العدد9 سبتمبر(أيلول) 2002
((تاريخ العلاقات الصينية العربية))

 

تأليف: قوه ينغ دهترجمة: ترجمة: تشانغ جيا مين

قوه ينغ(بقية الباب الثاني)قوه ينغ

إبحار تشنغ خه إلى المحيط الهندي والاتصالات الودية بين الصين والبلاد العرب

مما يجدر ذكره في الاتصالات الصينية العربية في عهد أسرة مينغ، هو إبحار تشنغ خه إلى المحيط الهندي (1)، وزياراته التي قام بها نيابة عن حكومة مينغ لبلاد العرب. ولد تشنغ خه عام 1371 (العام الرابع من فترة هونغ وو) في كونيانغ (محافظة جيننينغ حاليا) في إقليم يوننان، وينتمي إلى قومية هوي، وكان اسم عائلته "ما"، واسمه الشخصي سان باو. وقد أكدت دراسات النصوص والوثائق أن عشيرته عشيرة مسلمة تنحدر من شمس الدين والي شيانيانغ (2)، وقد سبق لوالده وجده أن سافرا إلى مكة المكرمة ليحجا إلى البيت الحرام، فعاد كل منهما حاملا لقب الحاج. وفي عام 1382 وقع تشنغ خه أسيرا في يد قوات تشو يوان تشانغ في حملته النهائية التي قضت على العصاة في يوننان، فصرف إلى بيت تشو دي ليكون خادما عنده. وفي الفتنة الداخلية التي شنها تشو دي تحت شعار تصفية البلاد من الفتنة بغية الاستيلاء على العرش سجل تشنغ خه عددا متلاحقا من المآثر السامية، مما دل على مقدرته الفائقة في الشؤون العسكرية والسياسية وجعله يحظى بإعجاب سيده. ولما اعتلي تشو دي العرش رقى تشنغ خه إلى مرتبة خولي. وفي العام الثاني من فترة يونغ له ( 1404) منحه الإمبراطور اسما صينيا- تشنغ- كتبه بخط يده ليتخذه اسم عائلة له. ومنذ ذلك الوقت أصبح اسمه تشنغ خه.

وفي آخر عام من فترة هونغ وو (1368- 1398) بدأ التحريم البحري الصارم يسفر عن عواقب تزداد سوءا. فقد مضت أعوام، والبلدان الأجنبية لا تقدم الهدايا للإمبراطور الصيني، حيث أخذت مكانة الصين الدولية في الهبوط. ولما استولى تشو دي على العرش الإمبراطوري، قرر أن يغير هذا الوضع، فأمر تشنغ خه أن يبحر إلى المحيط الهندي، وهدفه الرئيسي أن يستعيد اتصالات الصين بالبلدان الأفروآسيوية بما فيها البلدان العربية، أو يقيم مثل هذه الاتصالات، ويقضي على فلول الأعداء ليجدد هيبة أسرة مينغ ويعزز سلطته الإمبراطورية وليجلب في الوقت نفسه من البضائع عن طريق التجارة البحرية ما يلبي رغبة الطبقة الحاكمة التي تعيش حياة مترفة، فساعد هذا القرار على التقدم الاقتصادي في ذلك الوقت.

إن الرحلات السبع التي جاب تشنغ خه خلالها المحيط والبحار قد امتدت ثمانية وعشرين عاما من رحلته الأولى التي بدأها من نهر ليوجيا في مدينة سوتشو في العام الثالث من فترة يونغ له إلى أن عاد أسطوله إلى نانجينغ من آخر رحلة في العام الثامن من فترة شيوان ده. إذذاك شهدت الصين تقدما عظيما في مهارات الإبحار، وبلغت مستوى عاليا جدا في الملاحة واستعمال البوصلة، كما حققت تقدما جديدا في صناعة السفن معتمدة على نجاح السلف في هذا المجال. ولقد قال قونغ تشن: "كان الأسطول الإمبراطوري الذي يقوده تشنغ خه يضم سفنا ضخمة لا تضاهيها أية سفن أخرى، ولها أشرعة ومراس لا يقدر على رفعها إلا رجال أشداء يتراوح عددهم من مائتين إلى ثلاثمائة شخص." (3) وكان أسطول تشنغ خه في أيام ذروته يضم أكثر من مائتي سفينة مختلفة الأحجام، يبلغ طول أكبرها 148 مترا بعرض 60 مترا، يستقلها أكثر من 27 ألف شخص، معظمهم جنود وضباط، والبقية تجار ومترجمون وكتبة ومشرفون على الشؤون الخارجية وعلى البوصلة وملاحون أجانب وعمال مراس وصناع عسكريون أو مدنيون وركاب وربابنة وأطباء.. إلخ. وكان بين شحنات سفنه كميات هائلة من الهدايا والبضائع علاوة على المؤن واللوازم اليومية كالغذاء والمياه العذبة والزيت والملح والصلصة المركزة والشاي والشمع..إلخ. وكان هذا الأسطول يشكل مشهدا رائعا وهو يشق طريقه على هدى خريطة تشنغ خه البحرية "بين المياه التي لا حد يفصلها عن السماء، والأمواج تتلاطم كالجبال"، و"يمخر العباب بملء أشرعته البيضاء ليل نهار بسرعة كأنه يمشي في مسلك هادئ" (4).

