الصينيون سر تقدم بلادهم (2-2)

الصينيون

سر تقدم بلادهم (2-2)

                           حسين إسماعيل

 

استكمالا لحديثنا السابق عن الإنسان الصيني، ربما يكون السؤال هنا: ما هي العوامل التي أفرزت إنسانا بهذه المواصفات العادية للغاية؟، وبمعنى أدق، العوامل التي جعلت الإنسان الصيني يشعر ويعيش ويتصرف بهذه العادية.

قد يكون من المفيد هنا أن أشير إلى أن الإنسان الصيني، بمعناه الشامل والجامع، ليس فقط ذلك المسؤول أو المثقف الذي قد تلتقي معه، وليس أبناء العاصمة بكين والمدن الكبرى مثل شانغهاي وقوانغتشو وشنتشن، وهي المقاصد التي يتم عادة ترتيب زيارات الوفود الأجنبية إليها عندما تزور الصين. فمجموع سكان بكين وتيانجين وشانغهاي وتشونغتشينغ، وهي المدن الأربع التابعة في إدارتها مباشرة للحكومة المركزية لا يزيد علىمائة مليون، فإذا أضفنا إليها سكان الحواضر الكبرى للمقاطعات المتقدمة اقتصاديا لن يزيد المجموع بحال عن ثلاثمائة أو أربعمائة مليون فرد. ولكي أقرب الصورة أكثر أشير إلى أن ما نحو سبعين في المائة من سكان الصين يعيشون في الريف. الإنسان الصيني هو الذي يعيش في مقاطعة قويتشو الفقيرة جدا، التي زرتها عام 1993 ورأيت بها طبوغرافيا معقدة وبشرا يصارعون من أجل البقاء، وفي نينغشيا ذات الظروف الطبيعية القاسية والأغلبية المسلمة، وفي هوبي وهونان وآنهوي وغيرها من مقاطعات الوسط والشمال الغربي. حتى في الحواضر الكبرى مثل بكين، الإنسان الصيني ليس فقط هو ذلك الذي تراه في الأحياء التي يرتادها الأجانب، بل إنني أزعم أن الإنسان الصيني الحقيقي، وبمعنى أدق الإنسان الصيني على سجيته وجبلته موجود في الأزقة التي يسمونها بالصينية "هوتونغ". فتيات بكين لسن تلك الفتيات التي يراها السائحون في البارات وصالات الرقص والغناء، ولا الفتيات اللاتي يطرقن بابك في مدينتك العربية لترويج وبيع سلعة ما. كل هؤلاء قطرات في بحر الصين العظيم. إنك لكي تعرف الإنسان الصيني ينبغي أن تزيل القشرة الخارجية له وتراه في مسكنه وبين أهله وتقترب منه ومفتاح ذلك أن تبتسم له، أن تبدو أمامه متواضعا مثله وتشعره بأنك تنتمي إلى عالمه. مفتاح شخصية الصيني، كما أسلفت، أن تبتسم له وأن تبدو متواضعا وعاديا مثله. وهذا يردنا إلى السؤال عن العوامل التي أفرزت إنسانا بهذه المواصفات العادية.

هذه العوامل في رأيي فكرية وتاريخية وجغرافية وبيئية.

فكريا، الإنسان الصيني يحمل في جيناته حضارة ينيف عمرها على خمسة آلاف سنة. والحضارة الصينية هي الوحيدة من بين حضارات العالم القديمة التي حافظت على تواصلها دون انقطاع، ومن ثم فإن الإنسان الصيني في القرن الحادي والعشرين تمتد جذوره دون شائبة تشوبها إلى أصوله الأولى، فالصينيون من أكثر الشعوب نقاء، بمعنى أنهم لم يختلطوا مع أعراق أخرى، تماما مثل حضارتهم التي حافظت على نقائها، إذا جاز التعبير. حتى عندما تأثرت بحضارات أخرى، استطاعت الحضارة الصينية أن "تصين" كل دخيل. ولهذا فإن العقائد الدينية عندما دخلت الصين تأثرت بالفكر الصيني، المتمثل رئيسيا في الفكر الكونفوشي، وينطبق ذلك على البوذية والإسلام والمسيحية. هذا "التصيين" للفكر القادم من الخارج استمر ومستمر إلى الآن، فعندما اختارت الصين النهج الشيوعي أخذته من منبته الأوروبي وغرسته في التربة الصينية وألبسته رداء صينيا ريفيا فلاحيا من القرية، وليس عاملا في المصنع. وعندما تبنت الصين اقتصاد السوق جعلته اقتصاد السوق الاشتراكي ذا الخصائص الصينية. واللافت أن الصينيين تركوا تراثا تربويا وأدبيا وصناعيا ولكننا لا نجد شيئا كثيرا من تاريخ الفكر السياسي الصيني،على العكس من العرب والإغريق والرومان مثلا؛ فالصينيون ليسوا بارعين في التنظير، وإنما في التطبيق والصنعة، وقد أشار إلى هذا الجغرافي، المؤرخ العربي أبو الحسن المسعودي قبل أكثر من ألف سنة.

