فن التركيب في الصين
وو بينغ
في ثمانينات القرن الماضي، أقام الفنان التشكيلي الأمريكي روبرت روشنبيرغ، معرضا في متحف الصين الوطني للفنون، فأشعل شرارة شغف واهتمام الصينيين بفن التركيب. وخلال ثلاثين سنة تقريبا من الاستكشاف والتطبيق والتطوير، أصبح فن التركيب له رواده وجمهوره في الصين.
يستخدم فن التركيب، كونه غير مقيد بالتصنيف الفني، أدوات من فن الرسم والنحت والعمارة والموسيقى والمسرح والشعر والنثر والسينما والتصوير الفوتوغرافي والتسجيل السمعي والبصري، وكافة مستلزمات الحياة اليومية. وقد تطور هذا النمط الفني في الصين تطورا كبيرا.
إبداع الفضاء
في ميدان جيانغنان (الضفة الجنوبية لنهر اليانغتسي) بحديقة معرض إكسبو شانغهاي العالمي ينتصب عمل ضخم لفن التركيب يحمل عنوان ((رحلة الزمن))، أبدعه الفنان قوان هواي بين لحديقة إكسبو شانغهاي 2010. يجذب العمل الأنظار منذ افتتاح الإكسبو، باعتباره عملا ينتمي إلى ما يسمى بـ "فن الأرض" أو "الأعمال الترابية". عندما أبدع ((رحلة الزمن))، اختار قوان هواي بين أسلوبا يتيح للزوار العبور فوق العمل، ليخلق تفاعلا بين المشاهد والعمل الفني، باعتبار أن تفاعل المشاهد ومشاركته في العمل من أكبر خصائص فن التركيب.
موقع ((رحلة الزمن)) هو المقر الرئيسي السابق لمصنع جيانغنان للآلات (مصلحة جنوبي الصين لتصنيع الآلات)، الذي شهد التجارب التاريخية المختلفة للصين خلال مائة سنة. وفي ((رحلة الزمن)) استفاد قوان هواي بين من عارضة سفينة "باومين" الحربية، المصنوعة في مصنع جيانغنان للآلات، وكانت تعتبر في ذلك الوقت من السفن الحربية المتقدمة، التي يفخر بها الصينيون كونهم قاموا بتصميمها وصنعها بشكل مستقل. تدعم هيكل العمل ركائز لا يحصى لها عدد، تشكل في النهاية متاهة، تسمح للزوار بالدخول والخروج من مداخل ومخارج في تسع جهات مختلفة، وخلال اجتياز المتاهة، يمكنهم رؤية مئات القطع المفقودة للسفينة "باومين". يؤمن قوان هواي بين بأن المدينة الحديثة تجعل الحياة أكثر جمالا، ولكنه يدعو إلى عدم الاكتفاء بالاقتناع والقناعة بوفرة الحياة المادية، ويدعو إلى إعادة بناء الجوهر الإنساني للمدينة، فتلك مسؤولية تاريخية لكل جيل من البشر. يعمل الناس بنشاط في حياتهم اليومية ويفكرون في التاريخ ويتأملون الواقع ويتطلعون إلى المستقبل، ويجسد العمل الفني كل ذلك فنلمس فيه التاريخ مباشرة، ويكون المغزى أعمق وأبعد من النشاطات العادية الأخرى لتذوق الجمال.