إن أسطول تشنغ خه، بوصوله إلى شبه جزيرة الهند الصينية وجزر الملايو وشبه جزيرة الهند وجزيرة العرب وسواحل شرقي أفريقيا، قد زار 36 دولة أو قطرا تشمل من الأقطار أو المدن العربية الأحساء وظفار وعدن ومكة المكرمة، ومن الأقطار الأفريقية مقديشو وبراوة.

وما بين العام الرابع عشر (1416) والواحد والعشرين (1423) من فترة يونغ له أوفدت مقديشو ثلاث بعثات إلى الصين أهدت خلالها لأسرة مينغ الأسد وحمار الوحش، وقد أدخلت صورة الأخير في (مجموعة صور الغرائب)) الذي تم تأليفه في فترة شيوان ده  (1426-1436) من عهد أسرة مينغ؛ وزار تشنغ خه بأسطوله مقديشو ثلاث مرات، وصل إليها في المرة الأولى والثانية في زيارة جوابية، وقد حمل معه قطعا من العملة المسكوكة المزهرة هدية من إمبراطور مينغ إلى ملك مقديشو وملكتها (5). وفي الزيارتين المذكورتين، جرت بين الركاب من أهل شانغهاي وسكان مقديشو، اتصالات تجارية مكثفة، حتى إن الصوماليين أطلقوا كلمة (Shanghaining) ، أي أهل شانغهاي، على المنطقة الشرقية من مدينة مقديشو في وقت متأخر رغبة في تخليد ذكراهم (6). ومتحف الدولة بالصومال اليوم لا يزال يحتفظ ببعض القطع من خزف مينغ الصيني التي يقال إنها مما حمله تشنغ خه إلى الصومال في أثناء زياراته إليها، ويحتفظ كذلك بورقة من خريطة ملاحة تشنغ خه في حالة جيدة، وهي منسوخة بيد الفرنسيين(7)، فبقيت هذه الآثار الثمينة شواهد تاريخية قيمة على الصداقة العريقة القائمة بين الصين والصومال. وفي فترة يونغ له (1403-1424) أوفدت براوة أربع بعثات إلى الصين. وفي العام الخامس من نفس الفترة قدم رسل براوة للصين عددا من الجمال العداءة والنعامات السباقة. وقد زارها تشنغ خه ثلاث مرات قابله السكان خلالها بالترحاب، وترك هو فيهم أثرا عميقا حتى إنهم أطلقوا اسمه على إحدى قراهم في وقت متأخر تعبيرا عما كانوا يكنون له من الشوق والحنين. وهذه القرية المسماة تشنغ خه لا تزال قائمة في إحدى ضواحي مدينة براوة حتى اليوم.

وفي العام التاسع عشر من فترة يونغ له (1421) وصل من ظفار وخمس عشرة دولة أخرى إلى الصين "رسل يقدمون فرسا أصيلة ومنتجات محلية، فصدر منا أمر لوزارة المراسم بإقامة ولائم رسمية تكريما لهم" (8). ولما خرج تشنغ خه للمرة السادسة إلى المحيط الهندي في العام نفسه حمله الإمبراطور مراسيم إمبراطورية وأقمشة حرير هدية للملوك والسلاطين، وكان من بين المرافقين له في هذه الرحلة مبعوثون من مختلف البلدان. ولما وصل أسطوله إلى ظفار، قوبل بترحيب حار من السلطان. وفي العام الواحد والعشرين من فترة يونغ له، وصلت من ظفار بعثة ثانية من الرسل. وفي العام الخامس من فترة شيوان ده (1431) خرج تشنغ خه مرة أخرى إلى ظفار بصفة مبعوث صيني، فأوفد سلطان ظفار رسولا إلى الصين، فوصل إلى عاصمتها في العام الثامن من نفس الفترة (1433)، وترك الصين عائدا إلى بلده في العام الأول من فترة تشنغ تونغ (1436)(9).