فكريا أيضا، الصينيون متأثرون إلى حد بعيد بتعاليم كونفوشيوس، وهي في مجملها تعاليم أخلاقية تربوية تحث على الطاعة واحترام وتوقير الكبير والعطف والحنو على الصغير، والأهم أنها تدعو إلى التعلم، التعلم اللانهائي، فقد قال كونفوشيوس: لو أن ثلاثة يسيرون في طريق معا، فحتما واحد منهم معلم لي. ولهذا تراهم في الصين لا يكفون عن طلب العلم. الذي حصل على شهادة متوسطة ويمارس عملا يدرس في مدرسة ليلية أعلى والذي حصل على ليسانس أو بكالوريوس عينه على استكمال دراساته العليا في خارج الصين في دولة متقدمة، بل إنك تعجب لناس تجاوزوا الستين والسبعين، يتعلمون اللغة الإنجليزية، لماذا؟ لكي يمكنهم التعامل مع الأصدقاء الأجانب الذين يزورون بلادهم. ناس بسطاء للغاية ينتظمون في فصول أمام مدرسين من أعمار أحفادهم طلبا للعلم. وقد تدهش عندما تدخل سوق خضراوات في بكين أن ترى بائعة الخضراوات تضع كتابا مفتوحا أمامها فوق بضاعتها فإذا فرغت من بيعها واصلت قراءتها. وقد أزعم أنه لا يوجد أحد في الصين لا يقرأ.

تاريخيا، الصينيون عاشوا حتى عام 1911 في ظل حكم أسر إقطاعية وكان الإمبراطور في الصين بمثابة إله فهو ابن السماء، ولهذا فقد جُبل الإنسان الصيني على الطاعة والنظام. بعد تغير النظام الإقطاعي بقيام الثورة الديمقراطية سنة 1911 تم تأسيس الصين الجديدة سنة 1949، ظلت هذه الطاعة مقرونة بالولاء للوطن وللسلطة، تلك السلطة التي هي  الحزام الذي يربط بحر السكان الصيني. تعجب عندما ترى طلاب مدرسة بالمئات يخرجون إلى الشارع في صفوف منتظمة تقودهم معلمة دقيقة الحجم، لا تدافُع ولا اعوجاج ولا شذوذ على النظام.

جغرافيا، الصين هي مركز العالم، أو هكذا تراها في خرائط الصينيين، فالخريطة الصينية تضع الصين في القلب وإلى الغرب منها الجزء الغربي من قارة آسيا وقارتا أفريقيا وأوروبا، وصولا إلى المحيط الأطلسي الذي هو أقصى الغرب بالنسبة للصين، بينما إلى الشرق، يقع الجزء الشرقي من آسيا والمحيط الهادي والعالم الجديد، الأمريكتان. بل إن اسم الصين باللغة الصينية وهو "تشونغ قوه" يعني الدولة الوسطى أو المركز، ومن هنا جاء اسم المملكة الوسطى الشائع في الكتابات الغربية عن الصين. وقبل آلاف السنين مما قاله عالم الجغرافيا السياسية الإنجليزي السير هالفور جون ماكيندر (1887- 1905)، صاحب نظرية "قلب الأرض القائلة بأن من يسيطر على المركز يسيطر على العالم، وعى الصينيون ذلك- برغم اختلاف قلب العالم بين الصينيين وماكيندر- ولهذا كان إمبراطور الصين في الزمن القديم يعتقد أنه إمبراطور الدنيا كلها، وحتى الآن عندما تنظر في خريطة صينية للعالم ترى  الصين ليس في أقصى الشرق وإنما في قلب العالم.

هذه الوسطية أعطت الإنسان الصيني الاعتدال والتسامح، وهو تسامح يعبر عن نفسه في سلوك الرجل العادي في الشارع، والبائع الذي تناكفه وترهقه في المتجر ثم لا تشتري منه شيئا، والصديق الذي قد تسيء إليه، بل وفي سياسة الصين الخارجية. إنها وسطية وهبت الإنسان الصيني عاديته البعيدة عن التطرف والشطط. ولذلك، قد تلاحظ في تعاملك مع الإنسان الصيني أنه لا يستخدم عبارات قاطعة، ولا يؤكد لك شيئا، فكل شيء دائما "يبدو"، "تقريبا"، "ربما"، "سنرى" الخ من قاموس كلمات الوسط ومنتصف العصا والـ"بين بين". وقد قال البروفيسور فرانسوا جوليان، الأستاذ بجامعة باريس السابعة، في مقال بالنشرة العربية لصحيفة لوموند دبلوماتيك لشهر أكتوبر 2006، بعنوان "الصين في مرآة الغرب": يبدو لي أن المفكّر الصيني في العصور القديمة طوّر فكرة ما أسميه بـ "الجهوزيّة"، أي ترك كل الإمكانات مفتوحة. ذلك أن ما يخشاه الإنسان الحكيم هو التحيّز الذي يقوده، إذا ما اصطدم ببعض ظواهر الأشياء، إلى فقدان الآخر. وقد قال مونشيوس عن كونفوشيوس: عندما كان من المناسب أن يتولى مهمة، كان يتولاها، وإذا لم يكن مناسباً، تخلّى عنها. ويمكن فهم موقف الصيني "البين بين" على أنه نقطة توازن بين حدّين، فـ"البين بين" لدى الحكيم الصيني، هو القدرة على القيام بكلا الأمرين مع بقاء "الانفتاح بالتساوي" على الحدّين. وفي هذه "المساواة" يقوم "الوسط".

