الكتابة بالعين وأنت في التبت شعورك لا يدانيه إلا الخيال حيث تنطلق لغة المشاعر وتسكت الكلمات!!

قطار على خط تشينغهاي- التبت

 

الكتابة بالعين

وأنت في التبت شعورك لا يدانيه إلا الخيال

حيث تنطلق لغة المشاعر وتسكت الكلمات!!

 

عباس جواد كديمي

 

التبت مالئة الدنيا وشاغلة الناس منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا، وأسباب ذلك عديدة ومتنوعة! لقد قيل عنها الكثير وكُتِب عنها أكثر! وحالي مثل حال الكثيرين ممن قرءوا عن التبت أو سمعوا عنها، ممن لا يجدون أي صعوبة في الحصول على أي معلومات مهما كان نوعها، عن هذه المنطقة الصينية أو غيرها بالعالم، وذلك بفضل وجود شبكة المعلومات الإلكترونية العالمية "الإنترنت". قبل قدومي إلى الصين وعملي فيها، لم أكن أعرف عنها سوى أنها المنطقة الصينية الواقعة على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد، والتي تحتضن أعلى قمة جبلية بالعالم، قمة تشومولانغما (إيفرست)، وذات القدسية والخاصية الاستثنائية المتجسدة في الطابع الديني البوذي وطقوس ومعتقدات البوذيين! لكني أعرف كيف أن بعض الغربيين يحاولون استخدامها كبيدق شطرنج جيوبوليتيكي، وكنت على يقين تام بأن الغرب يمارس كعادته سياساته ذات المعايير المزدوجة. وبما أن الكل يعرف، أو بإمكانه أن يعرف، عبر الإنترنت أي معلومات عن التبت بالأرقام والمعطيات والصور؛ مساحتها وتعداد سكانها ومزاياها الجغرافية والطبيعية الأخرى، لذلك سأنقل للقارئ المحترم، ما رأته عيني خلال زيارتي لهذه المنطقة. لقد ظلت مخيلتي مليئة بالرغبة الشديدة لزيارتها، لأرى بعيني ما توصف به من روعة طبيعية وسحر ثقافي؛ أرضها وجبالها ومروجها وأنهارها وناسها، وأقترب من عاداتها وتقاليدها ومزاياها التي ما فتئت تملأ الدنيا أحاديث وقصصا وتأثيرات من شتى الأنواع. وعلى ضوء ما قرأته وسمعته عنها، بدت لي هذه المنطقة في صورة مروج خضراء واسعة وتلال حُبلى بالأشجار والأحراش، وجبال شاهقة تعانق السماء، خاصة وأنها تضم أعلى قمة جبل في العالم، وأن جبالها مشهورة بقممها الثلجية الفضية اللامعة طوال السنة. وظلت صورة أبنائها متحركة في مخيلتي بملابسهم التقليدية، ورهبانهم بملابسهم البنية اللون والمسبحة الطويلة التي تتدلى من أعناقهم على صدورهم، أو في أيديهم، وصور مسيرات الحجاج البوذيين القادمين من كل حدب وصوب لزيارة المعابد المقدسة خاصة في لاسا، حاضرة المنطقة، حيث يوجد قصر بوتالا الشهير. والكثير من التخيلات والصور المستنتجة إما من القراءة وإما من الاستماع لمن زاروها. في التبت، شعرت للوهلة الأولى بأن الخيال يفيد كثيرا في تهدئة نبضات القلب المتسارعة! وأن الطبيعة هي أفضل مهدئ للنفوس المتلهفة! وأن التأمل في ملكوت السماوات والأرض هو أروع أنواع السكينة والطمأنينة! إنها فرصة رائعة ليطلق المرء العنان لنفسه لتسرح وتمرح وتتعمق في عالم يبدو بعيدا عن مشاغل الدنيا وزحمة الحياة، لا سيما في ظل وجود مساحات كبيرة جدا لسهول تمنح الإنسان المجال الكافي ليسرح بخياله بعيدا جدا، إلى حيث الأفق بين السماء والأرض!

