التبت بعد خمسين عاما من الحكم الذاتي

منطقة التبت الذاتية الحكم واحدة من ثلاث بقاع لم أزرها في الصين. زرت كل مقاطعات ومدن ومناطق الصين، باستثناء التبت ويوننان وتشينغهاي، وكلها تقع في غربي البلاد، ولكن التبت من أكثر مناطق الصين التي ساهمت في أعمال خاصة بها، وتحديدا بالتعاون مع وزارة الثقافة الصينية. ترجمت وراجعت وسجلت بصوتي عددا كبيرا من الأعمال التسجيلية حول التبت.

كانت التبت بالنسبة لي، كما لكثيرين، كيانا يلفه الغموض وتكتنفه الحكايات الأقرب إلى الخيال. قرأت شيئا عنها في ما كتبه الأديب المصري الراحل أنيس منصور في كتابه ((رحلة حول العالم في 200 يوم)). هو لم يزر التبت، وإنما قابل الدالاي لاما سنة 1959، وكتب في جريدة ((الشرق الأوسط)) اللندنية في الحادي والثلاثين من أكتوبر سنة 2007 "تابعت أخباره في كل الصحف في كل الدنيا. فقد استخدمه الأمريكان للهجوم على الصين وللسخرية منها ولإغاظتها وعلموه الإنجليزية ومنحوه جائزة نوبل للسلام!" وكتبت أنا تعليقا على ما كتبه "لا أظن أن الدالاي لاما رجل ساذج، حتى وإن كانت ملامح وجهه تشي بذلك، ولكن الرجل في تقديري يعلم دوره جيدا ويدرك أن سحنته ومظهره وطريقته في الأداء التي توحي بالعفوية هي جزء من الشخصية التي تفتح له الطريق إلى قلوب ناشطي حقوق الإنسان من الممثلاث والممثلين ووجهاء المجتمع الغربي الذين تبهرهم طيبة الدالاي لاما الذي يسعى إلى تحرير شعب التبت، غير مدركين أن أبناء التبت لم يتحرروا من الرق والعبودية إلا بعد مغادرة السيد تنزين غياتسو، المشهور باسم الدالاي لاما الرابع عشر."

بل إن مؤلف رواية "الأفق المفقود" المشهورة، الأمريكي جيمس هيلتون التي صدرت عام 1933، وتدور أحداثها في التبت، لم يزر التبت على الإطلاق وإنما اعتمد على كتابات عالم النبات الأمريكي جوزيف روك الذي عاش في التبت في عشرينيات القرن الماضي.

في خريف عام 1995، وأثناء إجراء الطقوس البوذية المعقدة لتحديد الطفل الذي حلت فيه روح البانتشان لاما العاشر ليكون البانتشان لاما الحادي عشر، وبينما كانت الدوائر البوذية في الصين تقوم بهذه العملية خرج الدالاي لاما ليحدد منفردا طفلا بعينه غير الطفل الذي استقرت عليه القرعة المقدسة لأوساط البوذيين في الصين. في ذلك الوقت، وكنت في بداية رحلتي مع الصين ولم تسربلني بعد روح التسامح الصينية، كتبت مقالة بعنوان "البانتشان لاما الحائر بين الدين والسياسة" حملت شيئا من التهكم على تلك الطقوس البوذية، ولكن نائب رئيس تحرير ((الصين اليوم)) آنذاك قوه آن دنغ اقترح عدم نشرها لأنها تسيء إلى عقيدة البوذيين. السيد قوه لم يكن بوذيا.

