الصين والحرب العالمية الثانية

احتفال جمهورية الصين الشعبية في الثالث من سبتمبر 2015، بالذكرى السبعين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، يثير قضية الصين والحرب التي يؤرخ لبدايتها في الأول من سبتمبر سنة 1939 وانتهت رسميا في الثاني من سبتمبر سنة 1945، وبلغ عدد ضحاياها القتلى من البشر ما بين خمسين مليونا إلى خمسة وثمانين مليونا. والحقيقة هي أن تلك الحرب بدأت فعليا عندما قامت اليابان بغزو الأراضي الصينية، وتحديدا في مساء الثامن عشر من سبتمبر سنة 1931، عندما نسفت القوات اليابانية المرابطة بشمال شرقي الصين، جزءاً من خط حديدي بمدينة شنيانغ في مقاطعة لياونينغ، واتهمت قوات المقاومة الصينية بارتكاب هذا العمل الإجرامي، واتخذت ذلك ذريعة لغزو شمالي الصين، فاحتلت منطقة شمال شرقي الصين كلها، حيث أقامت اليابان فيها دولة "منشوكو" أي منشوريا، ليبدأ بذلك الحكم الاستعماري الياباني لمنطقة شمال شرقي الصين والذي استمر أربع عشرة سنة. كانت حادثة 18/9 الشرارة الأولى لانطلاق حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، وقرعت طبول الحرب العالمية ضد القوى الفاشية، وقد أنشأت الصين متحفا خاصا في شنيانغ لحادثة 18/9 يحتوي على الكثير من السجلات التاريخية من أهمها الكتاب الذي ألفه وزير الحرب الياباني آنذاك الجنرال جيرو مينامي والضابط الياباني ميزوشيما شوسوكه، وهما من المشاركين في تلك الحادثة، والصادر عن وزارة الخارجية اليابانية، والذي يثبت أن حادثة 18/9 كانت البداية الحقيقية للحرب العالمية الثانية.

كانت الحرب الصينية ضد الغزو الياباني جزءاً هاماً من النضال العالمي ضد الفاشية والنازية، وكانت الصين ساحة المعركة الرئيسية في الشرق. وكما قال الباحث الصيني لي تسونغ يوان، فإن الحرب الصينية ضد الغزو الياباني أضعفت القوات اليابانية، فبعد اندلاع حرب المحيط الهادئ، وضعت اليابان معظم قواتها في المعارك الصينية، فلم تستطع توجيه قوات كبيرة للقتال ضد الاتحاد السوفيتي السابق، الأمر الذي خفف الضغوط عن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

وقد اعترف باحثون غربيون بدور الصين الهام في الحرب العالمية الثانية، فقد نشرت صحيفة ((نيويورك تايمز)) الأمريكية في السابع عشر من أكتوبر عام 2013، مقالة للبروفيسور رانا ميتر أستاذ تاريخ وسياسة الصين الحديثة بكلية الدراسات الشرقية في جامعة أكسفورد البريطانية، بعنوان ((ديون العالم للصين في زمن الحرب))، قال فيها إنه في الوقت الذي تعلن فيه الصين رغبتها في السلام في آسيا، تطرح مطالبتها الحازمة في المياه في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. إن لغة المواجهة تشير بالنسبة لمراقبين كثيرين (وبالنسبة للدول المجاورة للصين في منطقة المحيط الهادئ)، إلى شعور بالاستحقاق المكبوت، النابع من تنامي أهمية بكين في العالم. بيد أن ثمة عاملا قليلا ما نتذكره يلعب دوره، ألا وهو استياء الصين الطويل والدائم من أن مساهماتها في انتصار "الحلفاء" ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية لم يتم الاعتراف به كاملا، ولم تتم ترجمته حتى الآن إلى رأسمال سياسي في المنطقة. إن حرب مقاومة الصين لليابان واحدة من القصص المنسية في الحرب العالمية الثانية. فبرغم أن الصين كانت أول قوة من قوات "الحلفاء" حاربت دول المحور، تلقت استحقاقا عن دورها في مسرح عمليات المحيط الهادئ أقل بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بل والاتحاد السوفيتي، والذي انضم للحرب في آسيا في أغسطس عام 1945. أزيحت المساهمات الصينية جانيا بعد الصراع، باعتبارها قصة غير مريحة في السرد العقائدي المتقن للحرب الباردة.       