ورغم النصائح بالسفر بالطائرة، ورغم علمي بسهولة هذا النوع من السفر في ظل وجود العديد من الرحلات اليومية، والمطارات الحديثة بالتبت، فضلت السفر على متن قطار تشينغهاي– التبت السريع والمريح الذي ينطلق من محطة غربي بكين، ويمرّ بالعديد من المحطات، 8 منها رئيسية، وهي محطة قطار غربي بكين، ثم شيجياتشوانغ، وبعدها شيآن ولانتشو وشينينغ وغورم وناتشو، وصولا إلى لاسا، وما يوفره من فرصة رائعة للتمتع عن كثب بمناظر كثيرة على طول سكته الممدودة على هضاب عالية الارتفاع عن سطح البحر! ومن نافذة القطار، رأيت سهولا خضراء لا حدود لها، وعليها أناس يبدو، من ملابسهم، أنهم من قوميات متنوعة! ثم بدأت الجبال تظهر وكأنها بحر من السحاب، وبحيرات مثل مرايا تعكس ألوان قوس قزح! ومع توغل القطار نحو الهضبة، رأيت قطعانا من الغزلان والياك والخراف والماعز والحمير، وهي تتمتع بمزايا خاصة لحمايتها من أي طارئ، ورأيت الجسور والأنفاق المبنية من أجل حمايتها وضمان سلامتها وسلامة بيئة المنطقة! لقد سُمّي هذا القطار بخط تشينغهاي- التبت، لأنه ينطلق من برّ الصين الداخلي باتجاه هضبة تشينغهاي- التبت التي تعتبر من أعلى الهضاب بالعالم، ويبلغ ارتفاعها أكثر من 4000 متر عن سطح البحر، الأمر الذي جعل إنشاء سكته ومرافقها فوق الهضبة وظروفها المناخية والجغرافية وتضاريسها المعقدة جدا، الأصعب من نوعه في تاريخ السكك الحديدية بالعالم، وأعجوبة هندسية بكل المعايير! ولهذه الأسباب الجغرافية والمناخية والارتفاع الكبير عن سطح البحر، حرص المسؤولون عن تسيير هذا القطار، على جعله يشبه صالة صحية متنقلة، فيها تجهيزات للأوكسجين وأجهزة رعاية صحية وخدمات طبية خاصة.

بعد سفر دام 47 ساعة وعشر دقائق تقريبا، قطع القطار خلالها مسافة 4064 كم، نزلت من عربة القطار السريع الذي نقلنا من بكين إلى لاسا، حاضرة التبت، ولم يدهشني شيء في المحطة، لأنني أعرف تماما حرص الصينيين على التنظيم الجيد جدا لمحطات القطارات ودقة مواعيد التحرك والوصول، والمساعدة والإرشاد للمسافرين، لا سيما للأجنبي. ولكن ما شدّ انتباهي هو ما أحسست به من ضغط خفيف على صدري بسبب الارتفاع الواضح للمنطقة عن سطح البحر! وهنا تذكرت عشرات النصائح من أصدقاء صينيين وأجانب، بضرورة الاستعداد لمثل هذا الارتفاع المفاجئ في الضغط أو ما يسمى بدوار أو غثيان المرتفعات، حالما تطأ قدماي أرض التبت. في محطة قطار لاسا، القادمون ليسوا من الصين فقط، بل من عدة دول مجاورة، كالهند ونيبال وفيتنام وكمبوديا، ودول أخرى؛ وعليك أن تتخيل المشهد بهذا التنوع البشري من كل مكان!

لشدّ ما كنت متلهفا للخروج من مبنى المحطة المنظم والمرتب بدقة، لأرى ما جئت من أجله؛ الطبيعة الساحرة بسهولها ومروجها الخضراء الواسعة التي لا يحدها إلا الأفق، والتلال المحيطة بها هنا وهناك، والتبتيون وخاصة رهبانهم، وأزور معابدهم وأرى صلواتهم ووسائل تقرّبِهم لربّ السماوات والأرض! فقد قرأت وسمعت الكثير، وآن الأوان لأرى بعيني، وأن ترى ليس كما تقرأ وتسمع! لقد شعرت فعلا بالضغط الخفيف على صدري، وتزايد نبضات قلبي، ولكن- الحمد لله- زالتا بسرعة وبلا أثر! أما حدقتا عيني فيبدو أنهما توسعتا بدافع من روعة المناظر، حتى قبل أن أتوغل في عمق الطبيعة! وظلتا كذلك ليومين بلياليهما، لأنني كنت أنام وأنا مفتح العينين خيالا، وطمعا في مزيد من التمتع بسحر وروعة المكان! لن أسهب في الحديث عن الفندق ولا الطعام ولا الأسواق التقليدية أو الحديثة! ولا عن حداثة ومعمار مدينة لاسا! بل يسعدني أن أواصل الحديث عن جمال المنطقة وتميز تقليدها المُحاطة بسحر وقدسية خاصة!