يعتقد المؤمنون بالبوذية التبتية أن الشخص عندما يموت لا تموت معه روحه بل تنتقل منه لتستقر في بدن مولود جديد. وعلى هذا الأساس فإن الزعيم الديني البوذي عندما يموت تنتقل روحه إلى شخص آخر لتستمر وتتواصل معه الروح. وأهم شخصية في سلم الزعامة الدينية في البوذية التبتية، التي تسمى أيضا باللامية، هو الدالاي لاما ومن بعده البانتشان لاما، فهما بوذا الحي، أي الجسد الذي يحمل روح بوذا وفقا لتناسخ الأرواح، فعندما يموت الشخص تحل روحه في جسد شخص آخر وتسكنها إلى أن يغادر الجسد تبقى الروح وتنتقل على جسد جديد، وهكذا. بعد وفاة بوذا الحي، سواء الدالاي أو البانتشان، يتم تحديد الشخص الذي حلت به الروح بعد أن فارقها الجسد باتباع سلسلة من الإجراءات المعقدة، من بينها الوصية التي يتركها بوذا الحي قبل وفاته وتتضمن نبوءته بمكان الشخص الذي ستنتقل إليه روحه. وهو لا يذكر اسم المكان صراحة وإنما يشير إلى خصائص ذلك المكان. وإذا لم يترك وصية، يُعتمد في تحديد المكان والشخص على الكهانة والتنجيم. وفقا لتلك الاعتبارات ينتشر رهبان المعبد الذي أقام فيه بوذا الحي قبل وفاته في مختلف الأماكن المحتملة للبحث عن المولود الجديد الذي خرج إلى الحياة بعد وفاة بوذا الحي وسكنت جسدَه الروحُ المتناسخة. البانتشن لاما الحالي، أردني لوسانغ تشامبا لهونتشوب تشويغييجابو تم تحديده في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1995، وفي الثامن من ديسمبر عام 1995، نصبته الحكومة الصينية في حفل كبير أقيم بمعبد تساشيلونبو بمدينة ريكاتسي في التبت، ومنحه مجلس الدولة الصينية شهادة ذهبية وخاتما ذهبيا.

منطقة التبت (شيتسانغ بالصينية)، التي تتمتع بحكم ذاتي إقليمي، تقع جنوب غربي هضبة تشينتسانغ (تشينغهاي-التبت)، وتبلغ مساحتها أكثر من مليون ومائتي ألف كيلو متر مربع، أي واحد على ثمانية من مساحة بر الصين الرئيسي، وهي أقل منطقة كثافة سكانية في الصين، حيث لا تزيد الكثافة عن 1ر2 فرد لكل كيلومتر مربع. لاسا عاصمة التبت، مكان مقدس للبوذيين اللاميين إذ يوجد بها قصر بوتالا الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من 1300 سنة، فكلمة بوتالا في اللغة السنسكريتية الهندية القديمة تعني "الأرض المقدسة للبوذية".

في سنة 1951، أي بعد سنتين من إقامة الصين الجديدة، دخلت القوات الصينية التبت وحررتها، ولكن ظلت التبت خاضعة للنظام الاجتماعي القديم، نظام العبودية، حتى سنة 1959، السنة التي غادر فيها الدالاي لاما التبت وعمره أربع وعشرون سنة. كان النظام الاجتماعي والسياسي في التبت القديمة نظام عبودية إقطاعي ثيوقراطي يجمع بين السلطة الدينية والسياسية، أبرز ملامحه وجود طبقتين؛ السادة والعبيد. كانت طبقة سادة عبيد الأرض تسمى بالحكام الثلاثة الكبار، وتضم عائلات المسؤولين والأرستقراطيين ورهبان المعابد الكبار، وكانوا جميعا يمثلون نحو 5 % من سكان التبت. أما طبقة الأقنان، أي عبيد الأرض، فكانت تضم ثلاثة أنواع من البشر، وتحديدا تشاي با، وتعني المُهمل في عمله، دوي تشيونغ، أي الأسرة الصغيرة، ولانغ شنغ، أي المكفول في البيت، ويقصد به العبد، وكان هؤلاء يمثلون 95% من سكان التبت. كانت فئة دوي تشيونغ هي الأدنى بين العبيد، فهم المنبوذون من فئة تشاي با، ومن أسفلها فئة لانغ شنغ التي كان يسميهم السادة "الحيوانات الناطقة"، وكانوا يقدمونهم هدايا ويبيعونهم مثل البهائم. وكان قانون "دية القتيل" يقسم الناس طبقات ودرجات، تختلف دية قتل كل منهم بحسب اختلاف طبقته، فدية الفرد من الطبقة العليا تكون بقدر وزنه ذهبا، أما دية الفرد من الطبقة الدنيا فتحسب بسعر حبل القش، حسب وزنه. كان حكام التبت يقيمون المحاكم والسجون، وكان الرهبان الكبار والحكام يقيمون السجون الخصوصية التي تُمارس فيها أسوأ أنواع التعذيب من فقأ العين إلى قطع اليد والقدم. لم تكن سجون لاسا تقدم الطعام للمعتقلين، وإنما تكبل أيديهم وأرجلهم بأصفاد وتطلقهم يتسولون طعامهم في الشوارع.

