العلاقات الصينية- الأمريكية
تشابك المصالح وحدود الاختلافات

يتفق المحللون على أن العلاقة بين بكين وواشنطن هي العلاقة الدولية الأكثر أهمية وتعقيدا وتشابكا في القرن الحادي والعشرين. الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدولة التي تتربع على عرش القوة العظمى في العالم منفردة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في تسعينات القرن العشرين، وجمهورية الصين الشعبية، وهي الدولة التي تصعد حثيثا نحو القمة، بينهما كثير من الاختلاف، وكثير من المصالح المشتركة أيضا. وكما هو الحال في فترات صعود واضمحلال القوى الكبرى عبر التاريخ، فإن محاولات واشنطن عرقلة صعود بكين، وسعي الأخيرة لتجاوز تلك العراقيل صراع طبيعي تحسمه قدرة كل منهما على إدارته بحكمة دون الانزلاق إلى هاوية قد تكلفهما معا، بل والعالم كله، ثمنا باهظا.

وخلال زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من الثاني والعشرين حتى الخامس والعشرين من شهر سبتمبر سنة 2015، بدا واضحا إدراك القيادتين الصينية والأمريكية لأبعاد علاقة البلدين وموقع كل منهما في تلك العلاقة. فقد اتفق الرئيس شي ونظيره الأمريكي باراك أوباما على مواصلة السعي إلى بناء نمط جديد لعلاقات الدول الكبرى بين بكين وواشنطن، وهو المفهوم الذي طرحته الصين مؤخرا ليكون أساسا للعلاقات الصينية- الأمريكية، ويقوم على أساس الاحترام المتبادل والتعاون والفوز المشترك، والحفاظ على التواصل والتبادل الرفيع المستوى بين البلدين، وتوسيع التعاون العملي على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية، ثم والأهم، إدارة الخلافات بطريقة بناءة لتحقيق نتائج ملموسة تحقق مصالح شعبي البلدين وشعوب العالم. وقد أكد الرئيس الصيني في الكلمة التي ألقاها خلال مراسم الاستقبال الرسمية التي أقامها له أوباما في البيت الأبيض، على أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية يمكنهما إحداث تأثير من خلال عملهما معا أكبر من تأثيرهما من خلال جهودهما الفردية، وأضاف: "جئت إلى الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرة لتعزيز السلام ودفع التعاون. ونود العمل مع الجانب الأمريكي لتحقيق أوجه تقدم أكبر في علاقاتنا، وتقديم المزيد من الفوائد لشعبي دولتينا وشعوب العالم بأسره". وقال: "علينا دعم الاتجاه الصحيح المتمثل في بناء نمط جديد للعلاقات بين البلدان الكبرى، والتأكد من أن مفاهيم السلام والاحترام والتعاون صارت تعريفا لعلاقاتنا." وحث السيد شي الجانبين على "تعزيز الثقة الاستراتيجية والفهم المتبادل، واحترام مصالح الآخر ومخاوفه، والاتسام باتساع الأفق بشأن اختلافاتنا وخلافاتنا، وتدعيم ثقة شعبينا في الصداقة والتعاون بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية." وقال: "لا بد أن يعزز البلدان السلام والتنمية في العالم، ويحسنا التنسيق في القضايا الدولية والإقليمية الكبرى، ويبذلا جهودا منسقة للتصدي للتحديات العالمية..النجاح يأتي بالجهود المتفانية، وقد بلغت العلاقات الصينية- الأمريكية نقطة بداية جديدة في القرن الحادي والعشرين."