كنت ضمن مجموعة من الأصدقاء من جنسيات مختلفة! ملائمين تماما كرفاق سفر! ولكني فضلت التجول بمفردي، سعيا وراء مزيد من حرية اختيار المكان والزمان، خاصة أنني بحاجة لأوقات خاصة أؤدي فيها الصلوات في أوقاتها، وبحاجة للطعام الحلال. وحالما انتهت ترتيبات النزول في الفندق، والاطمئنان على هذا الأمر، خرجت إلى حضن الطبيعة الشديد الاخضرار، وملأت رئتي بهواء شعرت بأنه يضم كل رائحة طين الأرض المحروثة أو المزروعة بما وهبها الله من خيرات! شعرت بأن ذاتي كلها أصبحت عينا ترى؛ فهناك حاجة لعين أكبر وأوسع حتى تتمتع بزاوية نظر فسيحة كالأرض الممتدة لتصافح أفق السماء! في الحقيقة، أن عظمة الجبال وروعتها، ولمعان قممها الفضية، وجمال السهول وخضرتها، ومرايا المياه على سطح البحيرات، تجعل كل ما يُقال عن المنطقة ضئيلا، وتجعل التقاط الصورة مَضيَعة للوقت، رغم أنني صادفت شابا من أستراليا هاويا للتصوير، أكد لي أنه التقط 600 صورة في يوم واحد!

كنت أعرف جيدا أن يومين من أربعة أيام ونصف، اثنين منها للقطار ونصف يوم للتحضير والعودة بالطائرة، لن تكفي لبرنامج كامل لزيارة العديد من مناطق التبت، فركزت على لاسا التي نزلت فيها، وحيث يتوافد الحجاج على قصر بوتالا المقدس. في لاسا التقليدية- الحديثة، كل شيء يوحي بقدسية خاصة يمليها شعور بأن التبتيين حريصون جدا على احترام تقاليدهم وتاريخ منطقتهم! وهناك إحساس يفرض نفسه بأن على المرء أن يحترم كل ما حوله. أقول بصراحة إنني فُتنت بروعة الطبيعة أكثر من جمال البناء التاريخي والحديث! ولكن لا يمكن للعين أن تتجاهل منظر الناس، سواء الممارسين لحياتهم العادية أو الحجاج القادمين للقصر المقدس. وفي غمرة اللهفة للتعرف، وددت لو أمكنني الحديث مع العديد منهم، لأعرفهم بنفسي وبلدي وأمتي وديني، وأسمع منهم عن نفس الاهتمامات. ترددت وشعرت بأن اعتراض الناس وعرض الرغبة بالحديث قد يكون مُحرجا، فمضيت في سبيلي أركز ناظري وعقلي على كل ما حولي، إلى أن أتيحت لي فرصة الحديث مع رجل تبتي خمسيني متعلم، له صفات توحي بأنه جاد ومنفتح في آن واحد. بادرني بابتسامة ترحيب شجعتني كثيرا. وبعد عبارات التعارف التقليدية، أول شيء مشجع عبّر عنه هو حبه للصداقة والتقارب بين الناس رغم تباعد أوطانهم، والتواصل بينهم مهما تنوعت أديانهم ومعتقداتهم. وتشعب الحديث بيننا ودخل على الخط شاب آخر كان ينظر نحوي بإعجاب ممزوج باستغراب بعد أن عرف أنني من العراق، فوقع تحت تأثير عامل المسافة والتاريخ والجغرافيا، وعوامل أخرى. ولكن ابتسامته الواضحة شجعتني على المضي قدما في حديثي، وسألته عن العراق وعن العرب، فردّ بابتسامة أوسع في إشارة إلى أنه يعرف الكثير عنّا. ومن خلال حديثي معهما، تذكرت حقيقة قاسية عن الصين وعن هذه المنطقة بالذات!

