قناديل الشيخ بهاء الدين ما تشي شين تنير الدرب

في يوم السبت، السادس من شهر شعبان سنة ألف وأربعمائة وثلاث وأربعين للهجرة، الموافق الخامس عشر من يونيو سنة 2013م، احتفل معهد الدراسات الإسلامية في مدينة لينشيا الذاتية الحكم لقومية هوي بمقاطعة قانسو في شمال غربي الصين، بذكرى مرور خمس وثلاثين سنة على إنشائه. تضمن الحفل  سلسلة من الأنشطة، ومنها "ندوة دراسة الفكر التربوي عند الشيخ بهاء الدين ما تشي شين"، وحفل تكريم لخريجي الدفعة الثامنة والعشرين للمعهد. شارك في الحفل أكثر من ألفي شخص، منهم قادة المقاطعة والمدينة وضيوف كرام قدموا من أنحاء الصين، إضافة إلى الخريجين. شاهد الحضور فقرات فنية متنوعة تعكس الإنجازات العظيمة التي حققها المعهد خلال الخمس وثلاثين سنة المنصرمة.

كما يقول مثل صيني: "عندما تعبر النهر على الجسر تذكر الذي بناه" فإن روح الشيخ العلامة بهاء الدين مؤسس المعهد، ظلت ترفرف على أرجاء المعهد بعد أن رحل قبل سنة.

ولد ما تشي شين لأسرة مسلمة في ولاية لينشيا عام 1934م، وأظهر نبوغه وتفوقه في استيعاب العلوم منذ نعومة أظفاره، وكان يدرس على أيدي عدد من المشايخ والعلماء البارزين في عصره.

بدأ يفكر بهاء الدين في ما كان عليه المسلمون في لينشيا من جهل وتعصب وفقر وتخلف، وكان هو فتى يدرس في المسجد. فاجتهد في مطالعة الكتب ومناقشة العلماء والأئمة بحثا عن إجابات للاسئلة التي كانت تدور في ذهنه. تأثر ما تشي شين بأفكار العالم المجاهد الشهيد تشين كه لي، ثم قرأ بعض أعداد مجلة "نضارة الهلال" الثقافية الإسلامية التي كانت تصدرها مدرسة تشنغدا للمعلمين وطالع مقدمة "تاريخ التربية الإسلامية " للعلامة الشيخ محمد مكين ما جيان، فتوسعت مداركه وأيقن بشمولية الإسلام وعموميته وواقعيته ومرونته ووسطيته، ما جعله يتبنى منهجا وسطيا معتدلا في حياته وعمله. لقد وعى الشيخ بهاء الدين أن نمط التعليم الإسلامي المسجدي الذي كان سائدا آنذاك لا يساير العصر الحديث ولا يستجيب لمتطلبات المجتمع الجديد، فعقد العزم على إنشاء مدرسة حديثة لتزويد أبناء المسلمين بالمعارف الحديثة، كي يخدموا الإسلام في الصين ويبنوا وطنهم بكفاءتهم وعلمهم، وحتى يمكنهم من الوقوف على قدم المساواة مع أبناء الوطن من القوميات الأخرى.

انطلاقا من مبدأ " العلم للعمل" الذي آمن به الشيخ الجليل، طفق في عام 1978، في فترة كانت الفوضى مازالت تضرب بأطنابها في أنحاء الصين، يجهز فصولا تعليمية مسائية في بيته، بهدف نشر العقيدة الإسلامية. كان التعليم الإسلامي يتم في المنازل. في البداية، لم يحضر الدروس سوى طالبين وطالبتين. بعد ذلك، استطاع الشيخ بهاء الدين أن يجمع بعض الأموال من التبرعات والهبات من أصدقائه المسلمين، وفتح دورة تعليمية للمسلمين الكبار والصغار في أوقات الفراغ؛ لتدريس اللغة العربية، والعلوم الدينية وغيرها. ثم كتب الله لجهود الشيخ النجاح وشاء أن تكون تلك الفصول المسائية البسيطة نواة لصرح ضخم لنشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية، فأقام الشيخ على أساسها معهد الدراسات الإسلامية في لينشيا، وهكذا نضجت الظروف لولادة أول مدرسة نظامية للمسلمين على أرض لينشيا بعد انتهاء ثورة الثقافة الكبرى (1966- 1976) في أواخر سبعينيات القرن العشرين.