ويدرك الجانب الأمريكي أهمية وتعقيد العلاقات بين البلدين، وقد عبرت سوزان رايس، مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي عن ذلك بوضوح، في كلمة لها بجامعة جورج واشنطن الأمريكية في الحادي والعشرين من سبتمبر 2015. السيدة رايس أكدت أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ليست لعبة صفرية، وقالت: "نرفض التفكير المختزل والخطاب الكسول الذي يقول إن الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين أمر حتمي، رغم أننا نتعامل مع الصين بشكل حازم فيما يتعلق بموضوعات الخلاف معها. الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة أوباما عمقت الانخراط مع الصين على كافة المستويات، وعظمت التعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك مع مواجهة وتسوية الخلافات. إنها ليست لعبة محصلتها صفر. قدرتنا على تسوية الخلافات أقوى من ذلك". وكشفت المسؤولة الأمريكية أن الرئيسين، شي وأوباما، أمضيا خلال العامين الماضيين ساعات كثيرة في لقاءات رسمية وغير رسمية، بالإضافة إلى الاتصالات الهاتفية والرسائل، لأن الكثير من التحديات الدولية اليوم لا يمكن حلها إلا من خلال التعاون المنسق بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. رايس أشارت إلى تعاون البلدين في مجالات متعددة، مثل تعزيز التجارة الثنائية، والحوارات، والتبادلات بين الشعبين والجيشين، وتعزيز التعاون في الكثير من القضايا العالمية، ومنها المحادثات النووية الإيرانية، ونزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، وأفغانستان، وتغير المناخ، ومكافحة وباء الإيبولا، كما تحدثت عن بعض الموضوعات الخلافية الرئيسية بين الدولتين، ومنها السياسات الاقتصادية للصين، وأمن الإنترنت، والنزاعات البحرية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي وقضية حقوق الإنسان. السيدة رايس أقرت بأنه من الطبيعي أن يكون للصين قدر أكبر في القيادة بما يتفق مع تنميتها الاقتصادية وقدراتها المتنامية، وقالت: "عندما تستثمر الصين في المساعدة على حل المشاكل الإقليمية، ستستفيد الولايات المتحدة الأمريكية والعالم."

ولكن هناك فجوة ثقافية بين الصينيين والأمريكيين، أشارت إليها وزيرة العمل الأمريكية السابقة ألين تشاو في مقابلة صحفية، فقالت: "الأمريكيون لا يفهمون ما يقوله الصينيون... من الجيد أن يذهب الأمريكيون إلى الصين لفهم التاريخ الصيني القديم الممتد منذ آلاف السنين. يمكن للأمريكيين التعلم من ذلك وفهم التفكير الصيني وكذا الفلسفة والثقافة الصينية."

وبلغة واقعية، فإن واشنطن هي أكبر شريك تجاري لبكين، وبكين هي ثالث أكبر شريك لواشنطن، وتؤثر التحولات الاقتصادية في أي منهما على الطرف الآخر. هذا الترابط والتشابك الاقتصادي يمثل سياجا لمجمل العلاقات بين البلدين الكبيرين ويجعلهما يتعاملان مع ملفات الاختلاف والتنافس بقدر كبير من الحنكة والحذر. وواقعيا أيضا، يتعاون البلدان، برغم اختلاف رؤيتهما، في ملفات إقليمية ودولية هامة، لا يمكن لأي منهما أن يهمل الآخر فيها، ومنها على سبيل المثال الملف النووي في شبه الجزيرة الكورية، ومكافحة الإرهاب، والملف النووي الإيراني. وبشكل عام، يكون تشدد كل طرف في التعامل مع القضايا محل الاختلاف مرتبطا بمدى تأثيرها على المصالح الاستراتيجية المباشرة له. وعلى سبيل المثال، فإن مواقف الصين في قضايا مثل الخلافات على الحدود البحرية لها والنزاعات حول جزر بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، مواقف حاسمة، بينما تتسم مواقفها في القضايا غير المرتبطة مباشرة بمصالحها الاستراتيجية وأمنها الوطني بالمرونة والاستعداد للتفاهم، ومن ذلك موقف الصين في القضية الأوكرانية والنزاعات في الشرق الأوسط. ولكن هذه المرونة الصينية تظل في إطار المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية الصينية، وهو رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ونتيجة لذلك، صارت منطقة آسيا- المحيط الهادي الساحة الرئيسية للتنافس الصيني- الأمريكي، الأمر الذي جعل واشنطن تكشف في عام 2010 عن تعديل استراتيجيتها ليكون محورها منطقة آسيا- المحيط الهادئ من خلال طرح ما يسمى بالشراكة عبر المحيط الهادئ ((Trans-Pacific Partnership (TPP))، بهدف تغيير العلاقات الاقتصادية بين دول شرقي آسيا، حتى تتجه لتعزيز تعاونها الاقتصادي مع واشنطن. الشراكة عبر المحيط الهادئ اتفاقية تجارية تم توقيعها في أكتوبر 2015 بعد خمس سنوات من التفاوض، وتضم الولايات المتحدة الأمريكية وإحدى عشرة دولة من الدول المطلة على المحيط الهادئ، ليس من بينها الصين، وعن ذلك قالت مجلة فورشن الأمريكية في السادس من أكتوبر 2015: "إن ترك الصين خارج (TPP) خطأ فادح". وأوضحت المجلة أن الصين استثمرت بحلول نهاية عام 2014 ثمانمائة وسبعين مليار دولار أمريكي في أنحاء العالم، واستثمارات الصين في بنغلادش على سبيل المثال بلغت 8ر3 مليارات دولار أمريكي وفي باكستان 8ر17 مليار دولار أمريكي، أي أكثر من التمويل الذي حصلت عليه البلدان من صندوق النقد الدولي. وهذا يعني، حسب المجلة، أن يكون للصين قول أكبر في الشؤون الاقتصادية والسياسية بالبلدين".

