في رحاب الصين.. كانت لنا أيام

       

في رحاب الصين.. كانت لنا أيام                                          

المهندس: حسن شعبان

 الصدفة وحدها قادتني إلى التعرف عن كثب على الصين الجديدة. فقد توجهت إلى الصين في بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث كان الحوار ساخنا حول التحول الاقتصادي، وإطلاق الزعيم دنغ شياو بينغ مقولته الشهيرة "لايهم أن يكون القط أسود أو أبيض، ولكن الأهم أن يكون قادرا على اصطياد الفئران". تلك المقولة التي توقفت عندها طويلا، فكانت فكرتي عن الصين بأنها الدولة الشيوعية المنغلقة على نفسها في كل شئ، فما بالنا بالقطاع الاقتصادي الذي يعد مفتاح التغيير في أي مجتمع. شاهدت في الصين رؤيتين مختلفتين، إحداهما مغرقة في الحاضر الذي يعتمد على إدارة البلاد عن طريق الاقتصاد الموجه القائم على مبدأ الاشتراكية، والذي تتحكم فيه الدولة والأقاليم، بداية من الزراعة حتى صناعة الملابس الموحدة التي يرتديها الجميع بنفس الألوان. وعرفت الرؤية الثانية عندما زرت مدينة شنتشن في جنوبي الصين، التي انطلقت منها صيحة الزعيم دنغ شياو بينغ بأن تفتح الصين أبوابها لفرص الاستثمار، من أجل توفير فرص عمل وجذب رؤوس الأموال، وتطوير الصناعات، وفتح آفاق جديدة مع المجتمع الدولي.

نموذج فريد

 بعد سنوات من تطبيق نموذج الإصلاح الاقتصادي في الصين، ومتابعتي له عن كثب رأيت فيه نموذجا خاصا ليس له مثيل في العالم. إذا درسنا هذا النموذج، وحللنا نتائج الإصلاح الاقتصادي في كل الدول، فلن نجد دولة استطاعت تحقيق كل هذا النجاح الذي حققته الصين، لأنها بحق حققت معجزة. لقد بدأت الصين تنفيذ سياسة الانفتاح الاقتصادي على الغرب عام 1978، ولم يكن هذا الانقلاب في السياسة الاقتصادية من الانغلاق إلى الانفتاح وليد لحظة أو صدفة، ولكنه جاء بعد دراسات ومناقشات استغرقت وقتا طويلا، ثم أعيد بحثها في الدورة الثالثة الكاملة للجنة المركزية الحادية عشرةللحزب الشيوعي الصيني، وتبلورت في نظرية جديدة غيرت المفاهيم الأساسية في سياسات الصين الداخلية والخارجية، أطلق عليها "النظام الاشتراكي ذو الخصائص الصينية"، وهو نظام يجمع بين بعض آليات السوق ويسمح لبعض المناطق بحرية العمل لتطبيق آليات السوق بالكامل، مع الإبقاء على سلطة الدولة، والالتزام بالتخطيط الشامل الذي يسير بدقة وتنفذ فيه الخطط الخمسية بالكامل.

الانفتاح في الصين لم يتحقق بخطوة واحدة، ولم يفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات الأجنبية بين يوم وليلة، فقد قام على مبدأ، الإصلاح المتدرج في كل الاتجاهات وكل المجالات وشمل إصلاح النظم الإدارية وتطوير عقلية الموظفين والأخذ بسياسة الحساب والثواب العقاب، إصلاح التشريعات الاقتصادية، وإصدار قوانين تحدد بوضوح الإطار الذي يعمل فيه الاستثمار الأجنبي، وإصلاح هياكل الدولة بالاعتماد على كوادر من الخبراء والمتخصصين، وأصحاب المواهب والقادرين على تنفيذ السياسة الجديدة بعقلية متفتحة، وإصلاح نظم الرقابة والمحاسبة، لأن الانفتاح الاقتصادي يفتح الباب عادة للفساد، والانحراف الإداري. وأعقب نجاح التجربة الأولى إنشاء مناطق جديدة، داخليا وخارجيا. رأيت في زيارتي للصين تغيرا في عقول الناس، فقد أصبحت مفتوحة للفكر الجديد ولديهم رغبة في التطوير، يتحركون أكثر بعد أن كانوا مقيدين داخل المدن والقرى التي يولدون ويعيشون ويموتون فيها. أصبحوا يشعرون بأنهم جزء من العالم، ويفتحون بلادهم لكل من يزورهم من أي مكان في العالم، ويستعدون ليحتلوا مكانا متقدما ويشاركوا في قيادة العالم.

