الصين ستظل محرك نمو الاقتصاد العالمي

حملت وسائل الإعلام الخارجية في الأيام الأخيرة آراء تتوقع انهيار اقتصاد الصين! ولكن الحقيقة هي أن الصين ستظل محركا لنمو الاقتصاد العالمي في المستقبل. هذا ما سنوضحه في هذه المقالة.

تراجع معدل النمو ليس مشكلة في الهيكل الداخلي

استندت توقعات "انهيار" الاقتصاد الصيني إلى حقيقة التراجع المطرد لمعدل نمو الاقتصاد الصيني منذ عام 2010، إذ بلغ 6ر10% في ذلك العام، وتراجع إلى 3ر7% في عام 2014، قبل أن ينخفض إلى 9ر6% في عام 2015، مسجلا أقل معدل نمو للاقتصاد الصيني منذ عام 1990. هذا التراجع في معدل النمو لفترة متواصلة طويلة غير مسبوق منذ أن انتهجت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في عام 1979، ومازالت ضغوط التراجع المطرد كبيرة. الرأي العام يرى أن هذا التراجع المطرد سببه انخفاض فعالية الممتلكات المملوكة للدولة والنسبة العالية للرافعة المالية، وشيخوخة السكان والنمط غير المستدام لدفع النمو بالاستثمار، وغيرها من العوامل المرتبطة بالهيكل الداخلي. وفقا لهذا الرأي، من الصعب تجاوز تلك العوامل ومن ثم فإن انهيار الاقتصاد الصيني لا مفر منه. وقد أدى التذبذب في سوق المال وسوق النقد الأجنبي منذ النصف الثاني لعام 2015، إلى تعزيز الرؤية التشاؤمية حول آفاق الاقتصاد الصيني، واتضح ذلك بجلاء خلال منتدى دافوس الاقتصادي وغيره من المنتديات الدولية.

حقا أن الصين، كونها دولة تشهد مرحلة تحويل لنمط نموها الاقتصادي، لديها العديد من المشكلات الهيكلية التي تحتاج بإلحاح إلى حلول. في عام 2013، طرحت الصين رؤية  تعميق الإصلاح على نحو شامل، بهدف حل تلك المشكلات، كما أن الإصلاح الهيكلي لجانب العرض الذي طُرِح في نوفمبر عام 2015 يهدف أيضا إلى حل تلك المشكلات. بيد أن الأسباب الرئيسية لتراجع معدل نمو الاقتصاد الصيني هي أسباب خارجية ودورية. في عام 2010، كان معدل النمو الاقتصاد لثلاث من دول مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) في نفس مرحلة نمو الصين وهي تحديدا البرازيل والهند وروسيا، 5ر7% و3ر10% و5ر4% على التوالي. في عام 2014، تراجع معدل نمو كل منها إلى 14ر0% و3ر7% و6ر0% على التوالي، وهو وضع يشبه وضع الصين. ولا يمكن القول إن العوامل الهيكلية الداخلية لاقتصاد الصين هي التي أدت إلى تراجع معدل النمو الاقتصادي لتلك الدول الثلاث.  بالإضافة إلى ذلك، بينما كان معدل النمو الاقتصادي عام 2010 لكوريا الجنوبية وسنغافورة ، وهما من الدول ذات الدخل المرتفع والأداء العالي والاقتصاد الموجه للتصدير 5ر6% و2ر15% على التوالي، فإنه تراجع في عام 2014 إلى 3ر3% و9ر2% على التوالي. ولا يمكن القول إن هاتين الدولتين لديهما مشكلات هيكلية كثيرة، ومع ذلك كان تراجع معدل نمو اقتصادهما أشد من الصين في نفس الفترة. العوامل الخارجية والدورية هي التي توضح أسباب تعرض هذه الدول لتراجع معدل النمو في نفس الفترة.

