زيارة الرئيس الصيني لمصر.. انطلاقة حقيقية نحو الشراكة الاستراتيجية
يوماً تلو الآخر تثبت الصين لنفسها وللعالم أجمع أنها دولة محورية، تتخذ من ثلاثية الشراكة والتنمية والسلام، أسسا جوهرية لإقامة علاقاتها الدولية وسبلاً حقيقية لمجابهة المخاطر والتحديات التي تواجه شركائها في المجتمع الدولي. وفي هذا السياق جاءت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لمصر خلال الفترة من العشرين إلى الثاني والعشرين من يناير 2016، بعد زيارتين رئاسيتين مصريتين؛ الأولى في ديسمبر 2014 والثانية في سبتمبر 2015، لترجمة اتفاق "الشراكة الاستراتيجية الشاملة"- التصنيف الأعلى للعلاقات الصينية الخارجية- ما يتيح للدولتين رفع سقف علاقاتهما سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيًا، وتنسيق المواقف الإقليمية والدولية إلى برامج عمل حقيقية ووضعها موضع التنفيذ، لاسيما على الصعيد الاقتصادي من خلال إعلان حزمة مالية (منح، قروض، استثمارات) لتنفيذ أقطاب التنمية ذات الجدوى الاقتصادية لمساندة الدولة المصرية في المرحلة الحالية دون أدنى إملاءات أو شروط سياسية.
وسنركز في هذه المقالة على الأبعاد الاقتصادية للزيارة في هذا التوقيت الذي تشهد فيه مصر إجراء عمليات اقتصادية كبرى، وتوحيد الجهود لوضع رؤية موحدة واستراتيجية تنموية وتحديد المشروعات ذات الأولوية والجدوى الاقتصادية، لتحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد المصري وانعاشة من ناحية، وانطلاق قطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة من ناحية أخرى، فبلغة الأرقام تكتسب زيارة الزعيم الصيني لمصر توقيتاً وهدفا ومحتوى أهمية خاصة للبلدين بالنظر إلى ما يلي:
أولا: توقيع الزعيمين حزمة وثائق ومستندات (6 اتفاقيات و11 مذكرة تفاهم و3 عقود تجارية وبرنامج تنفيذي)، لرفع مستوى التعاون إلى الشراكة الشاملة في مختلف المجالات. في مجال التعاون الاقتصادي والفني (اتفاقية)، المساعدات الانمائية خلال ثلاث سنوات قادمة (مذكرة تفاهم)، في مجال الدعم المالي (اتفاقيتان)، في قطاع الكهرباء (اتفاقيتان وعقدان تجاريان)، وفي قطاع الإسكان (مذكرة تفاهم وعقد مشروط)، وفي مجال المناطق الاقتصادية (اتفاقية ومذكرة تفاهم)، وفي المجال البيئي (مذكرة تفاهم)، وفي مجال الطيران المدني (مذكرة تفاهم)، في قطاع التعليم العالي (مذكرة تفاهم)، في المجال الإعلامي (مذكرتا تفاهم)، وفي مجال الاستشعار عن بعد (مذكرة تفاهم)، وفي المجال الثقافي (مذكرة تفاهم)، والبرنامج التنفيذي لاتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة خلال الـخمس سنوات المقبلة، والتعاون في مبادرة الحزام والطريق (مذكرة تفاهم)، فضلا عن إطلاق المرحلة الثانية للمنطقة الصناعية الثانية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس .
ثانيا: بلغت القيمة الإجمالية للمستندات الموقعة حوالي 15 مليار دولار أمريكي (منح، قروض، استثمارات)، منها 200 مليون يوان (30 مليون دولار أمريكي) منح لا ترد، و مليار يوان (152 مليون دولار أمريكي) كمساعدات إنمائية (منح، قروض بدون فائدة) لمشاريع الصرف الصحي والقمر الاصطناعي مصر سات-2 ومركز التدريب المهني بقناة السويس، والباقي قروض حكومية وتجارية منها قرض بقيمة مليار دولار أمريكي للبنك المركزي لتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، وقرض بقيمة ثمانمائة مليون دولار أمريكي للبنك الأهلي، وقرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي لتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع العاصمة الإدارية، وإقامة مشروعات استثمارية صينية بمنطقة قناة السويس بملياري دولار أمريكي، وقروض لقطاع النقل بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي، وللكهرباء بقيمة أربعة مليارات دولار أمريكي.
