دنغ شياو بينغ "لا تنس من شيد الجسر الذي أتاح لك عبور النهر"

دنغ شياو بينغ
"لا تنس من شيد الجسر الذي أتاح لك عبور النهر"
عبد الرحمن البكري
يقول المثل الصيني:"لا تنس أبداً من بنى الجسر الذي أتاح لك عبور النهر". وأعتقد أن الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ بنى للمليار والثلاثمائة والخمسين مليون صيني الجسر العظيم الذي عبرت به بلادهم إلى الاستقرار والرخاء والتقدم. ولذا فإنهم لا ينسون أبداً للسيد دنغ، مهندس سياسة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي، سجله العظيم من الإنجازات الهائلة التي حاز بها حب واحترام شعبه وأمته وكل العالم.
لقد قال السيد دنغ ذات مرة: "لولا الزعيم الراحل ماو تسي تونغ لقبع الشعب الصيني في غياهب الظلام والتخلف لفترة طويلة من الزمن." ويحق الآن القول إنه بدون دنغ شياو بينغ، ما كان ليتمتع الشعب الصيني بهذا المستوى من الرفاهية ورغد العيش والحياة الأفضل التي يتمتعون بها اليوم.
وحق علينا، بمناسبة مرور عشرين عاما على رحلة دنغ شياو بينغ إلى جنوبي الصين والتي أكد خلالها على عدم النكوص عن الانفتاح الاقتصادي والإصلاح، أن نتذكر رحلة حياته الشخصية التي كانت بمثابة أسطورة من الصعود والهبوط، وطريقا سلكه نحو الرخاء الوطني والمشاركة الكاملة والفعالة في المجتمع الدولي، وبدأ يتشكل على يديه في عام 1978. لقد ترك إرثاً هائلاً وواعداً من الاقتصاد النامي بسرعة الصاروخ على الساحة العالمية، وتحسنا هائلا وملحوظا في مستوى معيشة الغالبية العظمى من أبناء شعبه وشعوب الأرض. كما أن نظريته ببناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ضخت حيوية جديدة في التنمية الاشتراكية وفي عقول الصينيين وفي التنمية الاقتصادية. وإليه يعود الفضل بحكمته وقوته في إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة في المناطق الساحلية، التي تقدم سياسات تفضيلية للمستثمرين والاستثمارات الأجنبية.
يتزامن الاحتفال بمرور عشرين عاما على جولة دنغ الجنوبية التي أكدت السير على طريق الإصلاح والانفتاح، مع إحياء ذكرى مرور خمس عشرة سنة على وفاته، بعد أن أحدث ثورة في الاقتصاد الصيني أدت إلى زيادة الإنتاج الزراعي بمعدلات كبيرة، فقد منح المزارعين الحق في استخدام أرضهم وبيع محصولهم، وأنشأ القطاعين الخاص والجماعي واجتذب استثمارات أجنبية بمليارات الدولارات الأمريكية، محققا أعلى معدل نمو في العالم، وسمح للملايين بالانتقال والبحث عن فرص عمل أفضل، ورفع مستوى دخل مواطني الريف والمدن، وأتاح لغالبيتهم مستوى أفضل من سبل الراحة والرفاهية المادية، ما كان آباؤهم يحلمون بها. أصبح الصينيون يملكون منازلهم وظهرت طبقة من رجال وسيدات الأعمال أصحاب الشركات الخاصة.
امتلك دنغ شياو بينغ الشجاعة والثقة ليعلن أن معيار أي سياسة صحيحة هو ما إذا كانت مناسبة ومواتية لدعم وزيادة نمو القوى الإنتاجية في أي مجتمع اشتراكي، وزيادة القوة الشاملة للدولة الاشتراكية ورفع مستوى معيشة الشعب. وبعد مرور عشرين عاما على جولته الجنوبية لإعادة التأكيد على سياسات الانفتاح والإصلاح، تقف الصين حاليا بين أكبر الدول التجارية محققة أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم، وصل إلى 9% بالمتوسط في السنوات العشرين الأخيرة. وأصبحت الصين ثاني أكبراقتصاد في العالم، مزيحة اليابان عن مكانة ظلت تحتلها لسنوات طويلة، كما أدت هذه السياسات إلى تغيرات جذرية في الصين التي تجتذب استثمارات أجنبية أكثر من أي دولة نامية أخرى في العالم، بل تعد ثاني أكبر دولة في العالم جذبا للاستثمارات الأجنبية بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وتشهد تجارتها الخارجية ازدهارا مستداما حيث بزغ القطاع الخاص الصيني من العدم وتمتع الصينيون بتحسن مطرد في مستوى معيشتهم ونعموا بتنوع غير مسبوق في السلع والمنتجات الاستهلاكية.