والصيني ليس من أنصار نظرية "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فمن الممكن، بل ومن المقبول، للصيني أن تكون صديقه وصديق عدوه في نفس الوقت وأن يكون هو صديقك وصديق عدوك في نفس الوقت. الصيني لا يقاطع من يختلف معه بل يبقى على تواصل معه، ربما ليس قويا، ولكن شعرة معاوية تبقى. وقد دهش رجل أعمال عربي من شركاء صينيين له اختلف معهم واختلفوا معه في أمور التجارة لدرجة ظن معها أن أي خيط يربطه بهم لا بد أن ينقطع، لكن الشركاء الصينيين فاجأوه بحرصهم على التواصل معه والسؤال عنه ودعوته إلى لقاءات معهم. ولا أذكر أنني اختلفت مع أي صيني وحدث جفاء بيننا، فهم حريصون دائما على بقاء الود، فهم لا يعملون فقط وفق مقولة "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، وإنما أيضا يؤمنون بأن "الاختلاف في الود لا ينبغي أن يفسد للرأي قضية". ولعل المتابع لسياسة الصين الخارجية يدهش لحجم الخلافات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وأيضا حجم التبادلات الودية بينهما، ويعجب لقدرة الصين في الحفاظ على علاقات ودية ودافئة جدا مع كل من العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، ومع إسرائيل. ذات مرة، قال مراسل صحفي عربي موجها سؤالا لوزير خارجية الصين السابق، لي تشاو شينغ، إن سياسة الصين المتمثلة في عدم الانحياز لمن تعتبرهم الصين أصدقاء لها ربما يفقدها هؤلاء الأصدقاء. ورد الوزير الصيني بأن "الصين تنحاز إلى الحق دائما." قد يكون الصيني ليس معك ولكن هذا لا يعني أنه ضدك.

بيئيا، الصين فيها كل الظواهر الطبيعية، من تضاريس وطبوغرافيا ومناخ، فالصين ليست شديدة البرودة طوال السنة وليست شديدة الحرارة أيضا، والصين أرض واسعة تسافر من دفء وحرارة جنوبها في ذات اليوم إلى برودة وتجمد شمالها، فالإنسان الصيني تتقلب عليه الفصول الأربعة واضحة مميزة ولهذا فإنه ليس حاد المزاج كإنسان البلاد الحارة وليس مثل أبناء البلاد الباردة، إنه مزيج بيئي أفرز إنسانا عاديا للغاية. تلك العادية التي كما أسلفت من أسرار تفوقه.

تلك هي العوامل التي، في رأيي، تقف وراء تكوين الإنسان الصيني، وبالطبع ثمة عوامل أخرى كثيرة.وتنبغي الإشارة إلى أن الصيني المعاصر، ابن القرن الحادي والعشرين، الذي يعيش في ظل الانفتاح الذي تتبناه الصين وفي ظل العولمة التي تجتاح العالم يتعرض لتيارات عارمة، تيارات أقوى من التصدي لها أحيانا وهذا يثير قلقا بين المثقفين الصينيين بل وبين بعض الشباب، أبناء هذا  العصر المنفتح المتعولم."الثقافة الصينية.. هل تكون ضحية للعولمة؟"، بهذا العنوان كتبت شابة صينية عمرها اثنتان وعشرون سنةمقالا كان بمثابة صرخة من إنسان صيني يخشى على ثقافته وحضارته من تيارات العولمة، يخشى أن تذوب معالم الثقافة الصينية أو تبهت أو تندثر تحت غبار العولمة.

لقد قال الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ، الذي صمم ونفذ سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين ووضعها على جادة التقدم، قال في بداية انتهاج سياسة الانفتاح: "إنك عندما تفتح النافذة يدخل الهواء المنعش ولكن الذباب يدخل أيضا."

الإنسان الصيني، في رأيي، يمتلك المقومات التي تجعله قادرا على أن يتعولم ولكن دون أن يفقد معالمه وشخصيته وهويته الصينية لأن جذوره تضرب في الأرض بعمق يضارع عمق حضارته.