بعد تأسيس الصين الجديدة سنة 1949، قررت الحكومة الصينية تحرير التبت سلميا. وفي فبراير عام 1951 أوفد الدالاي لاما خمسة مبعوثين إلى بكين للتفاوض مع الحكومة المركزية الصينية. وفي الثالث والعشرين من مايو من نفس العام  توصل الجانبان إلى اتفاق حول التحرير السلمي في التبت، وتم توقيع "اتفاقية التحرير السلمي للتبت بين الحكومة الشعبية المركزية وحكومة التبت المحلية"، وهي الاتفاقية المعروفة باسم "اتفاقية البنود السبعة عشر"، والتي حظيت بموافقة وتأييد أبناء التبت. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1951 بعث الدالاي لاما ببرقية إلى الرئيس الصيني ماو تسي تونغ عبر فيها عن موافقته وتنفيذه لهذه الاتفاقية. وفي عام 1954، انتخب الدالاي لاما نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني الأول لنواب الشعب الصيني بينما انتخب البانتشان لاما عضوا باللجنة الدائمة للمجلس. وفي إبريل عام 1956، عُين الدالاي لاما رئيسا للجنة التحضيرية لمنطقة التبت الذاتية الحكم. وفي مارس عام 1959، تم تهدئة التمرد في التبت وبدأ الإصلاح الديمقراطي فيها. وفي سبتمبر عام 1965 تأسست منطقة التبت الذاتية الحكم رسميا.

 

بعد ان أخضعت الحكومة الصينية التبت لسيطرتها أرادت تغيير الوضع الاجتماعي المأساوي في التبت، وتغييره كان يعني هز عرش الأرستقراطيين ورجال الدين في التبت، فعارضوا وتمردوا، لا لشيء إلا لأن العبيد سوف يصيرون أحرارا، متساويين معهم في الحقوق والواجبات.

يمثل أبناء التبت الذين يقطنون منطقة التبت الذاتية الحكم أكثر من 90% من سكان المنطقة. ويوجد كثير من التبتيين يعيشون ويعملون في بكين، وأنا أعرف منهم تجارا كبارا حققوا ثروتهم في عاصمة البلاد. يزرع فلاحو التبت حاليا الأرض التي كانوا يعملون بها أجراء وعبيدا في الماضي، بعد أن صاروا سادة لمنطقتهم. لقد بدأت الحكومة الصينية عام 2001 مشروعا طموحا لتحقيق حياة الاستقرار للرعاة الرحل، فأنشأت مستوطنات لهم، وبالفعل ودع الرعاة نمط حياتهم التقليدي ويعيشون حاليا في بيوت مزودة بماء الشرب والكهرباء والصرف الصحي. شقت الحكومة الطرق وربطت أوصال التبت ببعضها، بل ربطت التبت بالعالم عبر مشروع إنشائي هو الأول من نوعه في العالم، سكة حديد تشينغتسانغ (تشينغهاي- التبت) التي كلفت الدولة الكثير من الجهد والمال. لقد تغير وجه التبت اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ولكن مع الحفاظ على روح ونكهة تلك المنطقة.

