التعليم الإسلامي في الصين
كاتب المقالة (الخامس من اليمين) مع مجموعة من طلاب معهد لينشيا للعلوم الإسلامية في مقاطعة قانسو
التعليم الإسلامي في الصين
أسامة عبد السلام
منذ وصول الإسلام إلى الصين في القرن الأول الهجري، السابع الميلادي وحتى أواسط أسرة مينغ (1368- 1644)، كان تعليم المسلمين في الصين يعتمد على التعليم المنزلي، من خلال كبير الأسرة. وكان هذا النظام يفتقد إلى التنظيم والتخطيط، لكنه كان سائدا وسط التجمعات الإسلامية وكان الهدف منه هو الحفاظ على الإسلام والهوية الإسلامية. ولذلك لم يحرز هذا النظام أو الأسلوب تقدما كبيرا طوال تلك الفترة.
ومع ازدياد عدد المسلمين وانتشارهم في مناطق الصين المختلفة، تعرض الإسلام في الصين لمشكلة خطيرة، تمثلت في تناقص عدد الدعاة إلى الإسلام، فلم يعد هناك من يرشد المسلمين في أمور دينهم، حتى بات الأمر ظاهرة أُطلق عليها "نقص علماء الدين وخطر اندثار الإسلام في الصين" مع اتجاه كثير من المسلمين لدراسة الكنفوشية والفلسفة الطاوية وغيرها من الثقافات الصينية التقليدية. وقد زاد من صعوبة الأمر، السياسة التي اتبعتها أسرة مينغ والتي قضت بتحريم التجارة مع الخارج إلا في أضيق الحدود، فأصبح من الصعوبة استقدام علماء الدين من خارج الصين أو حتى سفر طلاب العلم المسلمين إلى البلاد الإسلامية للدراسة.
كل هذه الظروف دعت إلى ضرورة وجود نظام تعليمي منظم، يحفظ للمسلمين الصينيين عقيدتهم ويحفظ للإسلام بقاءه في الصين، فظهر ما يُسمى بالتعليم المسجدي والذي يعود الفضل فيه إلى العالم الكبير الشيخ هو دنغ تشو (1522- 1597). ولد السيد هو دنغ تشو في ويتشنغ بمقاطعة شنشي، وعاش في زمن الإمبراطور جيا جينغ (1522-1566) والإمبراطور وان لي (1573- 1620) لأسرة مينغ. بدأ هو دنغ تشو أولا بتعليم نفسه حتى وصل إلى مستوى متميز. ثم بدأ بعد ذلك في استقبال الطلاب، وأسس أول مدرسة مسجدية، أي مدرسة للتعليم تقام داخل المسجد، كانت النواة الأولى لما يسمى بالتعليم المسجدي في الصين. قبل الشيخ في مدرسته عددا من الطلاب وبذل معهم قصارى جهده. وما هي إلا سنوات حتى تخرج طلابه وانتشروا في المناطق المختلفة وكان من أبرزهم الشيخان هاي دونغ يانغ وفنغ شاو تشوان، اللذان قبلا أيضا أعدادا من الطلاب وبدأوا بالتدريس، فانتشر التعليم الإسلامي واتسعت دائرته لتشمل مناطق أخرى غير شنشي، مثل شاندونغ وهونان وهوبي ويوننان وقوانغتشي.
تطور التعليم الإسلامي وازداد انتشارا، وذلك بعد أن كثر أتباع الشيخ هو وتوزعوا في شرقي الصين وشمالها وجنوبها، فظهرت المدارس الإسلامية المختلفة والتي تمثلت كلها بمدرسة شنشي في نظامها وإن اختلفت معها في أسلوب الدراسة والمواد الدراسية التي تدرس. ومن أبرز هذه المدارس: مدرسة جنوب شرقي الصين والتي تأسست في نانجينغ، وسارت على نهج مدرسة شنشي في التركيز على علم الكلام وعلم التوحيد. ثم مدرسة شاندونغ في شرقي الصين والتي ركزت على ضرورة دراسة كتب الفقه وكذلك دراسة اللغتين العربية والفارسية. ثم مدرسة لانتشو في شمال غربي الصين والتي ركزت جل اهتمامها على دراسة علم التفسير. ثم مدرسة يوننان في جنوبي الصين والتي اهتمت بدراسة علوم الدين باللغتين العربية والصينية. وأخيرا مدرسة خهتشه في لينشيا بشمال غربي الصين، والتي ركزت على ضرورة تصحيح المفاهيم الإسلامية الخاطئة لدى مسلمي الصين، واهتمت أيضا بالفقه والشريعة.
لقد كان لهذه المدارس دور كبير في نشر التعليم الإسلامي وتطوره، فقد كان لكل مدرسة نظامها الخاص بها وعلومها الدراسية، مما أضفى على التعليم الإسلامي تكاملا وتنوعا كبيرا. وكان نظام التعليم في المدارس المسجدية يتكون من ثلاث مراحل: ابتدائية ومتوسطة وعليا. وكانت تستقبل الأطفال في سن الرابعة، فيدرسون معارف الوضوء والصلاة ومبادئ الإسلام إلى جانب كتاب (ختم القرآن)، وعندما يجتاز الطالب هذه المرحلة ينتقل إلى المرحلة المتوسطة فيدرس فيها عددا من الكتب العربية والفارسية، إلى جانب عدد من سور القرآن الكريم. وعندما يجتاز الطالب هذه المرحلة ينتقل تدريجيا إلى المرحلة العليا ويدرس فيها كتبا أكثر عمقا وأكثر تخصصا. وإجمالا، كانت العلوم التي تدرس في المدارس المسجدية تشمل: علم التفسير والفقه والحديث والنحو والبلاغة والكلام والمنطق. فإذا أتم الطالب دراسة هذه العلوم ورأى أستاذه أنه وصل إلى درجة معينة في العلم والفقه، وأصبح صالحا للإمامة والتدريس، تقام له حفلة تخرج تكون بمثابة إعلان عن نجاحه وحصوله على لقب معلم أو إمام، وكانت هذه الحفلة بالنسبة للخريج أعظم شرف يمكن أن يحققه أو يحصل عليه.
