حيتان الحداثة تلتهم ملابس جلد السمك

يو ون فنغ، وارثة فنون صناعة منتجات جلد السمك.

   ملبس جلد السمك

 

حيتان الحداثة تلتهم ملابس جلد السمك

                             جياو فنغ

 

قبل اختراع الألياف الاصطناعية وانخفاض أسعارها لتكون في متناول عامة الناس، كان الناس يصنعون لباسهم من المواد الطبيعية الموجودة في بيئتهم، ومنها لحاء الأشجار وجلود الحيوانات. وكان أبناء قومية ختشه (إحدى الأقليات القومية الصينية)، يصنعون لباسهم من جلود السمك.

يعيش أبناء قومية ختشه في سهل سانجيانغ، الذي كونته أنهار هيلونغ وسونغهوا وووسولي، في شمال شرقي الصين. يبلغ عدد أبناء هذه القومية أكثر من 4600 نسمة، فهي واحدة من أقل القوميات الصينية أفرادا. في الماضي، كان أبناء قومية ختشه يعيشون على صيد السمك في الصيف، وعلى قنص الحيوانات في الشتاء، في بيئة يتوفر فيها السمك ولكنها تفتقر إلى القطن والقنب. لهذا كان أبناء قومية ختشه يستخدمون جلد السمك لصناعة ملابسهم وأحذيتهم وقبعاتهم ومفروشاتهم وأشياء أخرى، بل أن الخيط الذكي كان يستخدم في الحياكة كان يصنع أيضا من جلد السمك، حتى صار أبناء هذه القومية معروفين بأنهم "قبيلة جلد السمك".

كان أبناء قومية ختشه يرتدون الملابس المصنوعة من جلد الأسماك في موسم صيد السمك صيفا، بينما كانوا يرتدون ملابس مصنوعة من جلد الحيوانات في موسم القنص شتاء عندما تتجمد مياه الأنهار، ويخرجون إلى الغابات لقنص الحيوانات باستخدام زلاجات تجرها الكلاب.

ظل معظم أبناء قومية ختشه يرتدون ملابس مصنوعة من جلد السمك حتى ستينات القرن الماضي. خلال العقود الأربعة المنصرمة، مع دخول عدد كبير من المهاجرين إلى السهول، حدثت تغييرات عميقة في بيئتهم، فلم يعد الصيد والقنص يكفي لإعالة أسرهم، وأصبح معظمهم يمارسون الزراعة والتجارة. صار نزولهم إلى النهر قليلا وأخذ دور السمك في حياتهم يتراجع، وأضحى صنع اللباس من جلد السمك، بالنسبة لكثير منهم، إهدارا للوقت والجهد، طالما أن الملابس الجاهزة المصنوعة من مواد أخرى متوفرة. صار صنع الملابس من جلد السمك تاريخا لم يبق منه سوى الذكريات.

بعد رحيل عدد كبير من الحرفيين المتخصصين في صنع ملابس جلد السمك، أمسى هذا الفن التقليدي مهددا بالانقراض، غير أن وجود القليل منهم على قيد الحياة يبعث الأمل في إنقاذ هذا الفن.

في بداية تسعينات القرن الماضي، دشنت الحكومة الصينية مشروعا للحفاظ على الثقافات الشعبية، استطاعت من خلاله إعادة اكتشاف وإحياء ثقافة جلد السمك  لقومية ختشه. في سنة 1996وجد متحف ملابس القوميات التابع لمعهد الملابس ببكين، لباسا مصنوعا من جلد السمك يرجع تاريخه إلى أكثر من مائة سنة. نال هذا اللباس إعجاب مديرة المتحف السيدة يانغ يوان التي لم تر من قبل لباسا من هذا النوع، ولم تعرف عنه شيئا إلا من الكتب. في شتاء سنة 1999، ذهبت يانغ يوان إلى بلدة جيجينكو، المنطقة التي يقطنها أهالي قومية ختشه في مقاطعة هيلونغجيانغ، من أجل البحث عن الحرفيين الذين يجيدون هذا الفن القديم، وهناك التقت مع السيدة بيو تسوي يوي، البالغة من العمر 80 سنة، والدة الحرفية المتخصصة في ملابس جلد السمك يو ون فنغ. كانت الجدة بيو تسوي يوي قد توقفت عن صنع ملابس جلد السمك منذ سنوات، لارتفاع تكلفتها وتعقد وطول فترة صنعها.

