التشاور السياسي من معالم ديمقراطية الصين
التشاور السياسي من معالم ديمقراطية الصين
ياو بي

تعقد في بكين في شهر مارس كل سنة الدورة السنوية للمجلس الوطني لنواب الشعب والدورة السنوية للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني. يجتمع نواب المجلس الوطني وأعضاء المؤتمر الاستشاري السياسي من مختلف الأحزاب والقطاعات لتدقيق ومراجعة عمل الحكومة الصينية في السنة المنصرمة، وتقديم مقترحات للعمل بها في السنة المقبلة.
ولعل القارئ يتساءل عن الاختلاف الوظيفي بين المجلس الوطني لنواب الشعب والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، وعن دور التشاور السياسي في الديمقراطية الصينية، وعن نظام التعاون بين الأحزاب المطبق في الصين. في مقابلة حصرية مع ((الصين اليوم)) أجاب لي جيون رو، عضو المؤتمر الاستشاري السياسي، ونائب رئيس مدرسة الحزب التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على هذه الأسئلة بوضوح واستفاضة تامة.
((الصين اليوم)): ما هو الفرق بين المجلس الوطني لنواب الشعب والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني؟
لي جيون رو: المجلس الوطني لنواب الشعب نظام، بينما المؤتمر الاستشاري السياسي منظمة. يُنتخب نواب الأول من بين أبناء الشعب الصيني، بينما أعضاء المؤتمر الاستشاري السياسي يتم ترشيحهم عن طريق التشاور بين الأحزاب السياسية والأوساط والقوميات المختلفة وتعيينهم بعد مصادقة اللجنة الدائمة للمجلس الوطني والمؤتمر الاستشاري السياسي. المجلس الوطني لنواب الشعب هو الهيئة العليا لسلطة الدولة، ويمارس السلطة التشريعية ويقرر المسائل الهامة في حياة الدولة السياسية. ومن وظائفه وسلطاته الرئيسية: تعديل ووضع القوانين؛ والفحص والمصادقة على خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية وتقرير أحوال تنفيذها، وميزانية الدولة وتقرير أحوال تنفيذها؛ وإقرار مسألة الحرب والسلم؛ وانتخاب مسؤولي هيئات الدولة العليا وإقرار تعيينهم، يشمل ذلك انتخاب رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب وانتخاب وتعيين رئيس اللجنة العسكرية المركزية. المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني هيئة للمشاورات السياسية تدعو ممثلي مختلف الأحزاب والقوميات والأوساط لمناقشة شؤون الدولة من خلال تقديم البحوث والمقترحات والمشاريع أو عن طريق الوسائل الأخرى. لذلك، يقول رئيس مجلس الدولة قبل تقديم تقرير عمل الحكومة كل سنة: "أقدم تقرير عمل الحكومة للمجلس الوطني لنواب الشعب بالنيابة عن مجلس الدولة، يرجى التدقيق والإقرار". بينما يطلب من م أعضاء المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني تقديم مقترحاتهم حول التقرير. وظيفة المجلس الوطني لنواب الشعب هي تدقيق وإقرار التقرير، بينما دور المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني هو تقديم المقترحات.
((الصين اليوم)): لماذا يوجد المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني إلى جانب المجلس الوطني لنواب الشعب؟
لي جيون رو: خلال مسيرة سعيه إلى السلطة، كان الحزب الشيوعي الصيني ينظم صفوف الثورة عن طريق الجبهة الموحدة، أي توحيد جميع القوى التي يمكن توحيدها. في ثلاثينات القرن العشرين، تعاون الحزب الشيوعي الصيني مع حزب الكومينتانغ لأول مرة وشكلا الجبهة الوطنية المتحدة للكفاح ضد الإمبريالية والإقطاع. وفي فترة الحرب ضد العدوان الياباني في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، تعاون الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومينتانغ للمرة الثانية وشكلا الجبهة الوطنية المتحدة لمناهضة العدوان الياباني، مع العمال والفلاحين والبرجوازيين الصغار والبرجوازيين الوطنيين.
بعد الانتصار في الحرب ضد العدوان الياباني في عام 1945، تفاوض الحزب الشيوعي الصيني مع حزب الكومينتانغ في تشونغتشينغ، حيث تم إقرار عقد المؤتمر الاستشاري السياسي في سبيل إنشاء الحكومة الجديدة. ولكن، بعد وقت غير طويل من ذلك، نقض تشيانغ كاى شيك، زعيم حزب الكومينتانغ آنذاك، قرار عقد المؤتمر الاستشاري السياسي، وتأهب لشن حرب أهلية. في خريف سنة 1947، بدأت صفوف الحزب الشيوعي الصيني هجوما استراتيجيا مضادا. في 30 إبريل 1948، اقترح الحزب الشيوعي الصيني عقد مؤتمر استشاري سياسي جديد وعقد مجلس وطني لنواب الشعب وتأسيس حكومة ائتلافية ديمقراطية، وقد أثار ذلك ردود فعل إيجابية من مختلف الأحزاب الديمقراطية والمنظمات الشعبية والديمقراطيين غير المنتمين للأحزاب والمغتربين الصينيين.
