"الغرام الخطير" بين الجهل وسوء النية

قبل أن تدخل طائرة شركة الصين الدولية للخطوط الجوية "قوه هانغ/ إير تشيانا" القادمة من القاهرة إلى بكين، المجال الجوي لجمهورية الصين الشعبية، كان الصوت الذي يهتف في عقلي هو: "ستكون سمكة غريبة في محيط، وعليك أن تحاول فهم نمط حياة الأسماك الأصلية." كان ذلك في بداية تسعينات القرن العشرين، ولم يكن قد مضى على انفتاح الصين زمن طويل. في أيامي الأولى بالعاصمة الصينية، كان من بين المشاهد التي أثارت انتباهي بشدة اللافتات الكثيرة التي تحمل شعارات حماسية وإرشادية في أماكن كثيرة، وخاصة مواقع البناء. كانت تلك اللافتات، إذا رأيتها بنمط التفكير الذي نشأت عليه، تمثل دعاية صارخة، وربما مثيرة للامتعاض. بيد أن ما أدهشني هو مشهد الصينيين الذين يقفون أمام تلك اللافتات منهمكين في قراءتها باهتمام واضح. وبعد سنوات في الصين، لم يتغير مشهد اللافتات كثيرا؛ في مكان عملي وفي الأسواق ومحطات المواصلات العامة وفي المدرسة الابتدائية التي التحق بها ابني وابنتي. ربما كانت لافتات السور والجدران في المدرسة الصينية مألوفة بالنسبة لي، فقد عرفتها في المدارس التي تعلمت فيها بمصر. صارت الشعارات جزءا من حياتي الصينية وظل موقفي منها هو موقف المراقب، فلا مدح ولا قدح. بيد أنني لاحظت امتعاض، بل وسخرية أصدقائي وزملائي الغربيين الذين يقيمون في الصين من تلك الشعارات الإرشادية والتثقيفية والسلوكية. وعندما وضعت إدارة فندق الصداقة في بكين، حيث كان يوجد مسكني، لافتة على بوابة التجمع السكني كُتبت عليها عبارة "من فضلك لا تبصق"، في وقت كان البصق على الأرض عادة سيئة منتشرة في بكين، نظر إليها صديقي النيوزيلندي جون وقال ساخرا: "كيف يمكن أن أغير عادتي؟!" والحقيقة أنه بعد وقت غير قليل اختفت تماما من بكين هذه العادة السيئة.

تذكرت تفاصيل كثيرة لعالم الشعارات في الصين وأنا أقرأ تقريرا في الصحف العربية والأجنبية في العشرين من إبريل 2016 بعنوان "حملة تحذير صينية من الحب الخطير". وجاء في تفاصيل التقرير أن  الصين أطلقت في "اليوم التثقيفي الأول بالأمن الوطني" حملة لتحذير مواطنيها، خصوصا من العاملين في القطاع الحكومي، من الثقة بالأجانب ذوي "الطلة الجميلة"، الذين قد تكون لهم أجندة تجسسية. وقالت تقارير صحفية إن الحملة التي جاءت تحت شعار "الحب الخطير"، عبارة عن ملصقات كبيرة تحكي قصة فتاة صينية اسمها "شياو لي" تعمل في إحدى مؤسسات القطاع العام تعرفت خلال حفل عشاء على رجل ذي شعر كستنائي اللون. الرجل، ويدعى ديفيد، زعم أنه باحث زائر، وأغدق على الفتاة بالهدايا والزهور وأخذ يصطحبها إلى الحدائق في أمسيات رومانسية، قبل أن تكتشف الآنسة لي لاحقا أن صديقها الأجنبي ما هو إلا جاسوس. وتُصور الملصقات، وهي عبارة عن رسوم كرتونية، شياو لي وهي تعطي ديفيد وثائق داخلية سرية حصلت عليها من الجهة التي تعمل بها، قبل أن تلقي الأجهزة الأمنية القبض عليهما.

