ثقافة بكين الساحرة

بكين، وهي واحدة من أكبر مدن العالم، تتميز بثراء ثقافتها العريقة، وتجمع بين المعالم الثقافية القديمة والجديدة، مع تنوع وافر من مصادر الجذب السياحي. ولعل "ثقافة الشارع" و"الثقافة الإمبراطورية" هما أبرز ملامح الثقافة التقليدية في بكين. ثقافة الشارع البكينية تذكرك بفنون العمارة العتيقة، وصنوف الطعام الأصيلة، والمتاجر المكتظة بأنواع شتى من الماركات العريقة، ولهجة البكينيين ومسرحياتهم وآداب سلوكهم عند اللقاء، فضلا عن افتتانهم بتربية الحيوانات الأليفة، وغيرها من المشاهد التي تكشف عن ثراء الثقافة العريقة لعاصمة الصين.

المنازل والأزقة

سيخيوان، أي الدار الرباعية، تجسد نمط العمارة التقليدية الصينية في بناءالبيوت، فيها فناء واسع وممرات ذات أعمدة، وكانت المساكن الأكثر انتشارا في بكين. ويُقال إن بكين منذ أن أصبحت عاصمة لأسرة يوان (1271-1368)، ظهرت فيها في نفس الوقت هذه المنازل إلى جانب القصور والأزقة، فتضفي عوارضها الجسريةالمزخرفة، وأعمدتها الملونة وأفنيتها الهادئةلمسة من الأناقة على هذه المدينة.

دار سيخيوان العتيقة عبارة عن تجمع سكني. وقد اتخذت اسمها من بناياتها التي تكون على شكل مربع يحيط بفناء. الغرفة الرئيسية منها بالجانب الشمالي من الدار، تواجه الجنوب، بينما الجناحان بجانبي الدار الشرقي والغربي تواجهان الفناء. أما البناية المقابلة للغرفة الرئيسية فهي الغرفة الجنوبية تواجه الشمال. تتصل الغرف المنفصلة بممرات مزخرفة بأشكال جميلة. وللحفاظ على الخصوصية، يُبنى عادة جدار حاجب على بوابة الدار وكان يعتقد أنه يحمي الدار أيضا من دخول الأرواح الشريرة. فناء الدار مكان مثالي لزراعة الأشجار مثل الرمان، و العناب، والزهور، مثل الليلك و التفاح الشرقي، فيعبق المكان بعبير الزهور العطرة، كما يكون ظليلا ولطيفا في الصيف ومثمرا بالفواكه الطيبة في الخريف.

الأزقة، التي بلغ عددها حاليا في بكين أكثر من سبعة آلاف، مكان مثالي لاستكشاف ثقافة العاصمة الصينية. هذهالأزقة هي وعاء الثقافة القديمة في المدينة، وشاهدة على التغيرات التاريخية التي مرت بها. جولاتالأزقةتساعد السياح على تكوين فهم أفضل للحياة والتقاليد الشعبية المحلية.

مع الاتجاه إلى الأبنية العصرية، صار عدد البنايات التقليدية في بكين قليلا.في عام 2002، قررتت حكومة المدينة إدراج خمس وعشرين منطقة سكنية ضمن قائمة المناطقة المحمية للثقافة التاريخية. يتضمن كتاب <<سجلات بكين للمنازل التقليدية>> ألف دار من هذه البيوت.

جولات في أزقة بكين

شيتشاهاي: هي منطقة محمية للثقافة التاريخية، تقع في وسط بكين على طابعها القديم. تتميز ببيئة طبيعية رائعة، بفضل البحيرات والممرات المائية التي يطل عليها. عندما يكون الطقس جيدا، يمكن رؤية الصورة المنعكسة على صفحة المياه للتلال البعيدة وأشجار الصفصاف المتأرجحة. تُعرض في سوق شارع ياندايشيجي مشغولات يدوية ومجسمات مختلفة تبهر العيون. وبالإضافة إلى ذلك، يوجد في المنطقة العديد من المواقع التاريخية، مثل قصر الأمير قونغ ومقر إقامة سونغ تشينغ لينغ وبيت مي لان فانغ، فضلا عن برج الجرس والطبل.

نانلوقوشيانغ

 يقع بالقرب من المدينة الإمبراطورية، ويبلغ طوله ثمانمائةمتر، وهو مركز منطقة الأزقة، التي تعتبر نموذجا في حفظ ما كان في عاصمة أسرة يوان العريقة من تنظيم الأزقة. بجانبي الزقاق الشرقي والغربي تصطف، من الشمال الى الجنوب، ثمانية أزقة أخرى بشكل متناسق، حيث الحانات الشعبية التقليدية ومحلات الأزياء الزاهية تضفي سحراوتفرداللمكان. بالإضافة إلى ذلك تقع في الزقاق مساكن قديمة لبعض الفنانين المشهورين، منها مسكن الرسام تشي بايشى، ومسكن الكاتب ماو دون. وفيه أيضا مسرح، كان سابقا مسرح شباب الصين الفني، غالباً ما يعرض مسرحيات درامية تجريبيا.