((قوه .. يوان)) عمل نموذجي آخر لقوان هواي بين. في موقع العمل، يرى المشاهد قلوب ترامس منثورة على الأرض، وفوقها قطعة من حجر تايهو. الجمع بين هذين الشيئين يثير الخيال، فقلوب الترامس، التي تحفظ حرارة الماء، ضعيفة هشة وسهلة الانفجار، في جمع النقيضين يبدو وكأنه قنبلة موقوتة، أما حجر تايهو الصلب المعلق فوق قلوب الترامس، فهو في وضع منعزل، يبدو أنه سيطير إلى بعيد. لقد ظل حجر تايهو نوع الصخور الأثير لدى مثقفي الصين، فهو رمز للنبل والأناقة؛ أما قلب ترمس الماء فهو أداة الحياة اليومية الأكثر ارتباطا بحياة الصيني العادي (يضع الصينيون الماء المغلي في ترامس ترافقهم في كل مكان)، ويمثل الحياة العادية البسيطة. هذا الجمع بين النقيضين يعطي العمل قوة جذب داخلية ويجعله مثيرا للخيال. إن نفوس البشر تشبه حجر تايهو، المليء بالثقوب، ولكنها نفوس بديعة الصنع والخلق، تماما مثل حجر تايهو، وهي بديعة لدرجة تصيب من يراها بالذعر. هذا الشكل من العنف تتم ترجمته إلى وجود سجان يهدد بالانفجار في أي وقت، وهو دعوة من الفنان للناس بأن يعيدوا النظر في ما يعتبرونه من المسلمات
أحب الصينيون منذ فجر التاريخ البساتين. فالفلاح الصيني، على سبيل المثال، يبني سورا حول الفضاء الذي أمام بيته ليجعله حقل خضراوات، ويحرص المتعلمون والمثقفون على أن تكون لبيوتهم حدائق. يعبر البستان عن الذوق الثقافي لصاحبه، والبستان الممتاز يبقى مئات السنين. كلمة "يوان" في عمل ((قوه .. يوان)) تعني البستان في اللغة الصينية، ولكن المقصود ليس البستان العادي الذي نعرفه، وإنما الفضاء المركب. سبب تسمية العمل بهذا الاسم هو أن الثمانية تركيبات والأربعة أعمال فوتوغرافية للفنان في المعرض تنتمي لفترات إبداع مختلفة، وتظهر هذه الأشياء في الفضاء متشابكة مثل أشجار البستان. قال قوان هواي بين إن كلمة "قوه" في عنوان العمل لا تعبر عن الفعل فقط، وإنما تحمل معنى متحركا، يشمل الإدراك والشعور والتجربة، ولها معنى مجازي في مجال السيكولوجيا". هكذا أبدع الفنان قوان هواي بين "بستانا نفسيا".
تركيبات بالإنسان الحقيقي
يبدع الفنان جين فنغ أعمال تركيب مستخدما الإنسان الحقيقي. له صديق يحب الفن جدا ويعمل شرطيا. هذا الصديق لا يصدر منشورات شعبية فنية فحسب، وإنما له بصماته في الرواية والشعر والفن المعاصر أيضا، فصار مشهورا في الأوساط الفنية. رأى الفنان جين فنغ أن صديقه الشرطي الفنان الذي يلعب دورا اجتماعيا مزدوجا يمكن أن يثير تفكير الناس ويمكن أن يكون ملهما له. في عمل له بعنوان ((الشرطي المقلد)) يجلس هذا الشرطي الفنان بزيه الرسمي على قاعدة عمل نحت مغطى بالزجاج.
بنفس الأسلوب، أبدع جين فنغ عملا حول عجوز في مدينة دانيانغ بمقاطعة هوبي اسمها وانغ شياو ليو. هذه العجوز معروفة في مدينة دانيانغ لأنها ترعى أكثر من مائة يتيم. دعا جين فنغ هذه العجوز إلى المعرض ووضعها في دولاب، ومعها مستلزماتها المنزلية؛ دراجة وخزانة ملابس، واثنان من الأيتام كانت ترعاهما. كبر هذان اليتيمان برعاية العجوز وانغ، وتزوجا، وقد جاءا مع طفلين لهما إلى المعرض. أطلق الفنان جين فنغ على هذا العمل الضخم من فن التركيب اسم ((العجوز وانغ شياو ليو في السجلات)). الهدف من هذا العمل هو تسجيل المآثر الجليلة للعجوز الطيبة وانغ شياو ليو في سجلات التاريخ باستخدام عناصر بشرية حقيقية وأشياء أصلية عن طريق فن التركيب.