بسبب صعوبة صيد سمك يكفي لصنع ملبس في الشتاء القارس البرد، عادت يانغ يوان خالية اليدين. في صيف تلك السنة ذهبت يانغ يوان إلى هناك مرة أخرى، وظلت تشترى الأسماك بنفسها لمدة أسبوع من الميناء حتى تضمن توفر الجلد المطلوب لصنع لباس. في نهاية الزيارة، عادت يانغ يوان ومعها لباس من جلد السمك، وقد قدمت لها يو تسوي يوي كل الأدوات اللازمة لصنع ملابس جلد السمك، قائلة إنها لن تصنع أي ملبس آخر من جلد السمك مهما كان الثمن. توفيت يو تسوي يوي بعد ذلك بفترة قصيرة. توارثت ابنتها يو ون فنغ حرفة صنع ملابس جلد السمك من أمها ، فقد بدأت تعلمها وهي في سن الخامسة عشرة.

التراث الثقافي غير المادي جزء مهم من التراث الثقافي العالمي، ودليل على عراقة التاريخ الصيني وحامل للثقافة الصينية، وله قيمة روحية عظيمة تجسد طريقة تفكير الصينيين وقدرتهم على التخيل ووعيهم الثقافي وإبداعاتهم. من أجل حماية واستخدام التراث الثقافي غير المادي على أحسن وجه، أعلنت وزارة الثقافة الصينية في عام 2006، الدفعة الأولى من التراث الثقافي غير المادي على مستوى الوطن، والتي أدرجت فيها صناعة منتجات جلد السمك لقومية ختشه، وتم اختيار يو ون فنغ كمتوارثة لهذا الفن على مستوى الصين.

من أجل إنقاذ الفنون القديمة لصناعة منتجات جلد السمك لقومية ختشه التي أخذت تندثر لعدم وجود قيمة عملية ومادية لها، بدأت بلدة جيجينكو  تطوير السياحة، فأقامت قرية الثقافة الشعبية، وخصصت مكانا فيها لبيع منتجات جلد السمك المتنوعة التي تصنعها يو ون فنغ. ذات مرة، طُلب منها أن تصنع ملبسا من جلد السمك مقابل خمسة آلاف يوان. كانت هذه لحظة فارقة في حياة ابنها، الذي حسب أن هذا النوع من اللباس لا قيمة له، فأقبل على تعلم طريقة صنعه من أمه، بل وشجع زوجته على تعلمه هي الأخرى.

في معرض الفنون التقليدية للتراث الثقافي غير المادي ببكين عام 2009، جذب اللباس الوحيد من جلد السمك في المعرض الأنظار. كانت مصممته وصانعته، يو ون فنغ، تجلس بجانبه مرتدية قبعة مصنوعة من جلد السمك وشعر الأرنب وحذاء من جلد السمك، وتجيب بابتسامة على أسئلة الزوار الذين احتشدوا بجانبها.

في العام التالي، أتيحت الفرصة لتقديم لباس جلد السمك أمام زوار من مختلف أنحاء العالم، حيث عرض لباس جلد السمك في معرض الإكسبو العالمي 2010 في شانغهاي، وقد اجتذب حشودا كبيرة من المشاهدين. كان ذلك اللباس يمزج بين اللونين الأشهب والأبيض، وعلى طرف كميه وحاشيته زخارف على شكل السحب والأمواج. قالت يو ون فنغ، إن هذا اللباس صنع بأكثر من خمسين قطعة من سمك السلمون، لا يقل وزن السمكة الواحدة منها عن خمسة كيلوجرامات. بالإضافة إلى الأعمال التحضيرية المعقدة بما فيها نزع جلد السمك والتجفيف والتلبين والتقليم، فإن عملية الخياطة اليدوية أتمها ثلاثة أفراد في اثني عشر يوما.