ثالثا: رافقت الرئيس الصيني بعثة كبيرة من كبرى الشركات الصينية المهتمة بالسوق المصرية (AVEC، TEDA، STATR GRID، ZTN، GAZOUBA، CHINA HAURBOUR.. الخ)، والتي تسعى للاستثمار في المشروعات الجديدة بمنطقة قناة السويس، حيث تعتبر الصين أكبر دولة مستخدمة للقناة، فالسفن الصينية تمثل أكثر من 10% من السفن التي تعبر قناة السويس سنويا، كما أن الشركات الصينية لديها خبرات كبيرة في مجال الموانئ والمشروعات المتعلقة بها. وتكتسب قناة السويس أهمية خاصة في ظل مبادرة الرئيس الصيني لبناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وهو الأمر الذي سيتيح إقامة شراكة بين الشركات المصرية ونظيرتها الصينية، بما ينعكس إيجابا على حجم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
رابعا: تأكيد البرنامج التنفيذي، الذي أعلنه الرئيس شي في خطابه أمام الجامعة العربية، على ترجمة الشراكة الاستراتيجية الشاملة اقتصاديا إلى برامج عمل خلال الخمس سنوات المقبلة، ودعمه لمبادرة بناء "الحزام والطريق" عبر دعم بكين خطط الحكومة المصرية لإنعاش الاقتصاد المصري.
خامسا: إعلان الرئيس الصيني في كلمته التاريخية أمام الجامعة العربية عن تقديم قروض واستثمارات لدول الشرق الأوسط، يمكن أن تستفيد منها مصر، بقيمة إجمالية نحو خمسة وخمسين مليار دولار أمريكي (قروض لدفع العملية الصناعية بقيمة 15 مليار دولار أمريكي لمشاريع البنية التحتية، قروض تجارية قيمتها عشرة مليارات دولار أمريكي للتعاون في مجال الطاقة، قروض تفضيلية بقيمة عشرة مليارات دولار أمريكي، إنشاء صندوقين مع كل من الإمارات وقطر للاستثمارات المشتركة تبلغ قيمتهما الإجمالية عشرين مليار دولار أمريكي." وقد جاء ذلك بعد أسابيع قليلة من حدثين هامين، أولهما: إعلان الرئيس شي في كلمته أمام قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي في جوهانسبرغ في ديسمبر 2015 عن تقديم حزمة مالية تقدر بستين مليار دولار أمريكي خلال الفترة من 2016 إلى 2018 (قروض/استثمارات) لدعم المشروعات التنموية في أفريقيا، تضاف إلى إعلانه عن حزمة مالية تقدر بأربعين مليار دولار أمريكي لتنفيذ مشروعات تنموية في مجال البنية التحتية بالدول الواقعة على طريقي الحرير البري والبحري وذلك بعد توليه مهام الرئاسة في مارس 2013. وثانيهما: قبول مصر- كعضو مؤسس- في بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية خلال عام 2015، ما يتيح لها إمكانية التنويع في التمويل وتعظيم الاستفادة من موارده التمويلية الضخمة التي تقدر بخمسين مليار دولار أمريكي كرأس مال مبدئي. وسيوفر ذلك فرصة قوية لمصر في رفع درجة التنافسية مع البنوك الدولية الأخرى مما يقلل من شروط الاقتراض الدولية ويعزز من تنفيذ المشروعات التنموية المصرية.
ومقارنة ما تقدم بالفترة السابقة (1992- نوفمبر 2014) على توقيع الشراكة الاستراتيجية الشاملة، سنلحظ بكل بساطة مدى محدودية العلاقات الاقتصادية بين البلدين (حجم المساعدات الصينية المقدمة لمصر ومعدل التبادل التجاري ومعدل الاستثمار)، والرغبة الحقيقية الحالية لدى القيادتين في الانتقال نحو الشراكة الشاملة، ودلائل ذلك أن إجمالي المنح والقروض الميسرة المقدمة من الصين لمصر خلال تلك الفترة أقل من خمسمائة مليون دولار أمريكي، ما يضع مصر في المرتبة التاسعة في قائمة حجم المساعدات المقدمة من الصين للدول العربية خلال العام 2014. ولم يكن حجم التبادل التجاري أفضل حالا، حيث بلغ اثني عشر مليار دولار أمريكي تقريبا، منها 5ر11 مليار دولار أمريكي لصالح الصين، وبهذا تعتبر مصر سادس أكبر شريك تجاري للصين من بين الدول العربية. وبالنسبة لمعدل الاستثمار، فإن أكثر من ألف ومائتي شركة صينية تستثمر في مصر أقل من خمسمائة مليون دولار أمريكي فقط.