      

وقال البروفيسور ميتر: "إن الصين، برغم أنها كانت أشد فقرا وأقل قوة بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية والإمبراطورية البريطانية، لعبت دورا رئيسيا في الحرب. وقد حارب في بورما أربعون ألف مقاتل صيني إلى جانب القوات الأمريكية والبريطانية سنة 1944، فساعدوا في تأمين طريق ستيلول (ليدو) الرابط بين لاشيو وآسام في الهند. وفي الصين نفسها، قهر الصينيون نحو ثمانمائة ألف جندي ياباني.

كان الثمن باهظا، فقد قتل أربعة عشر مليون صيني على الأقل وصار نحو ثمانين مليونا لاجئين خلال فترة الحرب. وكانت الفظائع عديدة، ومذبحة نانجينغ سنة 1937 هي الأكثر فظاعة. ولكن كانت هناك مذابح أخرى ليست أقل قهرا ولكن أقل شهرة.

وعندما انتصرت دول الحلفاء في سنة 1945، تمت مكافأة الصين على مساهمتها في الحرب بمقعد دائم في مجلس الأمن بمنظمة الأمم المتحدة الجديدة، ولكن لا شيء أكثر من ذلك. وبالنسبة للدول الغربية، تحولت الصين، بعد قيام الصين الجديدة سنة 1949، من حليف في زمن الحرب إلى عملاق شيوعي يهددها. أحد النتائج الرئيسية التي لا تزال باقية إلى اليوم هي أن الأعداء القدامى في آسيا لم يبرموا تسوية متعددة الأطراف من النوع الذي حدث في شمال الأطلسي بعد عام 1945، وذلك بتكوين حلف شمال الأطلسي (ناتو) وما صار لاحقا الاتحاد الأوروبي. إن قرار الولايات المتحدة الأمريكية بوضع الصين على الهامش في النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب، الذي هيمنت عليه واشنطن كان معناه أن الصين واليابان لم يوقعا اتفاقية سلام مناسبة، وأنه لسنوات كثيرة تعامل المؤرخون الغربيون مع دور الصين في الحرب العالمية الثانية على أنه دور ثانوي. ولكن مؤخرا، أتاح الانفتاح السياسي الجديد في الصين نفسها ظهور صورة مختلفة لسنوات الحرب. فالحكومة الصينية تسعى إلى دور دولي أكبر من خلال تذكير العالم بفوائد تعاونها في الماضي مع الغرب. هذه المراجعة التاريخية لها نتائج كبيرة بالنسبة لشرقي وجنوبي آسيا اليوم. فإذا كان الدور القيادي الأمريكي في هزيمة اليابان سنة 1945 مازال يبرر الوجود الأمريكي في المحيط الهادئ اليوم، فلماذا مساهمات الصين لنفس الغرض لا تمنحها بعض النفوذ في المنطقة؟

والحقيقة أن الصين، وهي من القوى الكبرى في العالم وكانت مساهماتها وتضحياتها في الحرب العالمية الثانية أكبر بكثير من الدول التي استثمرت نتائج الحرب ووظفتها لخدمة مصالحها الذاتية، تسعى من خلال إحيائها لذكرى مرور سبعين سنة على انتهاء أسوأ حرب عرفتها البشرية ليس فقط إلى تذكير العالم بتضحياتها الكبيرة التي لا يجوز إهمالها، فحسب الباحث الصيني وانغ جيان شيوه، كانت الساحة الآسيوية في الحرب أعنف بكثير من الساحة الأوروبية، فكما كانت ألمانيا تمارس التمييز العنصري والإبادة الجماعية في أوروبا، كانت اليابان الفاشية تقوم بالقتل الجماعي في الصين، حيث قتل الجيش الياباني أكثر من عشرين ألفا من الأبرياء في حادثة مدينة ليويشون وأكثر من ثلاثمائة ألف من السكان الأبرياء في مدينة نانجينغ."

جرائم جيش الغزو الياباني في الصين كبيرة وكثيرة: الأولى، هي سياسة "الفظائع الثلاث" أي الحرق الشامل والقتل الشامل والنهب الشامل، والتي أدت إلى مقتل وإصابة أكثر من خمسة وثلاثين مليون مواطن صيني وتشريد ونزوح أكثر من مائة مليون، وفقا للسجلات الصينية، في وقت كان عدد سكان الصين أربعمائة مليون نسمة. الثانية، هي استعمار الصين واستعباد الصينيين وإذلالهم لمدة أربع عشرة سنة. الثالثة، هي نهب موارد الصين. ما تبغيه الصين هو أن تكون هذه التضحيات والمآسي دروسا من التاريخ تهتدي بها الدول في سياساتها الحالية والمستقبلية. كما أن وثائق الحرب العالمية الثانية، وبخاصة إعلان القاهرة وإعلان بوتسدام، جزء هام من الوثائق القانونية الصينية المرتبطة بوحدة أراضيها وبحقوقها في بحر الصين الشرقي بوجه خاص، حيث تقع جزر دياويوي التي تثير من حين لآخر خلافا وتوترا في العلاقات الصينية- اليابانية.