 ليوليتشانغ

 هو شارع ثقافي شهير، يقع على بعد كيلومتر واحد إلى الجنوب من ميدان تيانانمين. يوجد به عدد من المتاجر تبيعالتحف والأشغال اليدوية وأعمال الخطاطين واللوحات. وهناك بعض هذه المحلات العريقة المشهورة، مثل محل رونغباوتشاي، ومحل داييوشوان.

 دونغجياو مينشيانغ

كان مركزا للدبلوماسية الصينية خلال نحو 700 سنة. يقع أستوديو أدونغ الشهير جدا وعلى نطاق واسع، في الجزء الشرقي من الزقاق. لقد أنتج الاستوديو العديد من الصور المؤثرة في التاريخ، أكثرها شهرة هي سلسلة "النجمة الحمراءفوق الصين" لإدغار سنو. كان فيه أيضا كنيسة والسفارات والبنوك والنوادي الغربية.

المحلات العريقة والوجبات الخفيفة

أسماء المحلات العريقة بالنسبة لمواطني بكين القديمة، ليس فقط نوعية، ولكن أيضا نوعا من التقاليد، مثل مطعم دونغليشون الذي يقدم لحم الضأن المطبوخ في القدر الناري، ومحلتشيوانجيوده للبط المشوي، ومحل ليوبايجو للأطعمة،وتونغرينتانغ للطب الصيني التقليدي. هذه المحلاتالتجارية ليست مجرد رموز للمدينة فقط، بل هي ظواهر ثقافية تجسد التقاليد التاريخية لمدينة بكين.

أسماء المحلات العريقة تمثل نوعية البضائع والحرف اليدوية التي صمدت لقرون أمام المنافسة التجارية. في بكين سبعة وستون محلا عريقا، تعمل أساسا في مجالات الصناعة والتجارة والحرف اليدوية، وخدمات المطاعم والفن الشعبي والثقافة والفنون. وبحسب ما تمليه الثقافة الكونفوشيوسية، تركز هذه المحلات التجارية على نزاهة الإدارة وتقديم جودة عالية لعملائها، وخدمة مثالية ومهارات فريدة من نوعها، إن الثروة الروحية الثمينة هي التي تدعم استمرار وبقاء وتنمية هذه المحلات التجارية.

تونغرينتانغ، محل عريقوشهير للطب الصيني. تمتأسيسه عام 1669. قيل إن الإمبراطور كانغشى في عهد أسرة تشينغ هو ذاته أطلق الاسم على المحل، إذ كان المحل يزود الصيدلية الامبراطورية بالأدوية. محل تونغرينتانغ يتمتع بسمعة جيدة سواء في الداخل أو في الخارج، إذ ظل يلتزم بمبادئه القديمة في صنع الدواء منذ تأسيسه قبل 300 سنة: "لا يجوز التقصير في عملية الصنع وإن كانت معقدة، ولا يجوز تخفيض كمية المواد وإن كانت غالية."

محل وويوتاي، كان في البداية بسطة لبيع الشاي في شارع بيشينتشياو، ثم أصبح أكثر محل شاي ربحا في بكين بعد جهود مبذولة من عدة أجيال. يأتي إليه كثيرون لشراء الشاي بعد أن يقطعوا مسافة بعيدة، ربما يعود ذلك الى أن سعر الشاي الذي يبيعه مناسب للجماهير، وأن أفكاره المرشدة في التجارة صحيحة.

محل نيليانشنغ، تأسس عام 1853، معروف بصناعة الحذاء القماشي. النعل من إنتاجه مصنوع يدويا مئة في المئة، حوالي 81 - 100 غرزة خيط في كل بوصة مربعة منه، وهي موزعة بالتساوي. المحل يسجل أيضا قياسات العملاء ورغباتهم، وذلك إذا ما رغب العميل في شراء كميات إضافية لاحقا، يمكن للمحل تجهيزطلبه وتسليمها له بيسر. لا يزال المحل يحتفظ بتقليد إنتاج الأحذية لأغراض طبية مخصصة وتلبية احتياجات العملاء الخاصة.

تمثل الوجبات التقليدية في بكين تاريخ المدينة وذوقها وثقافتها. يمكن القول إن السائح إذا لم يتجول في أزقة بكين العتيقة أو لم يتذوق وجباتها الخفيفة، فكأنه لم يزر بكين.