في الحقيقة، ليس من الصعب فهم مظهر الانخفاض العام لسرعة النمو في نفس الفترة، فالنمو الاقتصادي لأي دولة يقوم على ثلاثة عوامل؛ التصدير والاستثمار والاستهلاك. أولا، في الفترة من عام 1979 حتى عام 2013، بلغ معدل الزيادة السنوية للصادرات الصينية 8ر16%، ونظرا لعدم انتعاش الاقتصاد الأمريكي والأوروبي بعد الأزمة المالية العالمية التي بدأت سنة 2008، ظل معدل زيادة استهلاكها متواضعا، ومن ثم تراجع معدل نمو الصادرات الصينية بشدة الى 1ر6% في عام 2014، ثم إلى 8ر1- % في عام 2015، وهذا كان له تأثيره أيضا على الاقتصادات الناشئة الأخرى والاقتصادات المتقدمة الموجهة للتصدير في شرقي آسيا. ثانيا، من أجل مواجهة الأزمة المالية العالمية، اتخذت الصين ودول أخرى في عام 2008 سياسات مالية إيجابية لدعم الاستثمار وزيادة الطلب، وقد أنجزت معظم المشروعات التي أقيمت في ظل تلك السياسات.وفي الوقت الذي لم يعد الاقتصاد العالمي فيه إلى الوضع الطبيعي وتراجع الطلب الخارجي على المنتجات الصينية، فإذا لم تكن هناك مشروعات استثمارية جديدة تحافظ على استقرار معدل النمو، فمن الضروري أن تتراجع نسبة زيادة الاستثمار دوريا. وقد حدث الانخفاض الدوري للاستثمار في كل الدول. ثالثا، في ظل تراجع معدل نمو الصادرات والاستثمار، يصبح الاستهلاك فقط القوة الرئيسية للنمو الاقتصادي. ولأن الصين لم تتأثر بمسألة توظيف الصينيين تأثرا كبيرا، والزيادة السريعة لمتوسط دخل الفرد في المناطق الحضرية والريفية بالصين، ظل معدل نمو الاستهلاك محافظا على نسبة 8%، أما الاقتصادات الأخرى الناشئة والمرتفعة الدخل وذات النسبة العالية للتصدير في شرقي آسيا، فانخفض معدل نمو الاستهلاك فيها مع انخفاض التصدير والاستثمار، فتراجع معدل نموها الاقتصادي بشكل أكبر من الصين. 

فرص جيدة للاستثمار بالصين

بعد مرور ثماني سنوات على اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، مازال من الصعب على الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وغيرها من الدول المتقدمة التي تعرضت لهذه الأزمة تنفيذ الإصلاح الهيكلي الضروري، مثل تخفيض الرواتب وتقليل خدمات الرعاية الاجتماعية وتقليص المديونية وتقليل العجز المالي للحكومة لرفع حيوية الاقتصاد وقدرة التنافس، وربما ستشهد نموا ضعيفا طويل المدى مشابه لما شهدته اليابان بعد  تبخر رغوة سوق العقارات الثابتة وسوق المال في عام 1991، الأمر الذي سيُضعف الطلب الدولي مما يجعل الصين تعتمد في النمو الاقتصادي على الطلب الداخلي أكثر في المستقبل.

طرحت حكومة الصين هدف مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط دخل الفرد في المناطق الحضرية والريفية بحلول عام 2020 على أساس عام 2010، ومن أجل تحقيق ذلك، يجب على الصين أن تحافظ على معدل نمو اقتصادي بين المرتفع والمتوسط، أي أعلى من 5ر6%، خلال فترة الخطة الخمسية الثالثة عشرة (2016- 2020). ونظرا لتراجع معدل نمو الطلب الخارجي، يعتمد تحقيق هذا الهدف على نمو الطلب المحلي الذي يتضمن الاستثمار والاستهلاك. وتتمتع الصين بفرص جيدة في هاتين الناحيتين.

أولا، في جانب العرض، هناك فضاء كبير للارتقاء بمستوى الصناعات. الصين دولة نامية، ورغم أن هناك مشكلة خطيرة نسبيا في قدرة الإنتاج الفائضة في صناعات الحديد والصلب والأسمنت والألمنيوم المنتج بالتحليل الكهربائي وبناء السفن، وأن ارتفاع الأجور أفقد الصناعات التقليدية الكثيفة العمالة ميزتها النسبية، فإن هذه القطاعات تنتمي إلى الصناعات ذات المستوى المنخفض والمتوسط، ويمكن للصين أن تطورها الى الصناعات ذات المستوى المرتفع والمتوسط، وهكذا ستكون فرص الاستثمار متوفرة ونسبة العائد الاقتصادي مرتفعة.

ثانيا، المنشآت التحتية. استثمرت الصين في السنوات السابقة مبالغ كبيرة في قطاع المنشآت البنية التحتية. ولكن معظم هذا الاستثمارات وجهت إلى الطرق السريعة والسكك الحديدية السريعة والمطارات والموانئ التي تربط المدن، ولكن منشآت البنية التحتية داخل المدن، مثل شبكات المترو وشبكة الأنابيب تحت الأرض وغيرهما ما زالت غير مكتملة. بالاستثمار في هذا المجال يمكن تخفيض تكلفة التجارة ورفع الفائدة الاقتصادية وتحقيق عائد اجتماعي واقتصادي مرتفع.

ثالثا، تحسين البيئة. قد ظهرت مشكلات تلوث خطيرة خلال فترة النمو الاقتصادي السريع في الصين، وسوف يحقق الاستثمار في مجال حماية البيئة عائدا اجتماعيا مرتفعا.

أخيرا، التحول الحضري. تحتل نسبة السكان في المدن والبلدات 56% من إجمالي سكان الصين، مقارنة مع أكثر من 80% في الدول المتقدمة. ومع تنمية الاقتصاد الصيني، ستتطور مسيرة التحول الحضري، وستتطلب هذه العملية استثمارات ضخمة في مجالات الإسكان والمنشآت التحتية والخدمات العامة.

