الصينيون سر تقدم بلادهم (1-2)

   التنين صار رمزا خاصا للأباطرة في الصين

 

 

الصينيون

سر تقدم بلادهم (1-2)

                                     حسين إسماعيل

 

ما انفك الخلق يتحدثون عما يسمونه بـ "المعجزة الصينية"، مع كل جديد تطالع به الصين العالم، ويتساءلون عن سر هذه "المعجزة". وأكرر هنا ما قلته مرارا وما أعتقده بأن ما يحدث في الصين ليس بمعجزة، فالمعجزة أن تأتي بشيء خارق للطبيعة، ولم نر من الصينيين سحرا ولا شعوذة، وإنما نشهد إنجازا تلو إنجاز يفرض على ذوي الألباب التفكر بروية فيما يفعل هؤلاء القوم لعل فيه ما يفيد الآخرين.

وإذا كان تقدم الصين سرا، فإن مفاتيحه ليست في جب عميق ولا في "مغارة علي بابا" وإنما هي بشر سوي يمشون على الأرض هوناً. الصينيون هم سر تقدم بلادهم، فمن هم هؤلاء الصينيون؟ هذه جولة مختصرة في رحلة الصينيين، من أسلافهم الأقدمين إلى أحفادهم المحدثين.

الأصل

   لكل شيء في الصين أصل وقصة أقرب إلى الأسطورة، ومن ذلك أصل الصينيين أو الأمة الصينية، فهم يعتقدون أنهم من دم واحد، حيث يُرجع الصينيون أصلهم إلى هوانغ دي ويان دي، وهما أخوان وزعيما قبيلتين من أعظم قبائل الصين، كانت القبيلتان تعيشان في منطقة حوض النهر الأصفر. وتقول الأسطورة إن هوانغ دي ناضل سنوات من أجل الانتصار على الأشباح والأبالسة ولكن نزاعا نشب بين الزعيمين، هوانغ دي ويان دي، من أجل السيطرة على الأرض والشعب، وانتهى الأمر بانتصار هوانغ دي (هوانغ تعني الأصفر في اللغة الصينية) على قبيلة يان دي وضمها إلى مُلكه. واصل هوانغ دي، على مدى سنوات طويلة، بناء دولته حتى أسس أمة هواشيا، أي أبناء الصين من قومية هان.  ولعل هذا يفسر لنا سبب إطلاق صفة "الأصفر" على أبناء الصين. ولماذا يُسمي الصينيون من قومية هان أنفسهم بأحفاد هوانغ دي ويان دي، أياً كان المكان الذي يوجدون به. وتذهب الأسطورة إلى أن هوانغ دي اخترع القارب والكوخ، وأن زوجتهعلمت أبناء شعبها تربية دود القز وصنع اللباس، بينما تولى يان دي تعليم الناس الزراعة، فوضع بذلك نهاية لعصر اعتماد الصينيين في حياتهم على النباتات البرية وقنص الحيوانات البرية وأكل لحومها. بل إن يان دي كان يجمع الأعشاب البرية ويجربها بنفسه حتى يعالج بها أبناء أمته، وذات مرة تناول عشبا ساما فمات في جبل يانلينغ.

غير أن هناك رواية أخرى لنفس الأسطورة تذهب إلى أن الأخوين، هوانغ دي ويانغ دي، كانا من أشهر زعماء العشائر الكثيرة التي كانت تعيش في حوضي نهر هوانغخه (الأصفر) ونهر تشانغجيانغ (اليانغتسي)، وهما مهدا الأمة الصينية. غير أن أبناء قبيلة أخرى تسمى جيولي بزعامة تشي يو، كانوا أهل حلقة وتروس، أجادوا صنع الخناجر والأقواس والسهام، وكانت هذه القبيلة دائمة الاعتداء على القبائل المجاورة، ومنها قبيلة يان دي، فلاذ الأخير إلى أراضي قبيلة أخيه هوانغ دي، الذي أبرم تحالفا مع زعماء قبائل المنطقة واستطاع أن يتغلب على قبيلة جيولي. وتضيف الأسطورة أن قوات هوانغ دي أسرت تشي يو، فأمر هوانغ دي بقتله ودفن جسمه في مكان ورأسه في مكان أخر حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك. وهكذا دانت أراضي الصين لمُلك هوانغ دي، الذي مازال ضريحه قائما في في مقاطعة شنشي بجانب النهر الأصفر.

أبناء التنين

ولكن ما هي حكاية أبناء التنين وأرض التنين اللصيقة بالصين والصينيين؟

الحقيقة أنه لو سارت الأمور في اتجاه واحد ولم  يتحول مسار الأحداث، وفقا للأساطير الصينية، لكان الصينيون أكثر جدارة بلقب الدُب من الروس. فقبل أن يوحد هوانغ دي في منطقة السهول الوسطى في الصين كان الدُب هو طوطم الصينيين، ولكن هوانغ دي بعد أن انتصر على تشي يو قرر أن يتخلى عن طوطم قومه القديم ويتخذ طوطما جديدا للدولة الجديدة الموحدة، وقد وقع اختياره على التنين.