الباحث الصيني رون وي دونغ، بالمعهد الصيني للعلاقات الدولية المعاصرة، يرى أن واشنطن تسعى إلى احتواء الصين من خلال توطيد تحالفاتها العسكرية القديمة مع اليابان وكوريا الجنوبية، كما تعزز علاقاتها مع دول مثل فيتنام وميانمار ولاوس وغيرها من الدول التي لها خلافات مع الصين، لبناء نقاط ارتكاز جديدة للاستراتيجية الأمريكية في منطقة آسيا- المحيط الهادئ. فواشنطن تركز قوتها العسكرية الرئيسية، خاصة قواتها الهجومية الاستراتيجية، في غربي المحيط الهادئ. ومن خلال هذه العملية، فإنها توطد ترتيباتها في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وسنغافورة وغيرها من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعمل على توسيع العمق الاستراتيجي وتعزيز المكانة الاستراتيجية لغوام وجزر هاواي وأستراليا. بعبارة أخرى، صار المحيط الهادئ شبيها للمحيط الأطلسي في فترة الحرب الباردة. على الجانب الآخر، ونظرا لارتباط هذه المنطقة بالمصالح الحيوية للصين، بدأت تحركات بكين لمجابهة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة مبكرا، فمنذ عام 2005 شرعت الصين في إبرام اتفاقيات تجارية مع العديد من الدول المشمولة في الشراكة عبر المحيط الهادي التي تقودها واشنطن، ومنها بروناي، تشيلي، ماليزيا، نيوزيلندة، سنغافورة، بيرو وفيتنام. الأكثر من ذلك أن الصين طرحت في عام 2014 مبادرة إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وبالفعل استضافت بكين في 29 يونيو عام 2015 مراسم التوقيع على اتفاقية إنشاء البنك، الذي رفضته واشنطن وطوكيو. ويقول تشو فنغ، الأستاذ بكلية العلاقات الدولية في جامعة بكين إن واشنطن ترى أن سعي الصين الطبيعي والمعقول لحماية حقوقها محاولة من جانب بكين لتقليص القوة الأمريكية وتحقيق توسع استراتيجي صيني.

بعيدا عن الساحة الرئيسية للتنافس الصيني- الأمريكي تعمد واشنطن إلى عرقلة صعود بكين من خلال إثارة قضايا داخل الصين مثل حقوق الإنسان، إذ لا يخلو تقرير حقوقي أمريكي من انتقاد سجل حقوق الإنسان في الصين، كما تحتضن واشنطن عددا كبيرا من معارضي الحكومة الصينية، ولم يكن دورها خافيا في الاحتجاجات التي شهدتها هونغ كونغ في سبتمبر وأكتوبر 2014، وتدعم واشنطن المجموعات الانفصالية في التبت وشينجيانغ، فواشنطن تفتح أبوابها لزعيم الانفصاليين التبتين الدالاي لاما الرابع عشر، وتدعم زعيمة مؤتمر الويغور العالمي المناهض للصين وتحتضن زعيمته ربيعة قدير، فضلا عن دورها المناوئ لبكين في قضية تايوان. خارجيا، تهاجم واشنطن سياسة بكين في بحر الصين الجنوبي، وتحرض وتدعم دول رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) في نزاعها مع الصين حول السيادة في بحر الصين الجنوبي، وفي قضية بحر الصين الشرقي، أعلنت إدارة أوباما دعمها لليابان في قضية النزاع على جزر دياويوي.

الخلافات الصينية- الأمريكية في قضايا عديدة حول العالم هي تجليات للتنافس بين قوة عالمية صاعدة وقوة أخرى مهيمنة يتقلص دورها ببطء يوما بعد يوم، ولكنها خلافات لا تزال قابلة للاحتواء، كما أنها انعكاس لتباين حقيقي في المفهوم الصيني والمفهوم الأمريكي للنظام العالمي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى دول العالم، ومن بينها الدول العربية أن تعي هذا الاختلاف والتشابك في المصالح والعلاقات الصينية- الأمريكية كي تتخذ المواقف الصائبة المبنية على القراءة الواقعية وليس الانفعالات والتمنيات المضللة.