وتزداد أهمية الزيارة التاريخية للزعيم الصيني أكثر وأكثر كونها تأتي في توقيت تتجه فيه الدولتان الهامتان في المعادلتين الإقليمية والدولية بشكل متصاعد نحو بلورة استراتيجية دولية أكثر وضوحا، قوامها "الانفتاح المتزايد على الخارج" بالانفتاح على النظم الاقتصادية الدولية المختلفة، وزيادة الحضور بشكل يتناسب مع حجمهما في العلاقات الدولية، مع توجه آخر أكثر تسارعا نحو مصادر الموارد الأولية والأسواق الواسعة والاستثمارات الضخمة كوصفة علاج للنهوض بالأداء الاقتصادي، والرغبة في الانفتاح المتبادل بين الجانبين. ورغم تباين موقعهما على سلم التنمية، تواجه الدولتان قضايا تنموية متشابهة، ومنها التأثيرات الاجتماعية لعملية الإصلاح الاقتصادي وتفاوت الدخل بين الأفراد، وتعديل نمط التنمية التقليدي. وقد شرع البلدان في اتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، فالصين توجه ثقل تنميتها إلى المناطق الغربية الأقل تنمية وتتخذ إجراءات لحماية الفئات الاجتماعية الضعيفة وتشن حملة ضارية على الفساد. ومصر اتخذت إجراءات صعبة، ولكنها ضرورية، في قضية الدعم الحكومي للوقود والغذاء ودشنت سلسلة من المشروعات الكبرى التي تخدم المناطق المحرومة من التنمية، كمشروع المليون ونصف المليون فدان والمركز اللوجيستي العالمي للحبوب والغلال في ميناء دمياط، هذا إضافة إلى مشروع إنشاء شبكة جديدة من الطرق ستضاعف طول شبكة الطرق الموجودة حاليا ومنها القطار الكهربائي (السلام- بلبيس- العاشر). ولا شك أنه في ظل تبني الصين استراتيجية "التوجه للخارج" الاستثمارية يمكن أن تكون شريكا فاعلا وقويا في هذه المشروعات.
إضافة إلى ما سبق، تمتلك الصين كذلك أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم وتريد استثماره خارجيا، ويمكن لمصر أن تحصل على جانب منه خاصة وأن سياسة الصين تقوم على التبادل العادل والمتكافئ للمصالح بشكل سلمي.
وللاستفادة القصوى من الزيارة وحزمة التعهدات المالية الضخمة التي أعلنها الرئيس الصيني، سواء في مصر أو خارجها، والتحول من مرحلة التعاون الاستراتيجي حيث محدودية العلاقات إلى مرحلة جديدة تسودها الشراكة الاستراتيجية الشاملة، ورفع سقف التعاون على كافة الأصعدة حيث التوسع والانطلاق والاستثمار المشترك ونقل الصناعات والخبرات والتكنولوجيا، لا بد أن تشكل الحكومة المصرية وحـــدة جـــــديدة تتلاءم والمرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين، تسهر على وضع رؤية استراتيجية لكيفية تعظيم الاستفادة من التعهدات المالية الصينية الضخمة لمصر، وتتابع عن كثب كافة المشروعات التنموية التي سيتم تنفيذها من تلك المساعدات والاستثمارات الصينية للنهوض بالدولة المصرية، على غرار الدول التي استطاعت أن تصبح تجربة يحتذى بها ونموذجا يستدعى في أي اجتماع أو مؤتمر أو محاضرة عن كيفية بناء الدولة، وفقا للظروف المصرية الاقتصادية والسياسية، مع ضرورة وضع استراتيجية شاملة لتطوير الصناعة المصرية بالاستفادة من التجربة الصينية في إنشاء مناطق صناعية أدت إلى نهضة الاقتصاد الصيني، وتخفيض الجمارك على الواردات والصادرات بين البلدين. ويمكننا تحقيق ذلك من خلال دعم الصادرات المصرية مثلما تفعل الصين، وإنشاء جامعات صينية في مصر، وأخرى مصرية في الصين، فالحكومة الصينية سترحب بذلك، لأنها تريد نشر ثقافتها ولغتها إلى كل دول العالم، وسيستفيد أبناء مصر من معرفة الكثير عن هذا التنين وبناء صداقات ستساعدنا على جذب الاستثمارات لمصر في المستقبل.
كما على الجانب المصري أيضا الجدية في التعامل مع نظيره الصيني، والالتزام بالتنمية كهدف وطني كما فعلت الصين، والنظر إلى الصين ودراستها بعيون مصرية وليس بعيون أجنبية، وإعطاء "البعد التنموي" أولوية، وترجمة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقعت مع الصين أثناء الزيارة إلى برامج عمل على وجه السرعة.
وأخيرا، آن الأوان أن تؤسس مصر لشراكات تخدم مصلحتها الوطنية وتساعد على تنمية اقتصادية واجتماعية تمكنها من تلبية احتياجات مواطنيها المتزايدة وتطلعاتهم لحياة أفضل. وتأتي الصين في مقدمة الشركاء الواعدين لمصر، يدعم ذلك التاريخ الممتد من الصداقة والتعاون بين البلدين وعشرات الاتفاقات التي تؤهل لانطلاقة حقيقية في العلاقات المصرية- الصينية أبرزها اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة فالأطر القانونية والسياسية متوفرة، ولكن تبقى الحاجة إلى إرادة التفعيل من خلال مشروعات تنموية تخدم مصالح الطرفين وتلبي طموحات الشعبين.
* رؤوف مصطفى، باحث دكتوراه، ومسؤول ملف الصين بوزارة التعاون الدولي المصرية.