الإسلام في جيانغسو- الماضي والحاضر

مع إقامة العلاقات الدبلوماسية وتعمقها بين الصين والدول العربية بعد ولادة الصين الجديدة، خصوصا بعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح في ثمانينات القرن الماضي، يتزايد عدد الأصدقاء العرب الذين يزورون الصين، ما يمنحهم الفرصة للتعرف أكثر على الصين ويرونها بعيونهم. ما يدهش هؤلاء الأصدقاء ليس التنمية الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية التي تشهدها الصين فحسب، وإنما أيضا وضع الإسلام والمسلمين الذين تجاوز عددهم عشرين مليون نسمة في هذه البلاد المتألقة، مقارنة مع الصورة المشوهة التي تروج لها، عن عمد، بعض وسائل إعلام غربية.

على عكس البوذية، التي يتم تصيينها بشكل تدريجي بعد دخولها إلى الصين من الهند، حافظ الإسلام على هويته الأصلية في بيئة الحضارة الصينية التي تسودها الأفكار الكونفوشية والبوذية. وفي نفس الوقت، شهد الإسلام عملية توطين لحماية وجوده وتطوره المستدام، وحقق التعايش المتناغم مع الأديان الرئيسية الأخرى، خلال العصور الإمبراطورية الصينية، حتى أصبح واحدا منها، بينما فشل الدين المسيحي في الانتشار في الصين عدة مرات منذ أسرة تانغ (618م – 907م). كيف حقق الإسلام "معجزته" في التطور المستمر منذ قدومه إلى الصين، وكيف تحول من دين دخيل خاص بالجاليات العربية والفارسية إلى دين يؤمن به كل أبناء عشر قوميات بين 56 قومية في الصين؟ جواب هذا السؤال أطول من أوراقنا القصيرة، ولكن، ربما نجد جزءا منه في استعراض تطور الإسلام في مقاطعة جيانغسو الساحلية في شرقي الصين.

الإسلام في جيانغسو

مقاطعة جيانغسو الواقعة على شاطئ البحر في شرقي الصين، كانت من أوائل المناطق التي استقبلت الإسلام مع قدوم الدعاة والتجار العرب عبر طريق الحرير البحري، منذ أسرة تانغ الإمبراطورية، في فترة شيانتشون (1264م – 1274م) لأسرة سونغ الجنوبية. الشيخ بهاء الدين الذي قيل إنه من أبناء الجيل السادس عشر لآل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، جاء إلى الصين لنشر الدعوة الإسلامية، وإنشاء مدرسة التعليم المسجدي، فأسس مسجد شيانخه (العنقاء) في مدينة يانغتشو، والذي يعد أفضل المساجد الأثرية المحفوظة في جيانغسو. في عام 1368، أصدر الإمبراطور تشو يوان تشانغ، مرسوما ببناء مسجد جديد في مدينة نانجينغ (مسجد جينغجيو حاليا)، تقديرا لإسهامات المسلمين في تأسيس أسرة مينغ الإمبراطورية، مما يشير إلى مكانة الإسلام البارزة في تاريخ الصين القديم.

حاليا، يعيش في جيانغسو حوالي 200 ألف مسلم محلي من أبناء قومية هوي والقوميات الأخرى، إضافة إلى أكثر من 350 ألف مسلم من المغتربين القادمين من أنحاء الصين، وبها أربعة وخمسون مسجدا تنتشر في ثلاث عشرة مدينة بالمقاطعة.

عدد مسلمي جيانغسو يعتبر قليلا، مقارنة مع إجمالي عدد سكان المقاطعة الذي يبلغ نحو ثمانين مليون نسمة، ومقارنة مع عدد مسلمي الصين الذي يجاوز عشرين مليونا. لكن السلف والخلف من أبناء مسلمي جيانغسو تركوا صفحات مضيئة في تاريخ الإسلام بالصين. ومن هنا، لا بد أن نذكر مدرسة جينلينغ التي أقيمت على أرض جيانغسو وقدمت مساهمة عظيمة لتطور الإسلام في الصين، وظلت آثارها عبر العصور حتى يومنا هذا.