ظل التعليم الإسلامي على هذا النحو لقرون عديدة، ولكن بمرور الزمن ظهرت بعض العيوب في نظامه جعلته لم يعد يواكب أحداث القرن العشرين والتي شهدت الصين فيها تغيرات وتحولات في نظامها الجديد. لذلك أصبح تجديد التعليم المسجدي أمرا لا غنى عنه، ولذا بدأ بعض المثقفين من (قومية هوي)، والذين درسوا وعاشوا أعواما طويلة في المدارس المسجدية يدركون أن أسلوبها لم يعد يواكب العصر ومتطلباته، فبدءوا يفكرون ويسعون لتأسيس أسلوب تعليمي ديني جديد يناسب الأوضاع الجديدة.
وكان من أبرز هؤلاء المثقفين الشيخ وانغ هاو ران وزملاؤه، الذين كان لهم دور بارز في تأسيس المدارس الإسلامية الجديدة والتي تشمل العلوم الدينية والدنيوية. وبجهودهم وجهود عامة المسلمين شهدت فترة الثلاثينيات انتشارا للمدارس الإسلامية الابتدائية والإعدادية والثانوية على نطاق واسع، فخلال عشر سنوات، أسس المسلمون ما يقرب من 1500 مدرسة ابتدائية وإعدادية، وحوالي 300 مدرسة ثانوية، وكان نظام هذه المدارس كنظام المدارس الحكومية، لذا خضعت لإشراف المديريات التعليمية التابعة للحكومة المحلية إلى جانب الجمعيات الإسلامية التي كان نشاطها أعم وأشمل من المدارس، حيث كان بناء المدارس أحد أنشطتها إلى جانب نشاطات أخرى كانت تقوم بها مثل إصدار الصحف والمجلات الإسلامية وكذلك تنظيم النشاطات المختلفة للمسلمين الصينيين.
إلى جانب ذلك، شهد القرن العشرين بداية إرسال البعثات الصينية إلى الأزهر الشريف والتي كان لها أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية وازدهار حركة الترجمة من وإلى الصينية. كان للتعليم الإسلامي دور كبير في تخريج الآلاف من العلماء المسلمين، الذين نشروا الإسلام في ربوع الصين، وحافظوا عليه، وعلى ثقافته قرونا طويلة، أمثال: "تشانغ شي مي، وانغ داي يوي، ليو تشي، ما تشو، ما ده شين، تشانغ تشونغ، وون تسون تشي، ما مينغ شين، ما لا تشي، ما هوا تنغ لونغ، ما قوه يانغ، ما تشي شي. ثم تلاهم جيل آخر، من أواخر القرن التاسع إلى أواسط القرن العشرين أمثال: وانغ هاو ران، دا بو شنغ، ها ده شنغ، تانغ كه سان، سونغ تينغ، نا تشونغ، ما ليان يوان، ما ليانغ جيون، با شي تسيا، ما جيان (محمد مكين)، با شويي، وغيرهم كثيرون.
كان للتعليم الإسلامي دور كبير في الاهتمام بتأليف الكتب، وظهور الترجمة الإسلامية من العربية إلى الصينية، والعكس، وكذلك ظهور ترجمات معاني القرآن الكريم، وترجمات الحديث النبوي الشريف، والتي دفعت التعليم الإسلامي الصيني دفعة كبيرة، وقضت على عوائق ظلت لقرون طويلة حجر عثرة في وجه تطور الثقافة الإسلامية ونهضتها. خلف التعليم الإسلامي وراءه الكثير من التراث الحضاري مثل: لغة جينغتانغ (اللغة المسجدية)، وهي لغة كانت مزيجا من العربية والفارسية والصينية، استخدمت داخل المدارس المسجدية، وضعها المسلمون الصينيون من أجل نشر التعاليم الإسلامية، وهي إحدى الظواهر الاجتماعية والثقافية للمسلمين الصينيين. كما خلف التعليم الإسلامي وراءه الكثير من المخطوطات النادرة والقيمة، وهي تدل على التراث الحضاري القيّم الذي تركه المسلمون منذ عصور طويلة، تمثل في مخطوطات القرآن الكريم، ومخطوطات للكتب الإسلامية.
كان التعليم الإسلامي الصيني بمثابة حجر الزاوية في تاريخ الإسلام في الصين، فكان ظهوره في وقت كان فيه المسلمون الصينيون في أمس الحاجة إلى نظام تعليمي منظم يجذبهم إلى الثقافة الإسلامية، ويحضهم على حماية دينهم والحفاظ عليه، وقد قام التعليم الإسلامي بهذا الدور على أكمل وجه، فحمى الدين، وذاد عن الشريعة، وحفظ الملة، فعاش الإسلام والمسلمون قرونا طويلة وسط هذا المحيط الهائل من البشر، بل ضرب الإسلام بجذوره في الأرض، ورسخت أقدامه على تلك الأرض، حتى عد من أكبر أديان الصين، وعد المسلمون الصينيون ركنا هاما لا يُهمل، وذخيرة كبيرة للإسلام.