كانت الأسماك والحيوانات الداجنة والحيوانات البرية متوفرة بكثرة في طفولة يو ون فنغ. وكان صيد السمك من النهر أسرع وأسهل من شرائه في السوق. الآن، قلت كمية الأسماك، وقليلا ما نرى قوراب الصيد في النهر، رغم أن الصيادين يستطيعون صيد الأسماك في أبعد منطقة من النهر بالقوارب التي تعمل بالمحركات، ولكن الدخل من الصيد لا يكفي لشراء ديزل لمحرك القارب.

صار أبناء ختشه مثل غيرهم في أنحاء الصين، يشترون الأسماك من الأسواق والمتاجر. لقد أدى هذا إلى ارتفاع تكلفة ملابس جلد السمك. قالت يو ون فنغ: "جلود الأسماك الصغيرة لا تصلح لصنع الملابس، فهي تحتاج إلى جلود أسماك لا يقل وزن الواحدة منها عن أربعة كيلو غرامات، وهناك حاجة إلى العشرات منها لصنع ملبس متوسط الحجم. لا نشتري السمك إلا بعد أن يُطلب منا صنع ملبس، لأن تكلفة الأعمال التحضيرية لصنع لباس جلد السمك عالية جدا، تصل إلى ثلاثة آلاف يوان."

حاليا، تستخدم الخيوط القطنية في حياكة الملابس المصنوعة من جلد السمك. ما زالت يو ون فنغ تحتفظ بقطعة من غراء مثانة السمك الذي كانت تستخدمه في لصق الزخارف على حاشية الملابس. قالت إنها القطعة الأخيرة من غراء مثانة السمك، وإنها لا تستخدمه بسبب حرصها عليه، وهي تحتفظ به كتذكار فقط.

مع قدوم المزيد من السائحين إلى بلدة قومية ختشه، وحرص عدد كبير منهم على شراء المنتجات المصنوعة من جلد السمك، بدأت معرفة الناس تزداد أكثر فأكثر بهذا النوع من المنتجات التقليدية، وازدادت رغبتهم وحبهم لمنتجات جلد السمك. من أجل تعريف معظم الناس بثقافة قومية ختشه التقليدية، فتحت يو ون فنغ قاعة عرض خاصة بثقافة جلد السمك في قريتها، وتعمل فيها مرشدة متطوعة للزوار. تقدم يو ون فنغ لزوار القاعة، معلومات حول فنون جلد السمك باللغة الصينية ولغة قومية ختشه. أحيانا، يكون شرحها بالغناء، وهو من معالم ثقافة ختشه. يتحدث أبناء قومية ختشه بلغة غير مكتوبة، ويتم تدوين تاريخ القومية وتسجيله عبر هذه الأغاني والقصائد الشفوية التي تتناقلها الأجيال. الآن، عدد قليل من الناس يمكنهم التحدث بلغة قومية ختشه، وعدد أقل يمكنه الغناء بلغة قومية ختشه.

تعيش يو ون فنغ، البالغة من العمر ستين سنة، حياة غنية بالنشطات. بالإضافة إلى تعليم وتدريب حفيدتها وزوجات أبنائها الثلاث على صنع ملابس جلد السمك، تعلم أيضا الشباب غناء الأغاني الشعبية لقومية ختشه. تقوم أولا بترجمة كلمات الأغاني من اللغة الصينية إلى لغة قومية ختشه، ثم تعلمها للشباب شفويا. وبإمكان الشباب تسجيل دروس الغناء على جهاز التسجيل ثم سماعها مرارا وتكرارا بعد انتهاء اليوم الدراسي حتى يتمكنوا من حفظ الأغاني عن ظهر قلب وإجادتها.

تقوم يو ون فنغ بالرقص والغناء مع زملائها كل يوم، كواحدة من عضوات فرقة الرقص والغناء للقرية. يرتدي الجميع ملابس جلد السمك أمام الزوار، مدركين تماما أن التراث الثقافي لقوميتهم الذي يشمل اللغة والرقص والغناء واللباس والمباني ونمط الحياة، مهدد بالانقراض. إنهم يعملون بجد، ويأملون، أن يبقى هذا التراث النفيس حيا.