لكن تطورات حرب التحرير جاءت على غير توقع الناس، فلم تمض فترة طويلة على عبور جيش التحرير الشعبي لنهر اليانغتسي، حتى انهارت حكومة نانجينغ، وصارت أماكن كثيرة بجنوبي نهر اليانغتسي بدون سلطة حاكمة. فضلا عن ذلك، لم يتم تحرير بعض المقاطعات وقتذاك، فلم تكن ظروف انعقاد المجلس الوطني لنواب الشعب ناضجة. قرر الحزب الشيوعي الصيني، بعد التشاور مع الأحزاب الديمقراطية، عقد المؤتمر الاستشاري السياسي مباشرة وإنشاء الصين الجديدة، فأنشئ المؤتمر الاستشاري السياسي بدلا من المجلس الوطني لنواب الشعب، كهيئة للسلطة في الصين الجديدة.
عندما حان الوقت ليعيد المؤتمر الاستشاري السياسي الوظائف للمجلس الوطني لنواب الشعب التي مارسها نيابة عنه، قبيل انعقاد الدورة الأولى للمجلس الوطني لنواب الشعب في سبتمبر 1954، لم يشعر كثير من ممثلي الأحزاب الديمقراطية بالارتياح أو الرضا، وقالوا: "كنتم تحتاجون إلينا عند تأسيس الصين الجديدة، لكن من السهل أن نفشل في الانتخابات العامة في حال إجرائها، فنحن الأحزاب الديمقراطية أقلية." وقد بذل الرئيس الراحل ماو تسي تونغ جهوده لإقناعهم بنفسه، حيث قال: "سلطتنا هي سلطة للجبهة المتحدة، ولن نتخلى عنكم بصفتكم أصدقائنا القدماء، وسنضع حقوقكم في عين الاعتبار عند إجراء الانتخابات العامة." لذلك، اتخذت دائرة أعمال الجبهة المتحدة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بعد التباحث في هذا الشأن مع رئيس مجلس الدولة الراحل شو آن لاي، طريقتين رئيسيتين لحل هذه المشكلة، إحداهما هي عدم انتخاب النواب بنسب متساوية في تمثيل المناطق الريفية والحضرية، من أجل ضمان تمثيل الأحزاب الديمقراطية والعمال والمثقفين والأقليات القومية التي عددها قليل في المجلس الوطني لنواب الشعب؛ والأخرى هي الاحتفاظ بالمؤتمر الاستشاري السياسي، ليكون لأعضاء الأحزاب الديمقراطية المنتخبين في المؤتمر الاستشاري السياسي فرصة المشاركة والمناقشة في شؤون الدولة من خلال المشاورات."
هناك ثلاث طرق لتحقيق الديمقراطية وهي: ديمقراطية الانتخابات وديمقراطية التشاور وديمقراطية التفاوض. منذ سنوات عديدة، لم تلفت ديمقراطية التشاور التي يمثلها المؤتمر الاستشاري السياسي أنظار العالم، بل لا يهتم بها الشعب الصيني نفسه. بعد حركة 4 مايو 1919، كان اهتمام الصين منصبا أكثر على الديمقراطية الغربية، أي ديمقراطية الانتخابات.
في ستينات وسبعينات القرن الماضي، شهدت المجتمعات التي طبقت ديمقراطية الانتخابات تغيرات جديدة كثيرة، حيث اتخذ الناس موقفا فاترا من الانتخابات، فقلت نسبة المشاركة بالاقتراع. ولكن يمكن بالفعل انتخاب زعيم سياسي من خلال الاقتراع، لكن هذا الزعيم المُنتخب غالبا ما يتنصل من تأدية مهامه السياسية وفقا لما تعهد به، بل يعمل وفقا لمصالح المجموعة التي يمثلها، وهذا ما يسبب دائما مشاعر خيبة الأمل لدى الناخبين.
ظهور هذه المشاكل جعل علماء السياسة في الغرب يعتقدون أن ديمقراطية الانتخابات ليست جيدة مائة في المائة. وقد نادى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بالجمع بين ديمقراطية الانتخابات وديمقراطية التشاور، بما يضمن للمواطنين المشاركة في الحوار قبل أو بعد الانتخابات. أقول دائما إن ديمقراطية الانتخابات الحقيقية هي ضمان حقوق ومصالح 51% من الناس مقابل التضحية بحقوق ومصالح 49% من أبناء الشعب. قد يبدو أن هذا النظام يضمن حقوق ومصالح كل مواطن في المجتمع، لكنه فعليا يضمن حقوق ومصالح 51%، بينما لا يمكن ضمان حقوق ومصالح الـ49% الأخرى. المجلس الوطني لنواب الشعب تجسيد لديمقراطية الانتخابات. في الوقت نفسه، وجود المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني يضمن حقوق ومصالح 49% من الناس الآخرين من خلال المشاورات. وبذلك، يمكن ضمان حقوق ومصالح جميع المواطنين مائة في المائة تقريبا من خلال الجمع بين ديمقراطية الانتخابات وديمقراطية التشاور.