مدرسة جينلينغ

بسبب سياسة التوطين الإجبارية للقوميات المسلمة الدخيلة في فترة أسرة مينغ، وسياسة الانعزال القومي في فترة أسرة تشينغ، واجه مسلمو الصين تحديات كبيرة في التكيف مع البيئة السريعة التغير، خصوصا بعد التوطين اللغوي لأبناء المسلمين الصينيين الذين كانوا يتكلم سلفهم العربية والفارسية من دون معرفة بمعاني القرآن والعقائد الإسلامية المكتوبة باللغتين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، بسبب غياب نشاط ترجمة الكتب الإسلامية، لم يكن لدى مسلمي الصين كتب بالصينية حول علوم الدين، مما أدى إلى وجود حاجز في التفاهم بين المسلم وغير المسلم، وتعرض المسلمون لتهم وشكوك من جانب غير المسلمين بين وقت وآخر بسبب عدم معرفة الآخرين بالإسلام. وبعد مئات السنين من دخوله إلى الصين، واجه الإسلام تهديدا غير مسبوق في هذه البلاد الكونفوشية. ولكن لكل عملة وجهين، وكما جاء في الآية الكريمة "ومن كل شيء خلقنا زوجين".

تعتبر منطقة جيانغنان (جنوب حوض نهر اليانغتسي) التي يقع فيها بعض أراضي جيانغسو، موطن النوابغ المثقفين طوال عصر الاختبارات الإمبراطورية. وكان من الطبيعي ظهور دفعة من النوابغ الكونفوشيين بين أبناء المسلمين، في فترتي مينغ وتشينغ، والذين فكروا في كيفية توفيق العلاقة بين الإسلام والكونفوشية، وشرح معاني الإسلام بالأسلوب المألوف لدى الصينيين، فقدر لهم حمل رسالة الإسلام التاريخية، وبدأت حركة "تفسير العلوم الإسلامية بالأفكار الكونفوشية"، التي امتدت من أواخر فترة مينغ إلى بداية أسرة تشينغ.

وعلى عكس مدرستي شنشي وشاندونغ اللتين تبنتا التعليم المسجدي لأبناء المسلمين، كانت حركة "تفسير العلوم الإسلامية بالأفكار الكونفوشية" تهدف إلى ترجمة الكتب العربية والفارسية الإسلامية إلى اللغة الصينية، وتأليف الكتب الإسلامية الصينية، لتوضيح المبادئ الإسلامية بالمفاهيم الكونفوشية. كانت مدينة جينلينغ (مدينة نانجينغ حاضرة جيانغسو حاليا) قاعدة لهذه الحركة، باعتبارها مسقط رأس معظم شيوخ الحركة، فأطلقت الأوساط التاريخية على المشاركين في هذه الحركة اسم "مدرسة جينلينغ". هذه الخطوة لم توفر الموارد الروحية لأبناء المسلمين الذين لا يعرفون العربية والفارسية فحسب، وإنما فتحت أيضا بابا واسعا للتفاهم والحوار بين الإسلام والكونفشوية.

من أبرز شيوخ مدرسة جينلينغ، الشيخ وانغ داي يوي الذي عاش في أواخر فترة أسرة مينغ، والذي يعتبر أول مؤلف يُقدم المزيد من التعريف والتوضيح لمبادئ الإسلام باللغة الصينية. من أهم مؤلفاته، "توضيح الدين الحنيف" و"دائرة المعارف الإسلامية" و"الأجوبة الصحيحة عن الحق". ونقل الشيخ وانغ داي يوي، في المؤلفات الكثير من المعلومات من مختلف المصادر الموثقة لنقد التعاليم الكونفوشية والبوذية والطاوية التي تخالف الإسلام، وصولا إلى توضيح وجهات النظر الإسلامية. وهناك أيضا الشيخ ليو تشي، وهو من مواليد نانجينغ أيضا، وعاش في أوائل فترة أسرة تشينغ، ولكن لا يعرف بالضبط تاريخ ميلاده ولا تاريخ وفاته. يعتبر ليو تشي أبرز عالم إسلامي صيني بعد وانغ داي يوي، ومن فرائد تراجمه المتبقية إلى الآن، "أركان الإسلام وأحكامه"، و"حقائق التصوف في الإسلام" و"سيرة خاتم الأنبياء". شرح ليو تشي في مؤلفاته فلسفة التوحيد الإسلامية مستخدما المفاهيم الكونفوشية والطاوية، وعكس في أعماله منجزات الفلسفة الإسلامية الصينية حينذاك، والتي تعد جزء هاما من الفلسفة الصينية في ذلك الوقت، وقد ترك أثرا بعيد المدى على المسلمين الصينيين، خصوصا في منطقة شمال غربي الصين.