أما عدن "فأرسلت بعثة بمذكرة ومنتجات محلية إلى البلاط الصيني في العام الرابع عشر من فترة يونغ له (1416)، ولما استأذنت البعثة بالانصراف، أمر الإمبراطور تشنغ خه بأن يسافر مصاحبا أعضاء البعثة وحاملا منه مرسوما وقطعا من العملة المسكوكة المزهرة هدية إلى عدن" (10). وفي العام الخامس عشر (1417) قدمت عدن إلى الصين زرافة وكلبا وأسدا (11). ولما وصل تشنغ خه إلى عدن في زيارة لها للمرة الثانية في العام الخامس من فترة شيوان ده أمر سلطانها (Nasir) (ناصر؟) رجالا من حاشيته بأن يسافروا إلى الصين ليقدموا هدايا، فوصلوا إلى عاصمة الصين في العام الثامن من فترة شيوان ده، ثم تركوها عائدين إلى بلدهم في العام الأول من فترة تشنغ تونغ (12).

وقد سبق لمكة أن أوفدت إلى الصين أكثر من عشرين بعثة. وكان من بين الهدايا التي حملوها إلى أسرة مينغ اليشب والمنسوجات الصوفية والمرجان والسكاكين المنحوتة من عظام السمك علاوة على الجمل والفرس العربية الأصلية. وأسرة مينغ قدمت لها بالمقابل هدايا من ضمنها رداء مزخرف بتصاميم البواء (الثعبان) والتنين منسوجة بخيوط ذهبية، ومسك وأدوات ذهبية وفضية. ولما خرج تشنغ خه في آخر رحلة إلى المحيط الهندي، فصل بعض القطع من أسطوله في العام السابع من فترة شيوان ده (1432) لتصل إلى كوزكود الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي من الهند، حيث اختار هونغ باو أحد المشرفين على شؤون البلاد الداخلية سبعة رجال من بينهم الآذنة والمترجمون، ثم استقل هؤلاء الرجال السبعة سفينة كوزكودية متجهين إلى مكة، ومعهم المسك وأدوات من الخزف الصيني، واستغرقوا في هذه الرحلة سنة كاملة ذهابا وإيابا. "فتمكنوا خلال ذلك من شراء ألوان من النفائس علاوة على الزرافة والجمل والأسد والنعامة.. إلخ، كما رسموا نسخة من صورة ‘الجنة’ التي عادوا بها إلى العاصمة" (13). ولما وصلت هذه الفصيلة من الرسل الصينيين إلى مكة، أولاهم سلطانها كامل العناية والاهتمام بحيث وضع راحته على جباههم، ولامس هامات رؤوسهم واحدا بعد الآخر. ومن ثم أرسل وفدا برئاسة (Shahuan) مع الفصيلة الصينية في زيارة رسمية إلى الصين، ومعهم من الهدايا زرافة وفيل وخيل وبعض المنتجات المحلية. ولما وصلوا إلى بكين، خرج الإمبراطور تشو تشان جي الملقب بشيوان تسونغ إلى بوابة فنغتيان لاستقبالهم باعتبارهم ضيوفا كراما للبلاد، ثم تسلم الهدايا منهم في غبطة وسرور، وأغدق هو الآخر عليهم نصيبا وافرا جدا من الهدايا الجوابية (14). والذي يجدر ذكره هو أن الصينيين كانوا يسمون الكعبة في مكة المكرمة باسم "الجنة"، فصورة "الجنة" التي سبق ذكرها هي صورة هذه الكعبة. وما دام هناك مترجمون بين الرجال السبعة من فصيلة أسطول تشنغ خه، فمن المرجح أنه كان بينهم مسلمون. وإن وفدا صينيا مثل هذا قام بأول زيارة للكعبة في مكة، من ثم عاد بصورتها إلى إمبراطور الصين، وهذا أمر له أهميته العظيمة في تاريخ الصداقة الصينية العربية.