وقد تناولت وسائل الإعلام الغربية هذا الخبر بمزيج من الدهشة والاستغراب، بل والسخرية، فقد جاء في تقرير لصحيفة ((ذي نيويورك تايمز)) الأمريكية: "من غير الواضح لماذا اختارت السلطات الصينية رجالا أجانب لتصويرهم كجواسيس محتملين والفتيات الشابات الصينيات كأهداف لهم في أول حملة للتثقيف العام."وزعم التقرير الذي حمل عنوان "حملة الحب الخطير الصينية، التحذير من الجواسيس، تُقابل بتجاهل"، أنه بناء على مشاهدات صباحية لشارع في بكين، من جانب كاتبة التقرير، ديدي كريستن تاتلو،  فإن الحملة ربما لا يكون لها التأثير الذي تأمله الحكومة الصينية.

والحقيقة أن التقارير الصحفية التي تناولت هذا الموضوع اتسمت بالجهل أو سوء النية، أو بمزيج من الاثنين معا. التقارير الجاهلة، وجدت في الخبر عنوانا مثيرا لافتا للانتباه، ومعظمها في وسائل إعلام عربية، وعبارة عن ترجمة حرفية لتقارير منشورة في صحف غربية. أما التقارير سيئة النية فقد غلفت غرضها بعناوين جذابة وبثت في ثناياها ما قد يبدو أسئلة بينما هي في النهاية تسفيه وتقليل من قيمة حملة التوعية الصينية، ومثال ذلك ما جاء في تقرير ((ذي نيويورك تايمز)) الذي نسب إلى شخص يدعى السيد ليو في زقاق ووداوينغ بوسط بكين قوله: "كيف يمكن للناس العاديين أن يعرفوا شيئا عن أسرار الدولة؟" ولم يفت كاتب التقرير أن يشير إلى وجود ملصقات لحملة التوعية في موقع بناء في هذا الزقاق الذي يقطنه ذلك الرجل. (ملاحظة: بكين بها آلاف الأشخاص يحملون اسم السيد ليو).  

الحقيقة التي يعلمها جيدا كل من يعيش على أرض الصين هي أنه صار من المألوف رؤية الأجانب في كافة مدن الصين الكبيرة والصغيرة، وأن الصين يأتيها يوميا الآلاف من الأجانب سواء للعمل أو الدراسة أو التجارة أو لأغراض أخرى. وقد لا يعلم البعض أنه حتى قبل سنوات قليلة، لم يكن يسمح للأجانب بالسكن إلا في مناطق سكنية محددة من قبل الحكومة في وقت لم يكن يدخل الصين أجنبي إلا عبر جهة رسمية للعمل في أماكن معينة، ولم يكن من السهل اختلاط الصينيين بالأجانب. الأمر يختلف حاليا، فقد ألغيت قيود السكن للأجانب ولم يعد اندماج الأجانب في حياة الصينيين أمرا صعبا.

أما عن سؤال كاتبة تقرير ((ذي نيويورك تايمز)) لماذا الأجانب، ولماذا الفتيات الصينيات؟ فإجابته البسيطة لا يمكن أن تكون غائبة عن إدراكها، ذلك أن الرجل الأجنبي، والغربي تحديدا، مازال يمثل بالنسبة للفتاة الصينية الثراء والفرصة لشق طريق النجاح في دولة غربية عندما يأخذها معه إلى هناك. ويستطيع كاتب هذه السطور سرد حكايات طويلة لفتيات صينيات غرر بهن رجال غربيون وباعوا، ولهن وهْمَ اصطحابهن إلى بلاد الغرب من أجل حياة أفضل. لقد كان لافتا، على الأقل بالنسبة لي، أن أجد شبابا من دول غربية أصحاب مهن مربحة في الغرب، يأتون إلى الصين للعمل برواتب متدنية بالنسبة لبلادهم ثم يذهبون ويأتون مرات ومرات. وأتذكر واقعة شاب غربي، اسمه ديفيد، عرفته في بكين التحق بعمل في مؤسسة حكومية صينية وبعد ثلاثة شهور اختفى تماما من دون أن يخبر جهة عمله ومن دون سبب واضح. وقد سألت نفسي: لماذا جاء ولماذا ذهب؟

