محتويات العدد 6 يونيو (حزيران) 2003

تأملات في التراث الثقافي الصيني

الصيني(1- 2)الصيني

شوقي جلال

إنسان الصين ثمرة صاغتها وأنضجتها مجمل التفاعلات بين منظومة الوجود: الطبيعة، الإنسان/ المجتمع، على مدى تاريخ قارب امتداده مليوني عام. طبيعة ساحرة خلابة، سماء صافية لا نهائية، أراض شاسعة خصبة غنية سخية العطاء بخيرها العميم، وأنهار عديدة تمنح في وفاء، وأيضا ضارية شديدة الضراوة عند الغضب؛ وجبال تعانق السماء، ووديان وأشجار وأزهار متعددة الألوان زاهية فائقة الجمال..الطبيعة معزوفة موسيقية، والإنسان لحن نابض بالحياة بين مجموع ألحانها، ليس نغما منفردا أو متمايزا، بل هو بعض سياق المعزوفة الكونية في تكامل تام.ليس نغما منفردا

وتجلى هذا كله حكمة ومأثورات وفنونا جميعها ينشد التناغم، ويذيب الإنسان المجتمع في المحيط الكوني، بل يُشعر الإنسان أن شقاءه حتم إذا ما شذ أو نشذ عن نغم تلك المعزوفة.. يفارقه الصفاء، وتؤرقه مشاعر الاغتراب، ويعاني في هذا مرَ العذاب.. إن سكينة النفس ليست في التوحد أو التفرد، بل في الوحدة المتناغمة مع الكل؛ أسرة ومجتمعا وطبيعة ووجودا. ونعمة الحياة ليست شهوة نزوية أنانية عابرة، بل وفاق مع فيض الوجود الأسمى؛ واشتهاء النفس لتلقي هذا الفيض في قلب ينبض في بهجة حبا للطبيعة، ويتسع للوجود مثلما يحتويه الوجود.. وفنون الصين وآدابها وحكمتها تحفز الإنسان إلى الوعي بهذا كله، ولكن على نحو غير مألوف تخاله شديد التركيز بغية العيش بعقل مفتوح ووجدان صادق عميق للعلاقة الحميمة التي توحد الإنسان، المجتمع، الكون في وحدة متناغمة رغبة في بلوغ كمال النفس والأخلاق.ليس نغما منفردا

ليس معنى هذا أن حياة الإنسان/ المجتمع الصيني على مدى هذا التاريخ الطويل كانت رخاء، نغما سلسا هادئا، بل كانت في أحيان كثيرة هي النقيض. ولنا أن نقول إن الحكماء ساقوا الحكمة رغبة في الخلاص، وخلاص الإنسان/المجتمع من قسوة المعاناة التي هي بتعييرهم المجازي خروج الإنسان عن قانون الطبيعة والتناغم الكوني. وكانت الحكمة دعوة لإرساء قواعد الحياة الصحيحة؛ وربما نقول إن الحكمة التي صاغت وجدان الناس كانت صورة للمثل الأعلى المنشود على نقيض المعاناة مثلما كانت الأسطورة في العهود العتيقة تعبيرا صادقا عن المعاناة وعن السياق الكوني المأمول.ليس نغما منفردا

شهدت حياة الصين على مدى التاريخ الطويل أحداثا وعهودا محفوفة بالأخطار، وعصف بها العنف الذي يجتاح الأخضر واليابس. وعانت الصين شأن المجتمعات الزراعية المستقرة أو الغنية من غزوات الأجانب طمعا في خيراتها، وإن زحفوا إليها جحافل وجيوشا وراء قناع الدعوة إلى رسالة أو هداية أو حضارة جديدة. وعانى الإنسان من قسوة وبطش وقهر ذوي السلطان؛ غزاة أجانب أو أباطرة مواطنين.. والصين في هذا ليست شاذة عن منطق حركة وحياة تاريخ المجتمعات وما يكتويها من صراعات دموية ابتغاء مصالح أنانية. وعرفت الصين كذلك فترات نهوض وازدهار ضاعفت من أطماع للطامعين، مما ألقى عليها دائما عبئا ثقيلا للدفاع عن الحدود.ليس نغما منفردا