في عام 1986م تلقى الشيخ بهاء الدين بعض المساعدات المالية من أقربائه وتبرعات من المحسنين المهتمين بقضية التعليم الإسلامي، فتمكن من إنشاء بنايات جديدة للمدرسة التي انقسمت منذ ذلك الحين إلى قسمين، أحدهما للبنين، والآخر للبنات. وقد سبق ذلك اجتماع للشيخ بهاء الدين مع بعض الأعيان المحليين المتحمسين لقضية التعليم الإسلامي حيث تشاوروا بشأن مسألة تعليم المسلمين في ظل الوضع السياسي الجديد، فاتفقوا على إنشاء مدرسة خاصة لإعداد الأكفاء المسلمين المتخصصين، وعلى تسميتها باسم "مدرسة اللغتين العربية والصينية"، والتي عرفت في الدول العربية والإسلامية باسم "معهد الدراسات الإسلامية". واجه معهد الدراسات الإسلامية في أيامه الأولى صعوبات عديدة؛ فإلى جانب بناياته المتواضعة، سواء حجرات الدرس أو غرف الإقامة والإدارة، عانى المعهد من نقص الموارد المالية حيث أنه اعتمد كليا على تبرعات المسلمين،كما أن كثيرا من المسلمين الشبان في ذلك الحين لم يدركوا أهمية هذا المعهد الحديث، فلم يرغبوا في الالتحاق به.

 بعد التغلب على كل هذه الصعوبات وتحمل المشقات والصبر الجميل، اعتمدت الحكومة الشعبية في لينشيا في عام 1989مدرسة اللغتين العربية والصينية، كمدرسة ثانوية مهنية. ولكنها لم تحصل على أية مساعدات مالية من الجهات الحكومية، حيث رأت الحكومة، آنذاك، أن تعتمد المدرسة على نفسها في تدبير النفقات واستقدام المعلمين وتدبير مستقبل الخريجين، فأصبحت منذ ذلك الحين أول مؤسسة تعليمية إسلامية أهلية متخصصة فى تعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية ونشر الثقافة الإسلامية فى الصين الجديدة.

في عام 1997م انتقل معهد الدراسات الإسلامية إلى مقره الجديد الذي استغرق بناؤه سنة كاملة بفضل تبرعات المحسنين، والذي يتكون من بناءين منفصلين ، أحدهما للبنين والأخر للبنات، تستوعب كل منهما أكثر من خمسمائة طالب أو طالبة، وبذلك دخل المعهد مرحلة جديدة في تاريخ تطوره.

تخرج في المعهد منذ نشأته ثمان وعشرون دفعة (أكثر من ثلاثة آلاف طالب وطالبة)، والتحق خمسمائة وثمانون منهم بجامعات إسلامية مختلفة في الدول العربية والإسلامية كالمملكة العربية السعودية ودولة الكويت والسودان واليمن ومصر وباكستان وبنغلاديش وماليزيا وتايلاند والإمارات وغيرها. وقد حصل كثير من هؤلاء على درجة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وعادوا إلى الصين للعمل في المجال الإسلامي مساهمين في خدمة الوطن والأمة.وبعضهم الآخر التحقوا بالجامعات الحكومية داخل الصين لمواصلة الدراسات العليا وبعضهم عملوا في وظائف مختلفة في الدوائر الحكومية.

وحاليا يتكون المعهد من قسمين؛ قسم البنين وقسم البنات، حيث بلغ عدد الطلاب والطالبات أكثر من ألف وأربعمائة، ويعمل به مائة وعشرة من المعلمين والمعلمات. يتميز المعهد بالوسائل التعليمية الحديثة، مثل المعمل اللغوي، وحجرة الحاسب الآلي، والمكتبة المركزية الخ ..

لقد ترك الشيخ بهاء الدين تأثيرا عظيما في مجال تعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية، ويمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:

أولا، إجادة اللغتين الصينية والعربية معاً بالنسبة لطلاب العلم في الصين لنشر الفكر والثقافة الإسلامية. حرص الشيخ على إعداد جيل جديد من المسلمين لديهم فهم عميق للعلوم الاجتماعية والطبيعية إلى جانب العلوم الإسلامية الأصيلة، حتى يصبحوا، بعد إتمام دراستهم في المدارس الحديثة، أكفاء متخصصين لقيادة المسلمين في بناء حياة جديدة.