لقد انتبهت الصين مبكرا للمخاطر التي يمكن أن تلحق بأمنها الوطني من خلال ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية سواء الغربية أو الممولة من الغرب، فوضعت ضوابط صارمة لعملها. كما انتبهت الصين مبكرا أيضا إلى النهج الذي اتبعه الغرب في جمع المعلومات من مختلف دول العالم من خلال ما يسمى بالدراسات الاستقصائية والمسوح الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والاقتصادية، وغيرها، والتي تجعل كل بلد في العالم كتابا مفتوحا وخريطة واضحة المعالم أمام أجهزة المعلومات الغربية.

وعندما صارت الوسائط المتعددة (مالتي ميديا) من أبرز أساليب جمع المعلومات، بفضل الثورة في تقنيات الاتصال والتواصل وشبكة الإنترنت، استطاعت الصين أن توفر شبكة حماية لمواطنيها من خلال ابتكار تقنيات صينية للتواصل الاجتماعي والبحث عبر شبكة الإنترنت. فالصينيون لديهم مدوناتهم الصغيرة التي تعتبر النسخة الصينية من الفيسبوك، ولديهم محرك البحث "بايدو" الذي يغنيهم عن استخدام "جوجل"، ولديهم برامج التواصل، ومنها "ويتشات" التي توفر لهم اختيارات في التواصل تفوق نظيراتها من برامج التواصل الغربية، فضلا عن أن شبكات الاتصالات النقالة والثابتة كلها حكومية. وقد خاضت الصين مواجهات صعبة مع الدول الغربية لكي تحافظ على سلامة أمنها الوطني، ولعلنا نتذكر قرار شركة جوجل بالانسحاب من الصين في عام 2010، إذ تصورت الشركة أنها تستطيع ممارسة ضغوط على الصين، خاصة في ظل حملة غربية ضد الصين بشأن مراقبة الإنترنت.

ويحظى الأمن الإلكتروني باهتمام بالغ من الصين، وقد دعا الرئيس شي جين بينغ إلى كشف شامل لمخاطر شبكة الإنترنت لضمان الأمن الإلكتروني، وأشار الرئيس شي في ندوة حول أمن الفضاء الإلكتروني وتكنولوجيا المعلومات عقدت في التاسع عشر من إبريل 2016، إلى إقامة نظام لحماية البنية التحتية للمعلومات فى مجالاتٍ مثل المالية والطاقة والاتصالات والنقل، وتأسيس آليات موحدة وفعالة للإبلاغ عن المخاطر وتبادل المعلومات. وأوضح الرئيس أن منع الوصول إلى الإنترنت ليس السبيل الصحيح لإدارة الإنترنت. وقال: "الصين لا يمكن أن تغلق أبوابها أمام العالم ولن تفعل ذلك. نرحب بشركات الإنترنت الأجنبية طالما أنها تلتزم بقوانين الصين ولوائحها." وأكد على أن الفضاء الإلكتروني النظيف والصحي في مصلحة الشعب، في حين أن الفضاء الذي يتسم بالخطأ والمخاطر ليس في مصلحة أحد. الأهم من ذلك أن السيد شي قال بوضوح إن أي دولة لا يمكن أن تسمح باستخدام الفضاء الإلكتروني ضد نظامها أو في تغذية التطرف الديني أو النزعات الانفصالية أو العنف، أو أن يمتلئ بالإباحية والدعوات المثيرة للكراهية.

خلاصة القول، إن الصينيين يضعون أمن وسلامة بلادهم في المقام الأول، وعندما يحذرون من "الغرام الخطير"، يعرفون جيدا ما يفعلون، بغض النظر عما قد يراه الآخرون. الرسالة هي، انظر في داخلك وإلى ما يحقق مصالحك ولا تجهد عنقك بالالتفات إلى هناك، أقصد صوب الدول الغربية.