TPP والاقتصاد الصيني
حددت اتفاقية TPP )الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ) أهدافها الأساسية الطموحة بأنها تحرير التجارة التي تتميز بمعايير الجودة المتقدمة والشاملة في جميع المجالات. وبعد انتهاء مفاوضات تأسيسها، صارت الشراكة عبر المحيط الهادئ تمثل أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم، وتؤثر إلى حد كبير على المساعي الجارية لإعادة هيكلة قواعد التجارة الدولية وإصلاح الإدارة الاقتصادية العالمية. علاوة على ذلك، قد يمتد أثرها بطريقة مباشرة على الصين.
تأثيرها على الاقتصاد العالمي
شملت مفاوضات إنشاء الشراكة عبر المحيط الهادئ تقريبا جميع القضايا المتعلقة بقواعد التجارة الدولية الرئيسية في القرن الحادي والعشرين. من أعضاء هذه الشراكة، الولايات المتحدة الأمريكية- أكبر اقتصاد في العالم، واليابان- ثالث أكبر اقتصاد في العالم، بينما يبلغ عدد سكان البلدان الاثني عشر الأعضاء في هذه الشراكة ثمانمائة مليون نسمة. ويبلغ نصيب هذه الدول من إجمالي الناتج المحلي العالمي ثلاثة تريلوينات دولار أمريكي، أي 40% من الإجمالي العالمي، بينما يبلغ نصيبها من التجارة العالمية 50%، ومن الاستثمارات الأجنبية المباشرة 30%. وسيكون الحجم الاقتصادي لهذه الشراكة الضخمة والمفتوحة والواسعة والمتقدمة في التكامل الإقليمي، له تأثيرات كبيرة وبعيدة المدى على التعاون الاقتصادي في كل من منطقتي آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك بقية التجمعات الاقتصادية الأخرى في مختلف مناطق العالم.
على الصعيد الإقليمي، ستسهم الشراكة عبر المحيط الهادئ في تعزيز التنمية الاقتصادية المتعمقة وتوسيع العلاقات التجارية فيما بين الدول الأعضاء، وأيضا ستعزز التعاون الاقتصادي والتكامل بين منطقتي آسيا والمحيط الهادئ. أما على الصعيد العالمي، ستؤثر هذه الشراكة إلى حد كبير في إعادة هيكلة قواعد التجارة الدولية الحالية، وجهود إصلاح الإدارة الاقتصادية العالمية. الأهم من ذلك، أنها سوف تلعب دورا رقابيا على حكومات الدول الأعضاء على صعيد أدائها الاقتصادي، وذلك من أجل ضمان تنشيط القطاع الخاص وتسريع تحقيق الحرية وإدارة اللامركزية وتعدد الأقطاب في الاقتصاد العالمي.
وعلى ذلك، يجب أن نتذكر أن الشراكة عبر المحيط الهادئ هي اتفاق للتجارة الإقليمية، تسري بنوده على وجه التحديد على دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولذلك فإنه يجب أيضا أن تتفاعل هذه الشراكة وتؤسس علاقات مع سائر اتفاقات التجارة الحرة المؤثرة، مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، واتفاقية التجارة الحرة لآسيا والمحيط الهادئ.
أثرها السلبي على الصين
مما لا شك فيه أن إقصاء الصين من TPP، له آثار سلبية تتمثل في ما يلي:
أولاً، ستحدث الشراكة عبر المحيط الهادئ تحولات في التجارة والاستثمار الدوليين، وسيكون لذلك بعض التبعات السلبية على الاقتصاد الصيني، حيث ستتأثر التجارة الخارجية للصين. كما أن مستويات هذه الشراكة المتقدمة سوف تُحدث صدمة في نظام التجارة الحالي والقواعد المتبعة، ومن ناحية أخرى ستدفع أيضا الانفتاح الصيني في المجالات المختلفة. وبشكل عام فإن قواعد المنشأ في نظام الشراكة عبر المحيط الهادئ، ستضيق سوق الصادرات الصينية ويقلص الاستثمار الأجنبي المباشر، وبالتالي سيُلحق الضرر بالاقتصاد الصيني. وتبين الدراسات المعنية، أن الشراكة عبر المحيط الهادئ ستضُر، بشكل عام، ببر الصين الرئيسي، هذا إذا وضعنا في اعتبارنا أن معظم الشركات في الصين لم تكمل حتى الآن عمليات إعادة الهيكلة والتحديث، وهذا الأمر ينطبق أيضا على تايوان وهونغ كونغ.