 والتنين الصيني لا وجود له في الواقع، فهو مخلوق تخيلي أبدعه خيال الصينيين على الصورة التي تجسد الكمال الذي تطلعوا إليه، فهذا المخلوق له رأس الحصان وعيونالسمك، وعنق السلحفاة، وقرون الأيل، وله كفوف النمر ومخالب النسر. والتنين يمثل اندماج طواطم ورموز القبائل الصينية القديمة المتعددة، بعد توحدها معا في شعب واحد هو الشعب الصيني المبكر. وقد ظل التنين طوطم الأمة الصينية ورمزا لها وصاحب الحضور الأقوى في الذاكرة والاحتفالات الشعبية للصينيين، ولكن بعد دخول الصين العصر الإمبراطوري الإقطاعي، تحول التنين تدريجيا إلى رمز خاص بالأسرة الإمبراطورية، حيث كان الإمبراطور يعتبر تجسيدا للتنين، الذي هو رمز الكمال والاختيار الانتقائي للأفضل في كل شئ. وقد اكتشف في مدينة آنيانغ الصينية مقطع الكتابة الذي يعني التنين، وهو "لونغ" منقوشا على عظام يرجع تاريخها إلى زمن أسرة شانغ (القرن 16 – 11 ق.م)، وهذا دليل على المكانة الهامة التي يحتلها التنين لدى الصينيين منذ أزمان سحيقة.

الصين هبة الصينيين

ما قلناه عن أصل الصينيين كان مقدمة لا بد منها، فإذا كان المصريون والسودانيون مثلا ينسبون أنفسهم إلى نهر النيل، فهم "أبناء النيل"، بينما ينسب أهل العراق أنفسهم إلى الرافدين؛ دجلة والفرات، وإذا كان المؤرخ الإغريقي هيرودوت قد وصف مصر في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد بأنها هبة النيل، فإن الصينيين لا يقولون إنهم أبناء النهر الأصفر (هوانغخه) أو نهر اليانغتسي (تشانغجيانغ) برغم اعترافهم بأن النهر الأصفر من مهود الأمة الصينية، وإنما يقولون إنهم أبناء (يان وهوانغ) أي أبناء يان دي وهوانغ دي. ولا شك أن هذا الانتساب إلى "رابطة دم" أكثر من الانتساب إلى بقعة أرض أو نهر أو أي معلم طبيعي، كان له دوره في نسج لحمة العلاقة بين الصينيين، وله أثره في متانة الشعور بالانتماء الجماعي والجمعي للأمة والاعتزاز بالهوية الصينية، وهو اعتزاز يتجلى في كل مظاهر حياة الصيني، ابتداء من الذهاب مبكرا إلى ميدان تيان آن من لمشاهدة مراسم رفع العلم الوطني للبلاد، في مشهد نادر يصعب أن تراه في أي مكان غير الصين، إلى معرفة الطفل الصيني في سني دارسته الأولى معنى علم وطنه وشعار دولته وتاريخ الأمة الصينية. وأذكر أن هديل، ابنتي، عندما كانت تدرس في مدرسة شيئي الإبتدائية ببكين، جاءتني يوما تسألني عن شعار الدولة المصرية، فقدمت لها عملة معدنية أحتفظ بها، عليها الصقر، شعار الدولة المصرية. وفي اليوم التالي جاءت تسألني عن معنى هذا الشعار، حيث كلفتها معلمتها الصينية أن تكتب موضوعا عنه!

ممارسات كثيرة تعمق انتماء الصيني لوطنه وقوميته؛ التربية السياسية الوطنية في المدارس، البرامج الإذاعية والتلفزيونية، الفعاليات الثقافية، تعبئة الجماهير حول مشروعات وطنية. وقد تدهش وأنت ترى أطفالا صغارا يجوبون الشوارع والميدان في يوم أول أكتوبر كل عام- العيد الوطني للصين الجديدة- حاملين علم بلدهم، بينما ذات العلم الأحمر ذو النجوم الصفراء الخمس يطل فوقك من نوافذ البيوت وأبواب المتاجر. ولعلك لا تجد شعبا غير الصينيين اعتبر استضافة الألعاب الأولمبية مشروعا وطنيا ونجاحا وفخرا للشعب كله. لقد برع القادة الصينيون في جعل هذا الحدث الرياضي مشروعا وطنيا التف حوله الصينيون، صغارا وكبارا، وسعى الجميع من أجل المساهمة في إنجاحه. 

  ولعل هذا الشعور بالانتماء ولحمة العلاقة بين الصينيين يفسر أيضا ظاهرة "تشينا تاون"، أي الحي الصيني الذي يظهر في أي مدينة بالعالم يتجمع فيها الصينيون، فهناك دائما عامل جذب يشدهم إلى بعضهم بعضا.