في بكين عدد كبير من محلات الأطعمة الخفيفة التي أنشئت منذ قرن، وهي متميزةبالأطعمة المحلية المتنوعة التيتفوح منهانكهات فريدة لقوميات هوي وهان والمغول والمانشو، وكذلك الأطعمة الخفيفة التي كانت تُؤكل داخل البلاط الامبراطوريخلال عهد أسرتي مينغ وتشينغ. تشمل أطعمة بكين أكثر من 200 صنف، بما فيها الأطباق الجانبية، وكعك الشاي، والوجبات الليلية الخفيفة، والتي تختلف في الطعم وأساليب الطهي. أصناف الحلويات الرائعة مثل كعكة البازلاء والفاصوليا الخضراء هي المفضلة لدى السيدات. أما اللحوم المطبوخة أو أحشاء الضأن هي المفضلة لدى الذكور، مع أن الإفراط في تناول كميات كبيرة منها ليس جيدا للصحة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضا للزائر أكلالزعرور البري المغلف بالسكر، والفاكهة المحفوظة وشراب البرقوق واللوز والشاي.

الأطعمة الشهيرة في بكين

البط المشوي

 يشوى البط بواسطةالأفران المعلقة أو الأفران المغلقة. الفرن المعلق صُمم لشواء البط على نار مفتوحة، وقودها الأخشاب الصلبة المأخوذة من الأشجار المثمرة. أما الأفران المغلقة فيشوى البط داخل الفرن المغلق ويتم إنضاج لحمه ببطء عن طريق النار في داخل الفرن وحرارة جدرانه.

أبرز المطاعم في بكين التي تقدم هذا الطبق هي تشيوانجيوده وبيانييفانغ، كلاهمامن المحلات العريقة، يتمتع بأسلوب خاص به: تشيوانجيوده معروف باستخدام الفرن المعلقفي الشواء، بينما بيانييفانغ يستخدم تقنية أقدم وهيالتحميص بالفرن المغلق. هناك العديد من الطرق لأكل البط المشوي، لكن أكثرها شيوعاهي وضع شرائحه على رغيف رقيق مع شرائح البصل وصلصلة طحين القمح، فيُلف الرغيف مع ما عليه ويؤكل، أو وضع شرائح اللحم مع شرائح البصل وصلصلة طحين القمح داخل كعكة بالسمسم.

 الشعرية مع معجون فول الصويا (شعرية تشاجيانغ)

أهالي بكين، وخاصة كبار السن منهم، يستمتعون بتناول الشعرية مع معجون فول الصويا، ويعتبر ذلك من الأطعمة الرئيسية في بكين. يتم غلي الشعرية أولا، ثم يوضع عليها بعض الخضراوات، مثل شرائح الخيار أو شرائح الفجل الصيفي أو براعم فول الصويا، وتؤكل معا بعد خلطها. في أغسطس 2011، تناول نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن هذا النوع من الشعرية في أحد شوارع بكين العتيقة عندما قام بزيارة الصين، فزادت شهرة الشعرية بعد أن انتشر الخبر على مواقع شبكة الإنترنت في الصين.

 هوقوه (القدر الناري)

 يرجع تاريخ استخدام القدر الناري كوسيلة طبخ للحم الضأن وغيره من الأشياء الأخرى، إلىعهد أسرة يوان. وصارت طريقة الطبخ هذه شائعة منذ عهد أسرة تشينغ. كان قد ظهر القدر الناري لطبخ لحم الضأن في مأدبة "الألف شيخ" الامبراطورية، خلال فترة الامبراطورين كانغشى وتشيانلونغ في عهد أسرة تشينغ، ثم انتشر الى المطاعم الحلال في السوق. في عام 1854، أُفتتح مطعم تشنغيانغلو في بكين، وأصبح أول مطعم لقومية هانيقدم مأكولات القدر الناري، حيث كان يُقطع لحم الخروف إلى شرائح رقيقة تشبه الأوراق في سمكها ثم تغلى. في عام 1914، وظّف مطعم دونغليشون الإسلامي طباخي تشنغيانغلو بأجور كبيرة، ليكون المطعم متخصصا في تقديم طبق لحم الضأن باستخدام القدر الناري. وبعد سلسلةمن التحسينات، أصبح دونغليشون مشهورة في هذا المجال.

 وليمةمانتشو- هان

برزت وليمةمانتشو- هان في عهد أسرة تشينغ. وهي وليمة ضخمة للأمة الصينية، وخلاصة من مأكولات قوميتي مان وهان. في البداية، كان يسود الوليمة أطباق شمال شرقي الصين (منشوريا) وتشجيانغ وشاندونغ، وبكين، ثم ظهرت فيها أيضا المأكولات المحلية، مثل أطباق فوجيان وقوانغدونغ وغيرهما. تتألف الوليمة،على الأقل، من 108 طبق من الأطباق الفريدة، وكانت تقدم حصريا للأسرة الإمبراطورية. لا يزال يقدم مثل هذه الوجبات في المطاعم الراقية ولكن بأسعار باهظة.