وفي هذا الصدد، أكد تقرير فريق أبحاث بنك الصين في توصياته بأنه إذا لم تنضم الصين إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ مع ست عشرة دولة أخرى، مثل كوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا، فإن الصين ستفقد 2ر2% من إجمالي ناتجها المحلي. ينبغي أن تكون هناك فترة انتقالية لأربع سنوات للانضمام إلى هذه الشراكة، مما يقلل المخاطر. ويتفق هذا الرأي مع الاستنتاجات التي توصلت إليها مجموعة أخرى من الباحثين الاقتصاديين يرأسها بيتر بيتري، والذين ذكروا في تقريرهم أنه إذا انضمت الصين إلى هذه الشراكة، سيزيد الدخل العالمي بـ46ر1 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2025، وستكون حصة الصين من هذا النمو 891 مليار دولار أمريكي أي حوالي 60% من زيادة الدخل العالمي.
ثانيا، سوف تؤثر هذه الشراكة على الوضع الاقتصادي للصين على المستوى الإقليمي. إن جوهر استراتيجية الصين الخاصة بالتعاون الاقتصادي الإقليمي يكمن في التعاون مع المناطق المجاورة والمحيطة بها. الشراكة عبر المحيط الهادئ ربما تؤثر على تطور التكامل في منطقة شرقي آسيا، والتي تعد الصين جزءا منها، وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى بطء تنفيذ استراتيجيتها الخاصة باتفاق التجارة الحرة. وإلى حد ما، ستتأثر التجارة بين الصين واقتصاديات شرقي آسيا الأخرى. وهناك أيضا مخاوف من تعثر جهود التعاون الاقتصادي الإقليمي في آسيا.
الاقتصاد الصيني يمكنه تحمل الضغوط
تستطيع الصين أن تتحمل أعباء الضغوط الناتجة عن الشراكة عبر المحيط الهادئ على اقتصادها على المدى القصير. ويرجع ذلك إلى عيوب جوهرية في هذه الشراكة، وإلى حجم وقوة الاقتصاد الصيني، على الرغم من أن هذه الشراكة قد تشكل ضغوطا على اقتصاد الصين.
أولاً: أن الشراكة عبر المحيط الهادئ الوليدة مازالت بعيدة عن تحقيق أهدافها حتى الآن. هناك اختلافات جمة بين الدول الأعضاء فيها، واعتراضات الدول الأخرى غير الأعضاء على هذه الشراكة. ثانيا: أن هذه الشراكة لا تضم كل القوى الصناعية ذات الوزن، لاسيما أن الصين غير مشاركة فيها. وهذه الشراكة بالتالي تفتقد عددا من المنتجات، وهو ما يجعلها غير مكتملة. ونتيجة لذلك، من الصعب على الشراكة عبر المحيط الهادئ تلبية وتوفير جميع عناصر التجارة. ثالثاً: أن الصين ماضية في تطوير التجارة الحرة الثنائية والمتعددة الأطراف مع الدول الأعضاء في الشراكة عبر المحيط الهادئ، وغيرها من الاقتصادات الرئيسية على حد سواء. المحتويات المتداخلة في التبادل التجاري للصين، سواء على المستويات الثنائية أو المتعددة الأطراف مع دول الشراكة عبر المحيط الهادئ، تؤكد أنه يمكن للصين أن تخفف من وطأة الضغوط التي يمكن أن تنشأ عن هذه الشراكة. وعلينا أن نشير هنا إلى أن نسبة كبيرة من العشرة شركاء التجاريين الكبار للصين خارج عضوية هذه الشراكة؛ مثل الاتحاد الأوروبي، وكوريا الجنوبية، وهونغ كونغ، والعديد من الأسواق الناشئة الأخرى.
باختصار، تقوم TPP على مجموعة من القواعد التجارية ضمن نظام التجارة الحرة. وعلى الرغم من أنها تضع الصين أمام العديد من التحديات، فإنه لن تكون بالضرورة عقبة كأداء في طريق التنمية الصينية. إن الصين، كونها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لا يمكن استبعادها من نظام التجارة العالمية الحرة. وفي هذا الجانب، تحتاج الصين إلى التزام الهدوء والتكيف مع التغيرات، وتحسين إدارتها الاقتصادية، وقوانينها التجارية. وهكذا يمكن أن تكون TPPمفيدة لإعادة الهيكلة وتطوير نمط النمو في الصين.