ثانيا، تحسين سلوكيات المسلمين، ورفع قدرتهم في مباشرة النشاطات الاجتماعية وتقديم الخدمات للمجتمع. كرس الشيخ بهاء الدين جهوده لتسليح الطلبة بالقدرة على ممارسة النشاطات الاجتماعية ورفع مستواهم المهني لخلق ظروف أفضل لحياة المسلمين في المجتمع الصيني وتطورهم الذاتي.

ثالثا، مساعدة المسلمين على توارث تقاليد الثقافة الإسلامية وتطويرها. أدرك الشيخ بهاء الدين تعاليم الله إدراكا عميقا، فشقّ طريقا جديدا للتعليم الإسلامي، وحقق الدمج بين التعليم الديني والتعليم القومي والتعليم الاجتماعي، إيمانا منه بأن ذلك يحقق التنمية المتناغمة بين الدين والمجتمع، ويجلب السعادة للمسلمين في دنياهم وآخرتهم.

رابعا: السعي إلى التضامن والاتحاد والدعوة إلى نبذ التعصب المذهبي المذموم، وكذلك الحرص والسعي الجاد لرفع وعي علماء وجماهير المسلمين لمقاومة التعصب المذهبي، عن طريق التعليم الإسلامي والدعوة الصحيحة.

خامسا: الاهتمام بتعليم البنات والبنين معا، فقد وجد الشيخ بهاء الدين أن البنات لم يتمتعن بالمساواة في تلقي التعليم مثل البنين في بعض الحالات، فترك عدد كبير منهن مدارسهن في منتصف الطريق، بسبب الفقر أو الزواج المبكر، بل إن بعضهن لم يجدن فرصة الالتحاق بالمدارس على الإطلاق، لأسباب متعددة، ومنها أن من علماء الصين من لا يرى أو لا يجيز تعليم المرأة. ولكن الشيخ شق في ذلك طريقا صعبا لاقى فيه المعارضة من بعض أئمة المساجد في عصره، وأنشأ قسما خاصا في مدرسته لتعليم البنات.

تعلم كثير من الشبان المسلمين على يد الشيخ بهاء الدين، ومنهم رؤساء ومدراء ومعلمون في المدارس والمعاهد الإسلامية الأهلية في أنحاء البلاد، وأئمة مساجد يقومون بالأعمال الدعوية، ومنهم أصحاب شركات تجارية في المدن الجنوبية، ومنهم مترجمون متمكنون يعملون في الدول العربية، وبعض تلاميذ الشيخ بهاء الدين حصلوا على شهادة الدكتوراه في الجامعات الإسلامية وبعد عودتهم الى الصين يشتغلون بتعليم اللغة العربية في الجامعات الحكومية ويقومون بنشر الثقافة الإسلامية.

لم يؤلف الشيخ بهاء الدين كتابا باللغة الصينية ولكنه قام بترجمة بعض الكتب العربية الى اللغة الصينية ومنها "المسلمون وداء الفرق" للدكتور طلعت محمد عفيف سالم، و"المدرس ومهارات التوجيه" لمحمد بن عبد الله الدويش، و"كيف نؤمن بصفات الله" لمحمد أمين الشنقيطي، و"العمل الاقتصادي من وجهة نظر الإسلام" لرؤوف الشلبي و"مقرر التوحيد" لمحمد بن أحمد الرشيد، وكتب كثيرا من المقالات التي نشرت في المجلات الإسلامية في الصين. وكان الشيخ بهاء الدين يدعو ويشجع المعلمين على ترجمة الكتب الإسلامية وقد تمت ترجمة أكثر من ثلاثين كتابا عربيا إلى اللغة الصينية تحت إرشاده وتأييده.

انتقل الشيخ بهاء الدين إلى جوار ربه في يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر 1433هـ الموافق العاشر من يناير 2012م، عن ثمانية وسبعين عاما، ففجع المسلمون في الصين لوفاته. وقد شهد جنازته أكثر من ثلاثين ألف مسلم.

رحل الشيخ بهاء الدين ما تشي تشين ولكن قناديل علمه تنير لنا الدرب لنتقدم بخطى حثيثة. سيظل الشيخ بهاء الدين حيا في قلوب أبناء معهد الدراسات الإسلامية. وكما يقول الشاعر: الناس صنفان: موتى في حياتهم، وآخرون ببطن الأرض أحياء.

ستبقى مآثر الشيخ بهاء الدين في تعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية خالدة في تاريخ الصين الحديث.