يأتي تشنغ خه في عداد أعظم الملاحين في التاريخ، فقد قاد أسطولا لم يسبق له مثل في ضخامته وبعد المسافات التي اجتازها ( أكثر من مائة ألف لي صيني أي خمسون ألف كيلومتر ونيف) وفي مدة إبحاره ومدى تقدمه في التقنية الملاحية. وقد وصل هو إلى أفريقيا مرارا وتكرارا قبل دياس بارتولوميو البرتغالي الذي وصل في رحلته البحرية إلى رأس الرجاء الصالح عام 1488، وكريستوفير كولمبس الأسباني الذي اكتشف القارة الجديدة عام 1492، وفاسكو دي غاما البرتغالي الذي التف حول رأس الرجاء الصالح واجتاز المحيط الهندي عام 1497، قبل أولئك جميعا بمدة تتراوح من خمسين إلى مائة سنة. لقد سجل تشنغ خه في رحلاته إلى المحيط الهندي إنجازات هائلة في الملاحة والفلك والجغرافيا وغيرها من المجالات العلمية، فبلغ شأوا عظيما في تاريخ الملاحة، وقد كسب احترام مختلف الشعوب لأنه نفذ السياسة الخارجية السلمية للصين القديمة خلافا لسياسة السلب والنهب والقتل التي سار عليها المغامرون الأوربيون في البلدان الأفروآسيوية. كما عمق برحلاته السبع الطويلة التفاهم بين الشعب الصيني والشعوب الأفروآسيوية  بما فيها الشعب العربي ، ودفع عجلة التبادلات الاقتصادية والثقافية بين الطرفين إلى الأمام، مما قدم إسهامات جليلة وأحدث أثرا بعيد المدى في تنمية العلاقات الودية بين الشعب الصيني وهذه الشعوب.

إن رحلات تشنغ خه إلى المحيط الهندي قد جاءت نتيجة للازدهار الكبير الذي شهده الاقتصاد الإقطاعي في أسرة مينغ الكبرى، وثمرة لسياسة الإمبراطورية تشو دي الخارجية القائلة بأن "كل من يعيش تحت قبة السماء في أقاصي الدنيا من رعايا إمبراطوريتنا" (15). ولكن مع تعاقب الشهور والأعوام وجدت أسرة مينغ خزانة دولتها فارغة نتيجة فساد سلطة الدولة وما أعقبه من ضعف في البلاد، فاضطرت إلى اتخاذ سياسة الباب المغلق التي "لا تهتم بالخطط البعيدة المدى"، فأوقفت بناء السفن، وأمرت بعودة السفن التي كانت تخدم في جلب النفائس. ولم يمض على ذلك نصف قرن حتى تدافعت دول أوربا الغربية إلى المشرق لتقيم مستعمرات لها، وذلك عبر التنافس في أنشطة الملاحة في مختلف المحيطات. فكان أن طغى البرتغاليون وبغوا في المحيط الهندي حيث سلبوا ونهبوا ما صادفوه من سفن عربية وهندية، واحتلوا جزيرة سقطرة عند مدخل البحر الأحمر ومضيق هرمز عند الخليج الفارسي، فانقطعت نتيجة ذلك الاتصالات البحرية التي ربطت بين البلدان العربية والصين.

ملاحظات:

(1)      يفيد ((تاريخ مينغ- سجلات بورنيو)) أن المياه المتواجدة شرق جزيرة بورنيو تسمى المحيط الشرقي والعكس تسمى المحيط الغربي أي المحيط الهندي.

(2)       تشنغ يي جيون: ((حول إبحار تشنغ خه إلى المحيط الهندي))، دار المحيط عام 1985، ص 25.

(3)      قونغ تشن: ((سجلات البلدان في المحيط الهندي))، مراجعة وملاحظات شيانغ دا، دار الصين، بكين عام 1961، مقدمة الكتاب.

(4)      راجع الملحق الثاني لـ ((سجلات البلدان في المحيط الهندي))، ((استجابات الحورية السماوية)) بمعبد الجبل الجنوبي في فوجيان.

(5)         ((تاريخ مينغ- سجلات الدول الأجنبية)).

(6)      (7) قه تشنغ مينغ: قرية تشنغ خه في القرن الأفريقي)) المنشورة في ((جريدة الشعب اليومية)) الصادرة 21 يوليو 1985.

(8)  ((سجل أعمال تشنغ تسو في أسرة مينغ)) جـ 119.

(9) (10) ((تاريخ أسرة مينغ- سجلات البلدان الأجنبية)).

(11)  نصب ((استجابات الحورية السماوية)).

(12) ((تاريخ أسرة مينغ- سجلات البلدان الأجنبية))

(13)  ما هوان: ((مشاهدات رائعة وراء البحار الشاسعة))، تحقيق وتفسير فنغ تشنغ جيون، دار الصين بكين عام 1955، مادة مكة، وأيضا مادة مكة في ((سجلات البلدان في المحيط الغربي)).

(14) ((سجل أعمال الإمبراطور شيوان تسونغ في أسرة مينغ)) جـ 105.

(15) ((مشاهدات رائعة وراء البحار الشاسعة))، شعر في ذكريات الرحلات.

  (البقية في العدد القادم)

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

الصين والعالم العربي

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.