ويثير انتباهنا أن الإنسان والمجتمع والطبيعة والسماء هم معا محور الفكر والتراث الثقافي الصيني. تمجد الأساطير الصينية الإنسان / الأسرة، وترى أن الحكام الأول في بدء الوجود ثلاثة: ملكوت السموات، وملكوت الأرض، وملكوت الإنسانية. وتقول الأساطير إن كلا منهم حكم بضع قرون. وتطلق الأساطير على هذه الثالوث الصيني عبارة سان تساي، وتعني ثلاث قوي أو ثلاث سلطات، أو ثلاثة أصول أولى. وتمثل النزعة الإنسانية خاصية أولى وأساسية في الحكمة الصينية، وتراها ممتدة على مدى التاريخ وإن تباينت تأويلاتها وسبل إصلاحها. ويحتل السلف الذي هو موضع تقديس موقعا وسطا بين البشر والأرواح. وتخضع الأرواح لسلطان السيد الأسمى الذي قد نعبر عنه بلغة ثقافات أخرى بالرب أو الإله.ليس نغما منفردا

وأشارت الأساطير الأولى إلى اعتماد الإنسان وتواكله على مشيئة السماء أو السيد الأسمى، ولكن مع أسرة تشو (1066 256 ق.م) حدث تحول ملحوظ في هذه النظرة؛ إذ أحدثت الحكمة على لسان فلاسفة الصين نقلة نوعية من التواكل والاعتماد على السماء في شؤون الحياة والبشر إلى الاعتماد على الجهد والسعي البشريين في تناغم مع السماء. وأدى هذا التحول النوعي إلى تمكين إرادة البشر وتعزيز مسئوليتهم عن الحياة من خير أو شر، بعد أن كان كل شيء أمره موكول إلى السماء وحدها.ليس نغما منفردا

ونلحظ في التراث الثقافي الصيني، بدءا من الأساطير ومرورا بالحكمة حتى يومنا هذا، خطا فلسفيا واحدا يمثل تراثا مميزا. يبدأ هذا الخط بكتاب إي جينغ أو كتاب التحولات، ذلك لأن الوجود فيض دائم التحول. ويتجلى هذا الخط في الاعتقاد بأن الإنسان ليس وافدا غريبا على الأرض، عابرا منها بعد حين إلى ما وراءها، بل هو جوهر كوني، ومكون أساسي في الثالوث الكوني الأشمل، ومسؤول بإرادته عن تحقيق التناغم الوجودي، وان هذا الإنجاز هو وثيقة اعتماده أمام السماء، وبرهان مسؤوليته وفعالية إرادته. وتفيد حكمة الصين أن الإنسان، ثوابه وعقابه ليس مرجأ، بل رهن فعله وعائد ممارسته هنا على الأرض، الإنسانية ها هنا رسالتها على الأرض أن تجعل من الدنيا مقاما إنسانيا، وسبيلها التزام بمبادئ الأخلاق والسلوك القديم، التزاما بدافع من حب يغمر قلبا يبتهج لسعادة الآخرين.ليس نغما منفردا

وجدير بالذكر، أن التراث الثقافي الصيني يتحدث عن السماء ويوفيها حقها من الإجلال والتقديس دون أن يغمط حق الإنسان الممارس للوجود على أساس أخلاقي لا يفسد التناغم الكوني. ولا يسبغ التراث الصيني على السماء اسما بذاته وموقعا بذاته في المكان أو الزمان.. فهي وجود أبدي لا متعين. ذلك لأن الاسم تعيين وتحديد وفصل عن بقية الوجود، وهو ما يتنافى مع الوجود المطلق الذي هو فيض دافق متجدد أبدا. إنه وجود دينامي، وإرادة الإنسان/المجتمع فيه ليست إدارة مستلبة متواكلة على إدارة أعلى، بل هي فعل مشارك ونغم متساوق مع المعزوفة الكونية ليس نغما منفردا

ولهذا أيضا نجد السماء واحدة بالنسبة للجميع مهما اختلفت مسميات مذاهبهم ومعتقداتهم. والظاهرة اللافتة للأنظار أن الصيني  التقى بالسماء، يناجيها حبا وابتهاجا وعبادة وصلاة في الحدائق وفي أحضان الطبيعة وفي أي معبد دون اعتبار للأسماء التي صاغها البشر. يذهب، وهو المؤمن بالحكمة الطاوية، للصلاة في معبد كونفوشيوس، ولا بأس من أن يقصد معبدا بوذيا، فهو في جميع الأحوال في رحاب المحيط الكوني يلتقي بالسماء الواحدة، وإن ارتبط اسمه هو كشخص بمذهب أو عقيدة. ولكن مزاجه الثقافي لا يرتضي الفصل والتمييز، بل هو مزاج سمح متسامح.ليس نغما منفردا