كل ما ذكرناه أعلاه فرص استثمار ممتازة تتمتع بعائد اجتماعي واقتصادي مرتفع. ورغم تراجع معدل نمو الاقتصاد، مازال داخل الصين الكثير من فرص الاستثمار، وتلك هي نقطة الاختلاف الأكبر بين الصين باعتبارها دولة نامية، والدول المتقدمة ذات الصناعات والتقنيات الأحدث في العالم، والتي تواجه مشكلة قدرة الإنتاج الفائضة خلال فترة تراجع معدل نمو الاقتصاد، ويصعب عليها أن تجد نقطة نمو تالية. الآن، تتمتع الدول المتقدمة بتقنيات عالية ومتطورة مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد (3D printing) والسيارات الكهربائية، ولكنها صناعات محدودة. أما الدول النامية فهي تتمتع بفضاء أكبر للارتقاء والوصول إلى مستوى نظرائها في الدول المتقدمة في جميع أنواع الصناعات. ثانيا، تتمتع معظم الدول المتقدمة بمنشآت تحتية كاملة، وبعضها يحتاج إلى ترميم أو تحسين المنشآت التحتية القديمة، كما أن وضع البيئة في الدول المتقدمة أفضل نسبيا، وقد أتمت عملية التحول الحضري. في ظل تراجع نمو الاقتصاد، من الخطأ توقع آفاق تنمية الصين وفقا لتجربة الدول المتقدمة، وإنما كما قال رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ في المؤتمر الصحفي لدورتي الصين السنويتين عام 2015: "لاقتصاد الصين إمكانات كبيرة في ظل التراجع." 

ضمانات وافية للاستثمار

بالإضافة إلى الفرص الممتازة للاستثمار، تتمتع الصين أيضا بكثير من الظروف الجيدة للاستثمار.

أولا، تمثل القيمة التراكمية لديون الحكومات على المستوين المركزي والمحلي في الصين أقل من 60% من إجمالي الناتج المحلي، بينما تجاوزت نسبة ديون معظم الدول النامية والدول المتقدمة، 100% من إجمالي الناتج المحلي لكل منها. وللصين مجال أكبر من الدول الأخرى من حيث دعم الاستثمار في المنشآت التحتية باستخدام السياسات المالية. منذ عام 2015،  تسمح وزارة المالية الصينية للحكومات المحلية بإصدار سندات الديون لبناء المدن لاستبدال ديونها المستحقة في البنوك وبنوك الظل. وهذا إجراء ممتاز يعزز دعم الاستثمار في المنشآت التحتية.

ثانيا، ودائع الصينيين في البنوك تعادل نحو 50% من إجمالي الناتج المحلي، ويمكن دفع الاستثمار الأهلي باستخدام السياسات المالية الإيجابية من الحكومة.

ثالثا، إن الاستثمار يحتاج إلى استيراد بعض التقنيات والأجهزة والمواد من خارج الصين باستخدام العملات الأجنبية، والصين لديها احتياطي من النقد الأجنبي يبلغ 3ر3 تيريليونات دولار أمريكي، وتحتل المرتبة الأولى في العالم.

الثلاث نقاط المذكورة سابقا هي أكبر اختلافات بين الصين والدول النامية الأخرى، وتتمتع الدول النامية الأخرى بفرص استثمار كثيرة أيضا، ولكنها كثيرا ما  تعجز عن الاستثمار عندما تواجه ضغوط اقتصادية خارجية والهبوط الدوري، بسبب قيود الحالة المالية للحكومة وانخفاض نسبة الودائع الشعبية ونقص احتياطي العملات الأجنبية. أما الصين، فلا تتعرض لهذه القيود في الاستثمار.

في تقرير عمل الحكومة لعام 2015، قال رئيس مجلس الدولة الصيني إن الصين تتمتع بمجالات وسياسات وإجراءات كثيرة لنمو الاقتصاد، ويجب على الصين أن تدفع الاستثمار الشعبي باستخدام السياسة المالية الإيجابية وتزيد القروض باستخدام السياسات النقدية لدعم الاستثمار الفعال، وأن تحسن هيكل جانب العرض، من أجل خلق فرص التوظيف وضمان زيادة الرواتب وزيادة الاستهلاك. فرغم أن الظروف الخارجية غير جيدة نسبيا، وتراجع معدل نمو الصادرات، مازالت الصين قادرة على تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي بنسبة 5ر6% خلال الخطة الخمسية الثالثة عشرة، اعتمادا على الاستثمار والاستهلاك المحلي، مما يحقق مضاعفة إجمالي الناتج المحلي ومعدل دخل الفرد للسكان في المدن والأرياف على أساس عام 2010 بحلول عام 2020، وتنجز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل، تظل محرك نمو اقتصاد العالم، وتساهم في نمو الاقتصادي العالمي بنسبة أكثر من 30%.

  

لين يي فو، مدير مركز الاقتصاد الهيكلي الجديد بجامعة بكين، والرئيس الشرفي لمعهد  الدولة لبحوث التنمية بجامعة بكين، وكبير اقتصاديين ونائب رئيس البنك الدولي سابقا.