روعة الألياف
((الجدار القديم)) الذي أبدعته الفنانة شي هوي عمل ذو سمات صينية خالصة. في معرضها الشخصي، يرى المشاهد جدارا قديما مشيدا بأحجار متنوعة الأشكال. الجدار صلب مهيب تحت ضوء المصابيح. وعندما يقترب المشاهد من الجدار ويلمسه يكتشف أن الأحجار الضخمة ليست إلا قطع من عجين الورق والخيزران وخيوط القطن وغيرها من مواد الألياف الطبيعية المحبوكة أو المجدولة. هذا هو فن الألياف للفنانة شي هوي.
استغرق إنجاز ((الجدار القديم)) ثلاث سنوات. هذا العمل الذي يستعرض جمال الهدوء، هو الأكثر تفضيلا لدى شي هوي، والعمل الذي استغرق أطول وقت منها. يتكون ((الجدار القديم))، الذي يبلغ طوله حوالي عشرة أمتار، من أكثر من مائة قطعة "حجر" مغلفة بورق شيوان على السطح الخارجي وتستخدم مواد من الخيزران كركائز لها. أشكال الأحجار متنوعة والاختلافات بينها دقيقة للغاية. تحت إضاءة المصابيح، تبدو الأحجار بورق شيوان حية، وترمز إلى تقلبات الزمن والفضاء ومرور الوقت.
بدأت فكرة إبداع ((الجدار القديم)) أثناء الاستعداد لمعرض "فن الفضاء" لمنطقة آسيا عام 2003، الذي دعي إليه فنانون من دول كثيرة، منها إيران والهند والصين واليابان لإبداع أعمال لفن "النحت المرن" تمثل المدينة التي يعيش الفنان فيها. دعيت الفنانة شي هوي للمعرض. شي هوي، وهي من هواة رياضة المشي، لاحظت أن جدران الأفنية القديمة في ضواحي مدينة هانغتشو، وهو المكان الذي تتمشى فيه دائما، تختلف عن الجدار في شمالي الصين. جدار هانغتشو رطب وتنتشر عليه الطحالب ويغلفه ضباب الصباح، وهذا النوع من الجدران يندثر تدريجيا. بعد ذلك، سعت شي هو إلى إعادة إنتاج هذه الجدران باستخدام مواد مختلفة، حتى أنجزت في النهاية هذا العمل باستخدام مادة خفيفة هي ورق شيوان، الذي يستخدم في الرسم بالحبر في الصين.
شي هوي لها عمل آخر عنوانه ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية))، وظفت فيه كمية كبيرة من عجين الورق وألياف الخيزران لصنع كتب مفتوحة مساحتها حوالي مترين مربعين، وضعتها في قاعة المعرض، وأمامها زهور وأعشاب مجسمة تبدو كأنها نابتة من الكتب مباشرة. استخدمت شي هوي مواد صينية مميزة لتعرض الكتاب الطبي الصيني القيم ((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية)). استخدمت شي هوي ببراعة هذه العناصر لتجاوز الواقع، لاعتقادها بأنها أسلوب فعال للتعبير عن فكرتها.
قالت شي هوي: "من المهم أن يجد الفنان المواد المناسبة له. وقد وجدت أن ورق شيوان هو الأفضل، بعد مقارنته بالورق الغربي والزجاج واللدائن المقواة بالألياف الزجاجية وغيرها من المواد الحديثة. ورق شيوان طبيعي، وهو ورق صيني خالص، أليافه ذات قدرة تمدد عالية، فتبدو حية، فأشعر بأنني ألمس الورق وألمس نفسي وأنا أنجز العمل."
عُرضت أعمال شي هوي، وهي من أبرز الفنانين في الأوساط الفنية الصينية المعاصرة، في المتحف الوطني للفنون في برلين، ومركز جورج بومبيدو الوطني للفنون والثقافات بباريس، ومتحف الفنون الحديثة في أيرلندا، ومتحف جنوة للفنون المعاصرة في إيطاليا وغيرها. يقتني مركز يولنس للفنون المعاصرة في بكين بعض أعمالها.
((رحلة الزمن)) للفنان قوان هواي بين
((قوه .. يوان)) للفنان قوان هواي بين
((الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية)) للفنانة شي هوي