ولعلنا هنا نكتشف أبعادا إنسانية مهمة أظنها تمثل عاملا رئيسيا، من بين عوامل أخرى، في نجاح بلدان شرق آسيا التي تشارك الصين جذورها الثقافية: النمور، ومن قبل اليابان. البعد الأول تأكيد التراث على إرادة ودور الإنسان، فهي إرادة فاعلة غير متواكلة. ونجد ثانيا تقديس روح الجماعة والتناغم الجمعي، والتسامح العقيدي مما يساعد على توثيق عرى الروابط الاجتماعية دون حزازات مذهبية أو طائفية عمياء. وثمة بعد ثالث يؤكد أن الإنسان ممارسة وفعل دنيوي في تناغم وجودي، وان العقيدة ليست كلمة يقنع بها المرء مستسلما. ولهذا هي ثقافة ممارسة وفعل تناغمي وليست ثقافة كلمة. ولهذا أيضا فإن الإنسان ليس فردا استوعبه أو امتصه الغيب، يقضي حياته عابدا يسبح بكلمات؛ بل تسبيحه وعبادته ممارسة حياتية مع الأسرة والمجتمع والطبيعة، فالعقيدة إيمان وفعل حياتي، أو كما نقول: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.ليس نغما منفردا

صاغ التراث الثقافي الصيني إنسانا انصرف عن الاستغراق فيما وراء الطبيعة وعن خوارق الطبيعة، وأقبل على التأمل النظري والتوحد مع الوجود الكلي، وأنتج هذا التراث ثقافة أدبية ويدوية فنية. هذا على عكس الثقافات إذا سادها تأويل يحصر دعوتها في أن يتجه الإنسان بقلبه وعقله وبأفعاله إلى ما وراء الطبيعة، ويصرف فكره عن الدنيا وعن بحث ظواهرها سوى تأملها كمعجزات. إذ أن الثقافة في حالتها هذه تفرز إنسانا فردا حياته تأمل خالص، وفعله فكر مجرد، وثقافته كلمة، وصلته بالدنيا عابرة وطقوسه وشعائره شكليات، وهو ما أصاب تراث الصين الثقافي في عصور التخلف والانحطاط.ليس نغما منفردا

لم تشأ حكمة الصين في أصولها أن تغرق الإنسان في تأمل خوارق الطبيعة أو صرف الجهد والطاقة إلى ما وراء الطبيعة دون سواها باعتبار أن هذا فرض واجب الأداء، وهو الفضيلة الكبرى والهدف من الدنيا. ونجد كمثال أن كونفوشيوس حين سأله أحد تلامذته قائلا كيف تخدم الأرواح؟ قال: إذا كنت عاجزا عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم الأرواح؟ ولكن ثقافة الصين لم تحض الناس على بحث أحداث وظواهر الطبيعة والتفكر فيها وفي أسبابها عقلانيا، بل دعتهم فقط إلى التوحد والتناغم معها وجدانيا. ورأت أن الفضيلة الكبرى هي الوفاق بين عناصر الكل الكوني، ومن بينها الإنسان، وأن المهمة الأولى للحاكم الإمبراطور هي تحقيق أو تهيئة أسباب هذا التناغم والوفاق. وتمثل دعوة الناس إلى السلوك القويم وإلى الاعتدال وطاعة الحاكم دعوة إلى الاستجابة لمطلب التناغم والوفاق الذي هو أمر منوط به. ويخلق هذا التوجه بطبيعة الحال شعبا وديعا لا تستثيره أحداث الخارج، ولهذا تبدو فلسفة الصين أو حكمتها استبطانية، أي تدعو الإنسان إلى تأمل باطنه والتماس أسباب السكينة والوفاق مع الطبيعة.ليس نغما منفردا

والإنسان المثالي في الحكمة الصينية هو الإنسان الجبل (حسب الحكمة الطاوية)، تملؤه السكينة في باطنه، ويحف به السلام من خارجه، يتواصل مع الطبيعة ويتحد معها، إنه فردوس ذاتي. ويمثله أو يرمز إليه الحجر في صورة كتلة غير محددة الشكل ولا منحوتة، أي دون أن يصبها الإنسان في شكل معين يميزها ويعزلها عن التجانس مع الوجود الكلي الذي هو نسيج واحد لا تفصله شقوق، ونهر دافق دائم التحول. وإن من يزور الصين تجذبه في مواقع كثيرة وسط الحدائق وجود كتلة من الحجر المستدير المليء بالثقوب والفجوات والماء يتدفق من حوله. هذا رمز الطاو أي  الطريق..نسيج الزمان والتغير، وتنسب إليه الطاوية التي هي ثقافة العامة من شعب الصين، ومؤسسها المعلم لاو تسي. (البقية في العدد القادم) ليس نغما منفردا

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

كلنا شرق
Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.