إضافة إلى هذين الشيخين المذكورين، ضمت مدرسة جينلينغ أسماء لامعة، مثل تشانغ تشونغ، وو تشون تشي، وما تشو وغيرهم من المجتهدين.

لقد وفر تراث الفكر الكونفوشي حياة جديدة لحركة تفسير العلوم الإسلامية بالأفكار الكونفوشية، وساهم ذلك في إنقاذ الإسلام من التراجع والتهميش في أواخر فترة أسرة مينغ وبداية أسرة تشينغ. وبأيدي علماء الحركة، تشكل هيكل الأفكار الإسلامية الصينية، من خلال مؤلفاتهم المكتوبة بالصينية والمفعمة بالحكم الإسلامية والكونفوشية، الأمر الذي ترك أثرا بالغا على مجتمع المسلمين الصينيين، وأثرى التراث الصيني في مجال الفلسفة والفكر والتاريخ.

إحياء الثقافة الإسلامية الصينية

بعد مرور قرون على هذه الحركة، انطلقت حركة جديدة في جيانغسو لإحياء الثقافة الإسلامية الصينية. قال الأستاذ مي شوه جيانغ، رئيس الجمعية الإسلامية بمدينة نانجينغ: "مع التطورات السريعة للمجتمع، واجه المسلمون الصينيون دورة جديدة من التحديات من جانبين: الأول، هو التضييق والاختفاء السريع لتجمع قومية هوي في مدن منطقة جيانغنان، فلم يعد السكن في محيط المساجد نمطا ثابتا لمسلمي المدن. والثاني، هو هجرات وتدفقات المسلمين القادمين من منطقة شمال غربي البلاد إلى المنطقة الشرقية للتجارة والعمل. كانت كيفية مراعاة العادات الدينية وتحسين المعيشة في البيئة الجديدة بعد فقدان البيئة المسلمة في مسقط رؤوسهم، قضية لا يمكن تجاهلها."

وبعد تقاعده من منصب رئيس جامعة علوم الإدارة السياسية بمقاطعة جيانغسو، بذل الأستاذ مي شوه جيانغ، وهو عالم مشهور في الدراسات الإسلامية، كل جهوده لإنهاض العلوم الإسلامية في مجتمع مسلمي جيانغسو. قال: "لم تتوقف خطوات سلفنا في توضيح ونشر الإسلام برغم الصعوبات والتحديات. الإسلام دين رحب، نود أن نجد التوازن بين المجتمع المتغير وتطور الإسلام ووراثته. فسلك الله لنا طريقا ممهدا، حيث توجد الجامعات في مدينة نانجينغ، باعتبارها من المراكز الثقافية الصينية، ويعمل فيها عدد كبير من الأساتذة المسلمين في مختلف التخصصات العلمية، خصوصا في العلوم الإسلامية والصينية والاجتماعية. تحت رعاية الجمعية الإسلامية بمقاطعة جيانغسو، والتي تضم شخصيات بارزة في المجالات الدينية والعلمية والسياسية، حان الوقت لجمع الأكفاء المسلمين لدراسة القضايا الجديدة، حتى لا نخيب أمل السلف."

في بداية عام 2015، انطلقت الجمعية الإسلامية بنانجينغ، باعتبارها الشقيقة الكبرى للجمعيات الإسلامية في مدن جيانغسو، كخطوة أولى على طريق حركة جديدة لإحياء الثقافة الإسلامية الصينية، حيث اشترت بناية مدرسة ابتدائية تقع بجانب مسجد جينغجيو، والتي كانت في السابق مدرسة حكومية، وذلك بغرض تشييد معهد ليو تشي للعلوم الإسلامية، لتخليد ذكرى شيوخ مدرسة جينلينغ. سيكون معهد ليو تشي، قاعدة جديدة للقيام بتدريب أئمة المسجد بأفضل الموارد التعليمية، لرفع مستواهم في الدعوة والتبليغ بأحسن فهم للعلوم الإسلامية، إضافة إلى القيام بدراسة القضايا الناشئة في مجتمع مسلمي الصين، والبحث عن طرق لحلها. وفي الوقت نفسه، سيصبح معهد ليو تشي، مركز جيانغسو في التعريف بالعلوم الإسلامية الحقيقية، لغير المسلمين، وإبراز قيمها الثمينة لبناء المجتمع الصيني المتناغم في القرن الجديد.