تحولات كبرى

هذه التحولات الكبرى لم تغير الصين وحدها، بل غيرت نمط علاقاتها مع العالم. فانتقلت العلاقات المصريةـ الصينية من نمط الحوار عن الماضي وبرزت أو تم إعلاء شأن مفاهيم أخرى. فالصين انطلقت في تحقيق أعلى معدلات التنمية واجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية وفي حجم تجارتها الخارجية، أما مصر فإنها رغم ما تقوم به من محاولات في معراج التنمية الاقتصادية لم تحقق الانطلاقة المطلوبة أو المرجوة وما تزال تواجه مشاكل مرحلة الإعداد للانطلاق الحقيقي، بعكس الصين التي تواجه مشكلة ما بعد مرحلة الانطلاق. هذا التحولات فتحت آفاقا جديدة لتعزيز العلاقات التاريخية المتميزة والمتطورة بين البلدين، والمتسمة بالنمو المطرد وكذلك التعاون المصري- الصيني على صعيد القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط. ومن منطلق تميز وتنامي العلاقات الثنائية بين مصر والصين، فإننا على ثقة من مواصلة الجانبين تعزيز تلك العلاقات مع زيادة المحتوى الاقتصادي لها، تماشيا مع الظروف التي تمر بها المنطقة، وحاجتها لجذب رؤوس الأموال والتدفق السياحي، وكذلك اجتذاب التكنولوجيا الحديثة والمتطورة واكتساب المعرفة الصينية في هذه المجالات والارتقاء بحجم التبادل التجاري بين البلدين. يستلزم ذلك بذل المزيد من الجهد، للعمل على تضييق الفجوة في الميزان التجاري، حيث من الصعب إلغاؤها بالنظر لتماثل المنتجات المصرية والصينية وما تتمتع به السلع الصينية من مزايا نسبية، والعمل على تدوير الفائض الذي تحققه الصين في ميزانها التجاري مع مصر، في شكل تمويل مشروعات مشتركة بين الطرفين وجذب المزيد من الاستثمارات الصينية إلى مصر، بما يوفر العملة الصعبة ويخلق فرص عمل جديدة وينقل التكنولوجيا ويسهم في تنشيط الصناعات الوسيطة ويخدم مصالح الجانبين.

أسفرت السياسة الصينية الجديدة عن وجود فائض لدى الصين، يدفعها إلى بحث عن الأسواق الدولية لاستثمار رؤوس الأموال المتوافرة لديها، ومن هذا المنطلق أيضا فإن مصر والدول العربية، تعد أرضا خصبة لمثل هذه الاستثمارات، خاصة وأن مناخ الاستثمار في مصر والدول العربية، سيكون أكثر جاذبية، بالإضافة لإمكانيات السوق المصرية الكبيرة والواعدة.

آمال عظيمة

إن مصر في عهدها الجديد وما يستشرفه المستقبل من آمال كبيرة في بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية تتسم بالشفافية والنزاهة، أمر يبشر بتدفق كبير للاستثمارات الأجنبية، بما فيها الصينية، حيث اتسمت الفترة السابقة بعدم يقين خيم على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. فالعلاقات المصرية- الصينية تتسم دائما بالتطور المطرد، بغض النظر عن الظروف، كونها علاقات تتصف بالعراقة وتتسم بمبادرات المساندة المتبادلة، والتعاون والمواقف المبدئية المتوافقة من قضايا الطرف الآخر، وهو ما يعكسه التشاور بين مصر والصين بشأن مختلف القضايا العالمية والإقليمية، والتعاون المصري- الصيني في عدد من الأطر الإقليمية أهمها منتدى التعاون العربي- الصيني، ومنتدى التعاون الأفريقي- الصيني، تقديرا لمكانة مصر وثقلها ودورها سواء في محيطها الإقليمي بالشرق الأوسط أو في إطار منظمة التعاون الإسلامي أو في دائرتها الأفريقية أو على مستوى العالم الثالث.