التكيف مع التغيير
الصين بحاجة إلى التكيف مع التغيرات التي تفرضها TPP، وجعلها فرصة لتعميق الإصلاح وتوسيع الانفتاح.
إن انضمام الصين إلى TPP سيسهم بفعالية في توسيع صادراتها. كما أن الانضمام المبكر لهذه الشراكة سيمكّن الصين من أن يكون لها نفوذ فيما يتعلق بوضع القوانين والقواعد. لكن، وفي سياق الواقع السياسي والاقتصادي السائد حاليا، لا يمكن للصين استيفاء المعايير المتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ في مجالات مثل معايير العمل، وحماية البيئة، وحقوق الملكية الفكرية وغير ذلك. وعلى الرغم من أن الشراكة عبر المحيط الهادئ يمكن أن تشكل ضغوطا وشيكة، فإن انضمام الصين في الوقت الحالي ليس هو الخيار الأفضل لها. لكن ينبغي على الصين، مع ذلك، القيام باستعدادات قبل دخولها هذه الشراكة الاستراتيجية، وأن تتكيف مع مجموعة التغييرات التي قد تنشأ عنها. إن قوانين الشراكة عبر المحيط الهادئ في الواقع تتفق مع جهود الصين نحو إعادة الهيكلة الاقتصادية، وتطوير نمط النمو الذي تتبعه، وتعميق الإصلاحات التي تسعى إلى تحقيقها. من خلال التكييف، يمكن للصين أن تحقق المزيد من الإصلاحات والانفتاح.
لقد ظل الطلب المحلي قوة رئيسية وراء نمو الاقتصاد الصيني. في عام 2014 ارتفع إجمالي مبيعات التجزئة للسلع الاستهلاكية في الصين بنسبة 12% على أساس سنوي، وساهم الاستهلاك المحلي بنسبة 2ر51% في نمو الناتج المحلي الإجمالي. بالأساس نجد أن السياسات الاقتصادية في الصين تستهدف توسيع الطلب المحلي، فهو الحل الأساسي للتغلب على الأثر السلبي للشراكة عبر المحيط الهادئ، كما أن على الصين أن تغير النمط الذي تتبعه في النمو الذي يقوم على التصدير منذ فترة طويلة.
على الصين أيضا أن تُسرع في محادثاتها بشأن اتفاقات التجارة الحرة الثنائية، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ "مبادرة الطريق والحزام"، وبناء منطقة للتجارة الحرة، والتي سوف تعوض الأثر السلبي الناتج عن الشراكة عبر المحيط الهادئ. وفيما يتعلق بالتفاعل الإقليمي، ينبغي أن تعزز الصين التعاون مع اليابان وكوريا الجنوبية، وتُفعّل محادثاتها الثلاثية مع كوريا الجنوبية واليابان لبناء مناطق التجارة الحرة في كوريا الجنوبية. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تتمسك الصين بإطار "10+X" (التعاون بين عشر دول في آسيان وغيرها)، كأساس للعمل المشترك في شرقي آسيا، ويجب أن تُنشِط العمل الجماعي الإقليمي، وتعزز التعاون الاقتصادي الشامل بينها وآسيان من خلال إنشاء منطقة تجارة حرة، وكذلك الأمر بالنسبة لمنطقة شرقي آسيا. كما يجب أن تعمق الصين التعاون في المجالات الوظيفية والفنية، وأن تزيل المعوقات التي تعترض عملية التكامل في منطقة شرقي آسيا.
وينبغي أيضا أن تولي الصين المزيد من الاهتمام لاستراتيجية "العودة إلى آسيا والمحيط الهادئ" الأمريكية. وفي هذا الصدد، ينبغي أن تعزز الصين الاتصالات والحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن التعاون الإقليمي، وتعزيز شفافية السياسات، والسعي إلى تحقيق توافق في الآراء لتسهيل إدارة الخلافات بينهما.
شيانغ آن بوه: باحث في معهد أبحاث المؤسسات التابع لمركز أبحاث التنمية بمجلس الدولة الصيني