ففي ماضٍ غير بعيد، في أربعينات القرن العشرين تحديدا، كانت نسبة كبيرة من الصينيين تعاني من واقع مرّ للبلاد عموما؛ ولكن، هناك تفاوت نسبي بين هذه المنطقة أو تلك، لأسباب تاريخية أو جغرافية، أو غيرها. أما منطقة التبت، فقد كانت قبل تأسيس الصين الجديدة عام 1949، تعاني الأمرّين بسبب الفقر والتخلف وجور ملاك الأراضي الإقطاعيين وظلمهم للناس الذين باتوا عبيدا يُباعون ويُشترون في سوق النخاسة، ويكدحون طويلا من أجل لقمة طعام مغموسة بالذل، ناهيك عمّا يعانونه من ديون وسجن وتعذيب وإذلال لا وجود معه لأي كرامة أو آدمية للإنسان. كان الجهل سائدا، والناس لا يجدون السكن الكريم، حيث يعيشون في مساكن قديمة ليس فيها مياه، ناهيك عن الحمام والتواليت، وتعيش معهم فيها حيواناتهم. وهناك حقيقة مؤلمة جدا كانت سائدة في التبت القديمة، تجسد وتعكس مدى بشاعة ظلم استلاب الحقوق العائلية الأساسية للإنسان التبتي؛ فهو لا يملك الحق حتى في تسمية مولوده! فالسيد الإقطاعي يمتلك حق تقرير كل شيء! ولنا أن نتخيل مقدار وبشاعة ذلك الواقع خلال تلك الفترة المظلمة من التاريخ الأسود للمنطقة، وهذا سيساعدنا في تشكيل صورة عن الجوانب الحقيقية لحياة الناس آنذاك. وبعد تأسيس الجمهورية الجديدة، شهدت معظم مناطق الصين، ومنها التبت، جهودا حثيثة لتغيير الواقع المتخلف، وبناء حياة جديدة، تقوم على أساس الإنسان، ومن أجله. لقد رأيت بعيني ما تشهده المنطقة من تغيرات جوهرية ملموسة في كافة مجالات الحياة! رأيت الكثير من المجمعات السكنية الحديثة، التي تبدو المساكن فيها فردية، وفقا لعادات ورغبة سكان المنطقة الذين يفضلون السكن العائلي المنفرد. وانتشرت أجهزة التلفزيون الحديثة والمياه النظيفة. وفي سهل على أطراف مدينة لاسا، زرت خيام الرعاة المتنقلين، فرأيتها مجهزة بكهرباء يتم توليدها عبر مولد يعمل بالطاقة الشمسية الوفيرة هناك، وفيها أجهزة تلفاز وتدفئة، ناهيك عن الكومبيوتر المحمول والهاتف النقال! وأصبح في التبت العديد من المدارس والمعاهد والجامعات، بعد أن كان التعليم دينيا فقط ومحصورا في فئة محدودة جدا، ويتم عبر المعابد وأديرة الرهبان. في التبت حاليا، تنوع حضاري يتجسد في حرية المعتقد الديني، وحرية التدريس باللغة التبتية المحلية ومعها لغة قومية هان الصينية، واللغة الإنجليزية أيضا. وقد أكد لي الرجل الذي تحدثت معه في لاسا، أن ابنته تدرس الألمانية أيضا! ولمّا سألته – بعد تردد وتحضير طويلين- حول ما يُقال من تضييق على حقوق التبتيين، ابتسم بشكل جعلني مطمئنا على تفهمه، وأكد لي أن هذا الجانب فيه مبالغة كبيرة ومغالطات مقصودة، بعيدة عن الواقع تماما، وأن جلّ ما يهمه هو العيش مع عائلته بشكل كريم وسكن لائق وحرية يكفلها القانون والتقاليد الاجتماعية، وأن تتلقى ابنته وأبناء منطقته والآخرون، التعليم الجيد ويحظون بالرعاية الصحية اللازمة، ويجد هو أو أبوه وأمه، الحياة الكريمة إذا ما كبروا. وقال لي بلهجة المتسائل: أليس هذا ما تفكر به أنت وتطمح له كأب؟ وبدافع من شعور عميق بصدق تعبيره وأحاسيسه، شعرت فعلا بأن هذا هو بالضبط ما يطمح إليه المرء!

في التبت اليوم، الحكومات المحلية حريصة جدا على تطبيق الاستراتيجية الرئيسية للبلاد وهي وضع الإنسان بالمقام الأول في كل شيء، والحفاظ على بيئة المنطقة وخصائصها المميزة، من معتقدات دينية إلى اللغة والثقافة والموروث التقليدي والأزياء والحرف اليدوية، وحتى الأعياد والمهرجانات والرقصات الشعبية، والغناء والقصائد التاريخية، كالملحمة التبتية المشهورة، سيرة الملك قصار. ومع الأهمية الكبرى للسياحة في اقتصاد المنطقة، هناك توجه لتشجيع السياحة الخضراء الصديقة للبيئة.

أقول بصراحة وثقة بأنه يتعين على كل من يتحدث عن التبت بأحكام مسبقة بعيدة عن الواقع، أن يزورها، ليتمتع أولا وقبل كل شيء بجمال المناظر الطبيعية الفريدة! وبطيبة التبتيين، وبالفوائد الأخرى للسفر! ثم يتعرف عن كثب على حقيقة التطور والنمو الذي تشهده المنطقة، بما يؤكد له أن احترام حقوق الإنسان، أينما كان، تقوم أولا على أساس توفير أسباب العيش الكريم له، بما يساعده على ممارسة حرياته ومعتقداته والحفاظ على ثقافته وتراثه بشكل حقيقي وفعال، ومضمون قانونيا وسياسيا.