إن موقع مصر المركزي في الإطارين العربي والأفريقي، يجعل أيضا عوائد الاستثمار مضمونة من حيث المردود المالي، ومن حيث تأمين مخاطره في مناخ الاستقرار السياسي المصري والبيئة القانونية والاقتصادية الملائمة التي نتوقع أن تسود خلال الفترة القادمة. سيتيح ذلك للصين مجالات جديدة للاستثمار في مصر ودخول كل من سوقي البورصة والمال المصريين، في وقت تعد فيه البورصة المصرية، أحد أبرز البورصات الواعدة، متزامنا مع اتجاه مشروعات الخصخصة للشركات المصرية. ويبرز في هذا الإطار حرص الجانبين على التوصل لاتفاق بشأن الشركة المصرية- الصينية لتنمية المنطقة الاقتصادية الخاصة بشمال غرب خليج السويس، والعمل على جذب المزيد من الاستثمارات الصينية إلى مصر، خاصة وأن منطقة شمال غرب خليج السويس تمثل جزءا عزيزا من أرض مصر، يرتبط  في الذاكرة الوطنية لدى كل المصريين بانتصارات وطنية خالدة، فضلا عن الأهمية الإستراتيجية الفريدة وربطها بين شرق العالم وغربه وموقعها المتوسط بين قارات العالم القديم؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا.

 

دعم التعاون

من المنطقي أن تسعى كل دولة لتعزيز مكانتها الدولية، والصين من الدول الحريصة على ذلك لحماية مصالحها الذاتية وتماشيا مع منطقها الذي يعتمد على دعم التعاون مع العالم الخارجي. ومن هنا جاء ارتباط الدورين السياسي والاقتصادي في العلاقات المستقبلية بين مصر والصين. فمصر هي مفتاح الشرق الأوسط ومفتاح أفريقيا وهي البوابة الخلفية لأوروبا، وخاصة جنوبها وسياستها تتسم بالديناميكية بحيث يصعب تجاهلها حتى وإن بدت أحيانا تواجه مأزقا. ومن المجالات التي يمكن لكل من مصر والصين التعاون فيها مجال استخدام الطاقة المتجددة مثل توليد الطاقة من الشمس أو الرياح، حيث أن هذا المجال يمثل تكنولوجيا المستقبل، خاصة أن مصر والصين ليسا من الدول الغنية بالنفط. فأصبح من الحتمي مواجهة المستقبل عن طريق استخدام مزارع الرياح والطاقة الشمسية، كما أن الاستخدام المتزايد للوقود الأحفوري يساعد في تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري التي يعاني منها العالم كله. إن مصر بموقعها القريب نسبيا من أوروبا والإمكانيات الفنية المتاحة والمواد الأولية المتوفرة بمصر لتصنيع مكونات الخلايا الشمسية أو توربينات توليد الطاقة من الرياح بتعاون مع الخبرة الصينية، من شأنه أن يعود بالفائدة على الطرفين المصري والصيني. كما أن استخدام الخبرة الصينية في إدارة بعض المصانع الاستراتيجية مثل مصانع الغزل والنسيج وإنتاج الأسمدة من شأنه أن يرفع مستوى أداء هذه المصانع وإعادة طرحها على شكل مؤسسات قابلة للربح في البورصة المصرية. أما عن التعاون المتعدد الأطراف في القارة الأفريقية، فإنه يتضمن التعاون في إنشاء مشروع سد الأغا العظيم بجمهورية الكونغو وإنشاء خط للربط الكهربائي يعبر كلاً من جمهورية أفريقيا الوسطى والسودان وتشاد عبورا بالصحراء الغربية بمصر، وتصدير الطاقة المتولدة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط مما يعود بالفائدة على القارة الأفريقية على المدى البعيد. فالدراسات الفنية أوضحت أن الطاقة الهيدروليكية المتولدة من سد الأغا العظيم سيوفر طاقة كهربائية تنير 20% من القارة الأوروبية أو كل القارة الأفريقية، التي ليست لديها القدرة على استيعاب هذه الطاقة الكهربائية في الوقت الحاضر.

إن روح الجرأة والإقدام والمغامرة التي يتسم بها المستثمر الصيني عادت عليه بثروات طائلة، وعليه أن يعتاد هذه الروح الثورية في البحث عن الثروة كما اعتادها في مسيرة التنمية الكبرى التي بدأها الزعيم دنغ شياو بينغ وبذلك يتحول الضعف إلى قوة، والفقر إلى غنى، والعلاقات القديمة إلى علاقات مستقبلية متينة. هذه الرسالة لا نوجهها للمستثمر أو السياسي أو صاحب القرار في الصين فحسب، بل إلى نظيره في مصر عملا بالمثل العربي، إن الخير في الإبكار.

 

* مهندس استشاري، ومساعد رئيس حزب "الوفد" المصري.