للمجلس الوطني لنواب الشعب سلطة تشريعية، وللحكومة سلطة إدارية، ورغم أنه ليس للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني سلطة حقيقية، إلا أنه يستطيع أن يحقق نتيجة مقبولة لكلا الطرفين المعنيين عن طريق المشاورات الديمقراطية.
تطالب الوثيقة رقم 5 للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، والصادرة في سنة 2006، بتعزيز وظائف المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني بشكل متزايد. كما تم إدراج وظيفة المشاورات للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني في الوثيقة رقم 16 للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، الصادرة في عام 2011. بعد إصدار هذين الملفين، بدأت لجان الحزب والحكومات المحلية في أنحاء الصين تولي اهتماما كبيرا لمنظمة المؤتمر الاستشاري السياسي والديمقراطية التشاورية. وقد اتخذت مقاطعة قوانغدونغ قرارا بضرورة إجراء مشاورات المؤتمر الاستشاري السياسي قبل أن تتخذ لجنة الحزب فيها، أي قرار هام. كما أدرجت مقاطعة جيانغشي مشاورات المؤتمر الاستشاري السياسي في إجراءات الإقرار المحلية.
كان من الواجب المشاورات قبل وضع القرار، وقد أصبحت الآن لا غنى عنها. ولا تقوم لجنة الحزب ببحث ودراسة أي أمر هام بدون مشورات سياسية.
((الصين اليوم)): لماذا تطبق الصين نظام التعاون المتعدد الأحزاب وليس نظام التعدد الحزبي؟
لي جيون رو: نظام التعدد الحزبي هو انتخابات تنافسية، والعلاقة بين الأحزاب تنافسية. أما نظام التعاون المتعدد الأحزاب، فهو ينظم الجميع من خلال ديمقراطية التشاور. الحزب الشيوعي الصيني هو الحزب الحاكم، بينما الأحزاب الديمقراطية الثمانية الأخرى أحزاب مشاركة في شؤون الدولة. لذلك، العلاقة بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب الديمقراطية الثمانية ليست مثل العلاقة التي بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، بل علاقة بين الحزب الحاكم والأحزاب المشاركة في شؤون الدولة.
تنص وثيقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أن الأحزاب الديمقراطية تشارك في شؤون الدولة، وتشارك في المشاورات المتعلقة بسياسات الدولة العامة والخاصة وانتخاب قادة الدولة، وتشارك في إدارة شؤون الدولة، وتشارك في وضع وتنفيذ سياسات البلاد والقوانين واللوائح. قبل وضع أي قرار هام، يقوم الحزب الشيوعي الصيني بالتشاور مع الأحزاب الديمقراطية الأخرى. وقبل كل اجتماع شامل، تعقد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني اجتماعات ومشاورات مع قادة الأحزاب الديمقراطية. كما تشارك الأحزاب الديمقراطية في مناقشة جميع الوثائق، من ضمنها كافة تقارير عمل الحكومة. هذا هو أعلى مستوى للمشاركة في شؤون الدولة.
يتم اختيار جميع أعضاء المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني من قبل الأحزاب أو المنظمات الشعبية التي يمثلونها عن طريق المشاورات وليس عن طريق الانتخابات. ثمة نصوص واضحة على تشكيل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، ولا يجوز أن يتجاوز عدد أعضاء الحزب الشيوعي الصيني 40% من جميع أعضاء المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، ويجب ضمان أن يكون 60% من أعضائه من خارج الحزب الشيوعي الصيني.
في بنية النظام السياسي الصيني، الحزب الشيوعي الصيني هو نواة القيادة، ويتبع المؤتمر الاستشاري السياسي لقيادة الحزب الشيوعي الصيني بشكل عام، لكن الحزب الشيوعي الصيني لا يمثل إلا طائفة من بين 34 طائفة في المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني. لذلك، هو حزب حاكم، ويدفع الديمقراطية الشعبية بكل أمانة وإخلاص، ولا يمارس الدكتاتورية.
لقد نشأ نظام المشاورات السياسية من اهتمام الصين بالثقافة السياسية التشاورية. المشاورات لا تضع مصالح الأطراف المختلفة في عين الاعتبار فحسب، بل تستطيع السعي إلى أساس مشترك بشأن المسائل الرئيسية، مع تجنيب الخلافات حول المسائل الطفيفة والتوصل إلى الآراء المشتركة وتفادي المجابهة.
كان ياو، زعيم اتحاد القبائل في الصين القديمة، جمع زعماء مختلف القبائل للتشاور حول تحديد خليفته بعد ما كبر في السن. أبدى الزعماء آراءهم واستعرضوا المميزين في مختلف القبائل. وعلى ضوء تلك المشاورات والمناقشات، تم اختيار شون الذي يتحلى بالنزاهة السياسية والقدرة العملية. كذلك عيّن شون وريثه بهذه الطريقة. لذلك، فإن ديمقراطية المشاورات الشعبية في الصين، والتي تم طرحها من خلال التشاور بين حزب الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني، ليست نتيجة لاختيارات سياسية بسيطة، وإنما لها خلفية ثقافية عميقة