أوبرا بكين

أوبرا بكين كجوهرة للثقافة الصينية، تحظى بتقديرالمواطنين المحليين. حين تمشي في شوارع بكين، كثيرا ما تسمع مقاطع من أوبرا بكين يتغنى بها السكان المحليون.

نشأت أوبرا بكين بعد أن عرضت فرقة لأوبرا آنهوي في بكين عام 1790 للاحتفال بعيد الميلاد الثمانين للإمبراطور تشيان لونغ في عهد أسرة تشينغ، وتبعتها في العرض فرق ثلاث أخرى للأوبرا. بالتعاون بين فرق أوبرا آنهوي وأوبرا هاندياو من مقاطعة هوبي، ومع تبني تقنيات أداء أوبرا كونتشيو وأوبرا شنشي، فضلا عن استخدام الألحان الشعبية المختلفة، تشكلت أوبرا بكين من خلال عمليات التبادل المستمر والتطوير. وقد تطورت سريعا كفنٍ للبلاط، حتى بلغت ذروة ازدهارها خلال فترة جمهورية الصين (1912- 1949).

وأوبرا بكين فن يجمع فيها "تشانغ" (الغناء حسب الحان معينة) و"نيان" (الحوار ومنولوج الأدوار) و"تسوه" (تمثيل الحركات وتعبيرات الوجه) و"دا" (نزال الووشو بأسلوب الرقص)، ويهتم بكل منها.

خلال 200 سنة من التطوير، أصبحت أوبرا بكين أكثر محلية فيما يتعلق بكلمات الغناء والحوار. وعلاوة على ذلك، تجمع الآلات الموسيقية المستخدمة في هذه الأوبرا خصائص الآلات الموسيقية للقوميات الصينية المختلفة، و دمجت الفن والأدب بطريقة مشابهة للأوبرا الغربية.

عمليات ماكياج الوجه في أوبرا بكين هو فن مبالغ فيه. ويضم اثني عشر نمطا أساسيا من أنماط الوجوه، وكل تصميم يعتبر فريدا من نوعه.وتعبر الألوان المستخدمة في الماكياج عن السمات الشخصية والتي يمكن التعرف عليها بسهولة،اللون الأحمر يدل على الاستقامة والولاء، واللون الأبيض يمثل الشر أو المكر، واللون الأسود يدل علىالصلابة والمصداقية.

الأدوار الرئيسية في أوبرا بكين

بالإضافة إلى الخصائص الطبيعية (نوع الجنس والعمر) والسمات الاجتماعية (الهوية والمهنة)،يمكن تقسيم الأدوار بالاستناد إلى نمط الشخصية، بما في ذلك شنغ،ودان، وجينغ، ومو، وتشو.

شنغ، يجسد دور الذكر دون مكياج الوجه. هذا الدور له أنواع فرعية عديدة، مثل شياوشنغ (الصبي)، ووشنغ (الضابط العسكري الشاب) ولاوشنغ (دور المسن الصارم). هذه الشخصيات تتصرف بلطف ولباقة وترتدي أزياء معقولة.

دان، يشير إلى دور أي أنثى في أوبرا بكين. وتنقسم أدوار دان بالأساس إلى أربعة أنواع فرعية. دور المرأة المسنة لاودان،والمرأة المقاتلة وودان أو داومادان، والمرأة الفاضلة والراقية تشينغيي، والمرأةالمرحة غير المتزوجة هوادان.

جينغ (هواليانهو دور ذكر بوجه ملون. يجب أن يكون للمؤدي صوت قوي، وأن يكون شخصا قادرا على المبالغة في الإيماءات. توجد ثلاثة أنواع رئيسية من الأدوار لشخصية جينغ. منها الدور الذي يعتمد بشكل كبير على الغناء، و الدور الذي يركز بشكل أقل على الغناء والكثير من الأداء البدني، و الدور الذي يركز الحركات القتالية.

 دور موه ظهر في بداية نشوء أوبرا بكين. وكان موه يشبهلاوتشنغ، في وقت لاحق تم دمجه في دور شنغ.

تشو، هو يمثل المهجرين والأذكياء والغدارين والمكارين ومن أصعب الأدوار في أوبرا بكين، بسبب ضرورة امتلاك المؤدي لمزيج من القدرات الهزليةوالبهلوانية والصوت القوي. وتشو بشكل عام مسلية ومحبوبة، فهي تتصفبالقليل من الحماقة. مكياج وجه شخصية تشو يختلف عن شخصية جينغ، حيث بقعة صغيرة بيضاء اللون حول الأنفه.