قامت الحكومة الصينية بترميم وتجديد قصر بوتالا المقدس للتبتيين في لاسا بتكلفة ملايين اليوانات، وأقامت العديد من المتاحف التبتية التي تبرز ثقافة هذه المنطقة وأهلها.

وإذا كانت اللغة هي الوعاء الذي يحوي ثقافة أي أمة، فإن الحكومة طورت لغة التبت، وكرست الخبراء والعلماء لترميزها من أجل استخدامها رقميا بالحاسبات الآلية والهواتف النقالة وغيرها. ومنذ تأسيس منطقة التبت الذاتية الحكم، كل القرارات والقوانين التي أجازتها مجالس نواب الشعب على مختلف المستويات، وكل الوثائق الرسمية والبيانات التي تصدرها الحكومات على مختلف المستويات بالتبت والدوائر التابعة لها، تكتب باللغتين التبتية والصينية معا. لقد بلغ ما أنفقته حكومة الصين المركزية في عشر سنوات، من 1980 حتى 1990، على ترميم وتجديد المعابد في التبت أكثر من 300 مليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 4ر6 يوانات).

من حيث العلاقة مع الدلاي لاما، لم توصد حكومة الصين الباب أمامه للعودة إلى التبت، ولكن كمواطن صيني. في 28 سبتمبر سنة 1978، أعرب الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ في حديث لوكالة أنباء أسوشيتد برس، عن إمكانية عودة الدالاي لاما إلى الصين ولكن بصفة مواطن صيني، ولم يحدد دينغ غير مطلب واحد فقط: أن يكون الدالاي لاما وطنيا. واستقبلت الصين في 28 فبراير سنة 1979 ممثلا خاصا للدالاي لاما، والتقى دنغ بنفسه مع الممثل الخاص في 12 سبتمبر من نفس العام، وأوضح له أن"المشكلة الجوهرية تكمن في حقيقة أن التبت جزء من الصين، وهذا هو المعيار الذي نحكم به على ما إذا كانت الأمور تسير في الاتجاه الصحيح أو الاتجاه الخطأ".

وبعد أحداث العنف التي شهدتها التبت في الخامس من مارس 2008، التي اتهمت الحكومة الصينية الدالاي لاما بالتحريض عليها، استقبلت الصين مبعوثين للدالاي لاما في الثالث من مايو من نفس العام وأجرى معهم مسؤولون صينيون محادثات أكدوا فيها على أن الباب مفتوح للحوار مع الدالاي لاما بشرط أن يتخلى عن نشاطاته الانفصالية.

من زاروا التبت مؤخرا أدهشتهم المنطقة بما تشهده من تطور وتنمية. يقول الصحفي المصري سامي قمحاوين مراسل جريدة ((الأهرام)) في الصين، والذي زار التبت في شهر أغسطس 2015: "الناس في الشوارع متباينون فى الشكل، فمنهم من يرتدي الملابس التقليدية للتبت، ومنهم من يرتدي الملابس الغربية الحديثة، وكلهم يستخدمون هواتفهم المحمولة وينشغلون إما باللعب فيها أو بمشاهدة الدراما أو بالتحدث مع آخرين عبر تطبيقات ومواقع التواصل، تماما كما يحدث فى بكين، فكل الواقفين على محطات الأتوبيس أو المترو ستجدهم منشغلين مع هواتفهم كل على حدة. بعض الفتيات يقدن دراجات نارية أتوماتيكية، وفتيات وفتيان يخرجون من مدارسهم والآباء ينتظرون في الخارج. حياة طبيعية في لاسا لا تختلف عن غيرها من المدن الصينية." هذه هي التبت بعد خمسين عاما من الحكم الذاتي.