الإنسان

والحقيقة أن الصين التي خضعت في تاريخها لحكم قبائل وشعوب دخيلة، كانت دائما ومازالت نتاج كد واجتهاد هذا الشعب الذي أبدع حضارة باهرة مستمرة منذ فجر التاريخ.

ذات مرة سُئلت في مقابلة تلفزيونية مع محطة تلفازية محلية بالصين: ما هو أكثر ما تأثرت به في الصين؟ ولم أتردد في القول: المواطن الصيني، الإنسان الذي يرجع إليه الفضل الأول والأخير في ما تحققه الصين من إنجازات تثير دهشة العالم، ذلك أن الصين، كأرض وموارد، بلد مثل كل بلاد الدنيا شتاؤها شديد البرودة وصيفها قائظ الحرارة تتعرض لكوارث طبيعية وبشرية. والصين ليس لديها ما يميزها كثيرا عن غيرها سواء في الجغرافيا أو الموارد والثروات الطبيعية، فمعدل نصيب الفرد في الصين من العديد من الموارد الطبيعية يقل عن المعدل العالمي، فالصين مثلا بها 7% من الأرض المزروعة في العالم، تطعم بهذه السبعة في المائة خُمس سكان العالم. ولعل السؤال هنا يكون: إذا كان الأمر كذلك، فما هو السر في هذا التقدم الصيني المذهل؟ المذهل للآخرين- أؤكد أنه مذهل للآخرين- فما يحققه الصينيون ليس مذهلا لهم، وليس إعجازا بل شيء طبيعي- شيء طبيعي أن تتغير الصين بهذه السرعة الفائقة وأن تحقق معدلات نمو عالية وأن تتفوق في المجالات العلمية والرياضية والفنية في منظومة متكاملة للنهضة الشاملة.

الإجابة كلمة واحدة.. الإنسان. ولابد من التنويه هنا إلى أن الإنسان الصيني ليس ملاكا منزها عن العيوب والنواقص ولا يمتلك قدرات خارقة تفوق طاقة البشر ولا يحمل عصى سحرية تشق له الطريق، إنما هو بشر عادي للغاية، ويعرف أنه عادي ويتصرف ويعمل منطلقا من حقيقة أنه عادي، فإنك لا تجد في الصين مثلا من يقال له "سبع صنائع والبخت ضائع" فالإنسان الصيني له صنعة واحدة يجيدها ويتقنها فيؤديها على خير وجه.

عادية الإنسان الصيني من أسرار تفوقه. فهو عادي لا يحاول القفز إلى ما يدور في ذهنك وإخراجه كلاما على لسانه، عادي يسأل عن تفاصيل تدهشك. فإذا كنت تجلس في مقهى بالصين وطلبت كوب ماء للشرب، مسألة في غاية البساطة، غير أن طلبك بهذه الصورة لا يكفي لأن يجيبك الصيني ويلبي مطلبك. عليك أن توضح ما إذا كنت تريده ماء باردا مثلجا أم ماء عاديا فاترا أم ماء مغليا أم ساخنا، ثم عليك أن توضح ما إذا كنت تريده ماء معدنيا أم ماء حنفية، وقس على ذلك. وأذكر أن دبلوماسيا عربيا في بكين شكا لي ذات مرة من سكرتيرته الصينية التي "لا تفهم"، وقال إنه ذات مرة طلب منها أن تتصل بمدير شركة يتعامل معها مكتبه. بعد قليل ردت السكرتيرة التي "لا تفهم"، حسب رأيه، قائلة إنها اتصلت وقيل لها إن المدير غير موجود. انتظر صاحبنا الدبلوماسي أكثر من ساعة وعاد يسألها، لماذا لم تتصلي بالمدير فلان، وردت الفتاة بأنها اتصلت، كما أخبرته، وهو غير موجود، فقال لها لماذا لم تعاودي الاتصال، فردت: أنت لم تطلب مني ذلك، و لو طلبت لفعلت. قلت له يا سيدي المسألة ليست أن السكرتيرة "لا تفهم"، وإنما اختلاف ثقافات، فالشخص الصيني تربى وتعلم أن يلتزم بالتعليمات والتوجيهات طالما أن موقعه في العمل هو التنفيذ، وقصصت عليه ما حدث معي عندما ذهبت إلى المقر القديم لوزارة الثقافة الصينية لأداء بعض الأعمال، وعلى البوابة الرئيسية للمبنى شرع الحارس يسجل بياناتي قبل الدخول، وفي الاستمارة التي أمامه يسجل بها الاسم والعنوان وبيانات أخرى موجودة بهويتي الشخصية التي أعطيته إياها، حتى وصلالخانة الخاصة بالنوع (ذكر/ أنثى)، وهو بيان غير مذكور في بطاقة هويتي، وعندما بلغها الحارس رفع رأسه وسألني: ذكر أم أنثى؟ فابتسمت له وقلت: أنثى! فابتسم هو الآخر بعد أن التقط المعنى وواصل التسجيل دون أن يقول شيئا، فالصينيون لا يعرفون ما يسمى بالفهلوة. (وللحديث بقية)