مثل غيرها من أراضي الصين التي استولى عليها المستعمرون في فترات اضمحلال الحكم الإمبراطوري الصيني، سقطت دياويوي في يد اليابانيين بعد انتهاء الحرب الصينية- اليابانية (1894-1895). وبعد ذلك، سعت اليابان إلى تقنين سيطرتها على دياويوي بإجبار حكومة أسرة تشينغ على توقيع معاهدة شيمونوسيكي غير المتكافئة والتي تخلت فيها حكومة أسرة تشينغ الإمبراطورية (1644- 1911) عن "جزر تايوان والجزر التابعة لها." في سنة 1943، وبينما كانت نيران الحرب العالمية مشتعلة، اجتمع قادة الصين وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ تشيانغ كاي شيك ووينستون تشرشل وفرانكلين روزفلت، في فندق ميناهاوس بالعاصمة المصرية، القاهرة، لمدة أسبوع حيث اتفق زعماء الدول الثلاث على مواصلة الإجراءات العسكرية ضد اليابان للضغط عليها ومعاقبتها  حتى تستسلم بدون شروط. كان الهدف هو تجريد اليابان من كافة جزر المحيط الهاديء التي استولت عليها أو احتلتها منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وإعادة جميع الأراضي التي سلبتها اليابان من الصين؛ مثل منشوريا (شمال شرقي الصين) وفورموزا (تايوان) إلى جمهورية الصين. وصدر بيان بذلك عرف ببيان القاهرة، وتزامن معه صدور نفس البيان في واشنطن ولندن وتشونغتشينغ، التى كانت عاصمة الصين في وقت الحرب العالمية الثانية. وفي السادس والعشرين من يوليو سنة 1945، أصدرت الدول الثلاث "بيان بوتسدام" الذي نص على تنفيذ شروط "إعلان القاهرة". وبتوقيعها وثيقة الاستسلام بعد ذلك بشهر، قبلت اليابان بنود "بيان بوتسدام" الذي أكد على تنفيذ "بيان القاهرة". وقد جاء في نص وثيقة الاستسلام اليابانية ما يلي: "نقبل بأمر من، ونيابة عن، إمبراطور اليابان والحكومة اليابانية والمقر الإمبراطوي الياباني العام بالبنود التي جاءت في إعلان (بوتسدام)".

وهكذا، فإن الصينيين يستندون إلى حقائق تاريخية وقانونية وعسكرية في تمسكهم بحقوق سيادة بلادهم على جزر دياويوي. ولكن تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين لم تسهم في تفعيل بنود بياني القاهرة وبوتسدام؛ ففي سنة 1951، وقعت اليابان والولايات المتحدة الأمريكية معاهدة سان فرانسيسكو، التي وضعت جزر ريوكيو (جزر أوكيناوا حاليا) تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي سنة 1953، وسعت إدارة أوكيناوا المدنية الأمريكية نطاقها الإداري ليشمل جزر دياويوي الصينية والجزر التابعة لها. وفي 17 يونيو سنة 1971، وقعت اليابان والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية استعادة أوكيناوا التي نصت على أن تعيد واشنطن السيادة الإدارية على جزر ريوكيو وغيرها من الجزر، بما في ذلك جزر دياويوي والجزر المجاورة لها، إلى اليابان بحلول الخامس عشر من مايو سنة 1972. وأثناء مفاوضات تطبيع العلاقات بين الصين واليابان في سنة 1972، وتوقيع معاهدة السلام والصداقة الصينية- اليابانية في سنة 1978، اتفق البلدان على تنحية قضية جزر دياويوي ليتم حلها في المستقبل. وأبدت الصين في مناسبات عديدة رغبتها في التوصل إلى اتفاق يحقق المنفعة المشتركة للبلدين. ولكن الحكومة اليابانية قامت في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2012، بشراء جزر دياويوي من مالك تلك الجزر لـتأميمها، وبررت ذلك بخشيتها من قيام حاكم محافظ طوكيو اليميني شينتارو إيشيهارا بشراء الجزر وما قد يترتب على ذلك من تداعيات تزعزع الاستقرار!

إن الصين عندما تحيي ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية تريد أن تقول للعالم إنها دفعت ثمنا باهظا في تلك الحرب، ولا يبنغي للعالم أن يكرر نفس الأخطاء.