ويكمن القول إن الصين، بزعاماتها المتعاقبة بعد دنغ شياو بينغ، مستمرة وسائرة على دربه دون غصب أو إجبار أو قوة، بل باقتناع تام بأن ذلك هو الأصلح، وتلك إحدى سمات عبقرية ذلك الزعيم البعيد النظر الذي تجلت حكمته ورؤيته للمستقبل قبل وفاته بأكثر من ثلاث سنوات في عملية النقل السلمي للسلطة وتسليم القيادة إلى الأجيال التالية الشابة لتحمل من بعده راية الإصلاحات والانفتاح والتنمية من أجل رخاء الشعب الصيني.
لكن يتعين القول إن دنغ شياو بينغ شخصية متحفظة اقتصاديا وإنه تبنى سياسة التخطيط والشركات ذات الحرية المحدودة، بدلا من الخطب والمواعظ السياسية، لزيادة الإنتاج. من أقواله في هذا الشأن: "الحمار بطيء بالتأكيد لكنه من النادر أن يتسبب في وقوع حادثة." وقد تعرض دنغ للإقصاء من السلطة لسنوات، وكان يُنتقد بأنه "صاحب الطريق الرأسمالي". وقد أمضى عامين في بكين في عزلة وحددت إقامته، حتى رد إليه اعتباره في عام 1973 بتوصية من تشو آن لاي، رئيس مجلس الدولة آنذاك. وبعد عام دخل المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني. وقام بعرض آراء الصين وسياساتها الخارجية أمام جلسة خاصة للأمم المتحدة، ثم عانى مجددا من المشاكل السياسية التي أبعدته عن السلطة حتى مايو 1977، حينما حُمل مسئولية التصدي لمعارضي خططه الإصلاحية ورد اعتبار زملائه وأصدر قانونا جديدا لفصل الحكومة عن سياسات الحزب لتدعيم الاستقرار والرخاء والقضاء على البيروقراطية المتفشية وتشجيع الشركات الحرة المحدودة في مجالات الزراعة والصناعات الخفيفة بهدف تحديث دولة متخلفة اقتصاديا.
وقاد دنغ انفتاح الصين على الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ديسمبر من عام 1978 دعم قرارا طال انتظاره بإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، واختارته مجلة "تايم" الأمريكية شخصية العام في تلك السنة. وفي العام التالي أقيمت رسميا العلاقات الدلوماسية بين بكين وواشنطن، وقام دنغ بزيارته التاريخية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلن أن أبواب الصين لن تغلق على الإطلاق مرة أخرى أمام العالم الخارجي.
وعقب تلك الرحلة، انتهجت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح. وبعد خمس سنوات من تبني الإصلاحات الزراعية الجذرية التي بدلت حياة مئات الملايين من المزارعين الصينيين، حول دنغ اهتمامه إلى المدن عام 1984 ومنح استقلالية غير مسبوقة لمدراء الشركات الصناعية ورفع الأجور وسرح أكثر من مليون جندي من الخدمة وحرر أسعار آلاف من السلع الاستهلاكية.
كان دنغ يقول دوما إن اقتصاد السوق ليس مضاربة أو احتكارا لصالح الرأسمالية، لكنه يمكن أن يصبح أداة في صياغة الاقتصاد الاشتراكي.
عندما ننظر إلى ناطحات السحاب ومخازن السلع العامرة بالمدن الصينية، فإنه يصبح من الصعوبة بمكان تخيل هذه الدولة عام 1978 عندما تولى دنغ شياو بينغ قيادتها، وكانت على وشك الإفلاس بعد ثلاثين عاما من تخطيط الدولة المتصلب الذي لا يتسم بالمرونة، لا سيما بعد سنوات الفوضى العشر الخاصة بالثورة الثقافية التي ألحقت أضرارا بالغة بإنتاجها، وخلالها دخلت معظم السلع نظام الحصص وواجه الصينيون ظروفا قاسية بدخول لا تكفي لسد الرمق، وانعزلت الدولة عن الاقتصاد العالمي وانخفض انتاجها فنيا وصار متأخرا حتى عن مثيله في الدول الآسيوية المجاورة بعشرات السنوات.
كذلك لا ينسى الصينيون للسيد دنغ أنه صاحب الفضل في استعادة الصين لسيادتها على هونغ كونغ، بعد 156 عاما من الاحتلال البريطاني لذلك الجزء الغالي من التراب الصيني، ونجاح سياسة "دولة واحدة ونظامان"التي ساعدت بعد ذلك في استعادة جزيرة ماكاو من الحكم البرتغالي بعد أكثر 450 عاما من الاحتلال، وهو ما ييسر التسوية السلمية لقضية تايوان من أجل إعادة توحيد الوطن (الصين).