن. وفيه ضريح لرجل الدين الطاوي وانغ تشون يانغ، مؤسس مذهب تشيوانتشن. في ذروة ازدهاره، كان القصر يتألف من خمسة ألاف غرفة وأكثر، تستوعب ما يقرب من عشرة آلاف فرد من الطاويين. وقد تدهور في عهد أسرتي مينغ وتشينغ، وفقد معظم هياكله، باستثناء قاعة لينغقونغ، وقاعة تشيتشن، وقبر الميت الحي، غابة تسوآن للمسلات المنقوشة، وقاعة تايتشينغ وجسر يوشيان.

سعر التذكرة: خمسة وعشرون يوانا

المواصلات: الحافلة السياحية إلى بلدة تسوآن من محطة حافلات شيآن.

جنة الأطعمة الشهية!

بفضل توسع المدينة وازدهار اقتصادها وزيادة عدد سكانها، ازدهر فن الطهي المحلي. وباعتبارها مهدا للحضارة والثقافة الصينية، فإن شيآن هي مصدر العديد من الأطعمة الصينية العريقة، مثل المعكرونة الباردة التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، و"قوكوي" الذي يعود تاريخه الى القرن العاشر قبل الميلاد، والكعك البلوري الذي يعود تاريخه إلى أسرة سونغ الشمالية (960-1127)، وكعك فاكهة البرسيمون الذي يعود تاريخه إلى  عهد أسرة مينغ (1368-1644). ولا تزال هذه الأطعمة مشهورة في شيآن. أما "روجياموه" أو "البرغر الصيني" فيعود إلى عشرينات القرن الماضي، وهي وجبة مفضلة في جميع أنحاء البلاد.

تأثر مطبخ شيآن بشكل كبير بالتجار الأجانب الذين كانوا يتنقلون بين العاصمة القديمة والبلدان المختلفة، لاسيما البلدان العربية. ومن الأمثلة على تلك الأطعمة، الثريد بمرق لحم الغنم. وتهيمن لحوم البقر والضأن على النظام الغذائي لسكان المناطق الغربية، بينما كانت رقائق القمح الجافة الوجبة الرئيسية للقوافل التجارية. تنقع الرقائق عادة في الحساء الساخن لتكون طبقا شهيا وبسيطا يمكنه أن يحافظ على دفء الجسم وامتلاء المعدة لفترة طويلة. وأيضا من الأطعمة المحلية الأخرى في شيآن، "كعك هوما" أي كعك السمسم، والخبز المدور المنفوخ، والكباب الذي ترجع جذوره إلى المسلمين.

وقد ذهب  التأثير في الطهي إلى اتجاهين. على سبيل المثال، المعكرونة الإيطالية هي فرع من الشعرية الصينية. ووجبة أوركيتشي مشابهة تماما لوجبة "ماشي" المحلية في شيآن. وأيضا طبق الرافولي يشبه طعام "جياوتسي" الصيني، وهو عبارة عن قطع من العجين محشوة باللحم وتطهى بالماء المغلي، ومعكرونة السباكتي مشابهة تماما لشعرية "ساوتسي" في شيآن من حيث الطعم وطريقة الطهي. ومن الصعب إثبات العلاقة بين هذه الأطباق، ولكن لا يزال بإمكاننا أن نتصور التقاء أصناف متنوعة من الأطعمة على طول طريق الحرير القديم الذي يربط الشرق بالغرب.