عنيبا: عطاء يتجاوز العرق والعقيدة
عنيبا: عطاء يتجاوز العرق والعقيدة
هاو جينغ
لم تكن السنة التاسعة بعد الألف الثانية للميلاد عاما عاديا في حياة السيدة عنيبا علي ما هونغ. في تلك السنة اختيرت هذه السيدة من قبل الجهة الصينية المعنية ضمن "أكثر عشر شخصيات تأثيرا في الصين". بعد التكريم الرسمي لها، رأت عائلتها أن تحتفي بها بإقامة مأدبة كبيرة يجتمع حولها الأهل والأصدقاء. ما يعيه جيدا أبناء عنيبا التسعة عشر، هو أنه لا شيء في وسعهم يمكن أن يردوا به جميل هذه السيدة التي ينعمون في حبها وحنانها منذ أربعة عقود من الزمن.
أسرة متعددة الأعراق
عنيبا، التي تبلغ من العمر سبعين حولا، ابنة لأب وأم من قومية الويغور في بلدة تشينغخه بمحافظة آلتاي بمنطقة شينجيانغ الذاتية الحكم لقومية الويغور. بعد وفاة والديها لم يكن للأسرة عائل غيرها. بعد سنوات، تزوجت من شرطي ينتمي لقوميتها اسمه أبيباو. في سنة 1970، توفي جار لها ويغوري وزوجته التي تنتمي لقومية القازاق بسبب المرض، وتركا ثلاثة أطفال. فكرت عنيبا في أمر هؤلاء الأطفال والمصير الذي يمكن أن يؤولوا إليه إذا لم يرعهم أحد. اقترحت عنيبا على زوجها أن يتقاسموا لقمة العيش مع الأيتام الثلاثة، فرحب الرجل وفتح باب داره للأطفال. وفي ليلة شتاء قارصة، جاءتها أخت لها تحمل طفلة عثرت عليها في الشارع . كانت الطفلة المسكينة تلبس أسمالا بالية، وتغطي رأسها بمنديل بائس، وتنبعث منها رائحة نتنة جعلت الأطفال الآخرين ينفرون منها. أعدت عنيبا ماء ساخنا لتغسل به الطفلة، وقد تألمت لرؤية القمل والقروح في رأس المسكينة. لم تجفل عنيبا، الأم التي ترعى أثنى عشر طفلا، ونظفت الفتاة جيدا. وقد تبين لاحقا أن الفتاة تنتمي لقومية هوي المسلمة وأن اسمها وانغ شو تشن. بحنان الأم الرءوم، وضعت عنيبا المرهم الطبي على القروح الملتهبة في رأس الطفلة، قبل أن يحملها زوجها إلى مستشفى محلية لإجراء الفحوص اللازمة. بعد أن عادت البسمة إلى شفاه وانغ شو تشن، وعاد البريق إلى عينيها واللون الوردي إلى خديها، رأت عنيبا أن الوقت قد حان لإعادة البنت إلى ذويها. ولكن عندما وطأت قدماها الكوخ المتداعي الذي قالت الطفلة وانغ إنه بيتها، وجدت السيدة أنيبا نفسها محاطة بسبعة أطفال يتضورون جوعا وبينهم والدهم المُنهك. والدة الطفلة وانغ، وهي أرملة من قومية هوي لديها أربعة أطفال، تزوجت مرة أخرى من رجل من قومية هان اسمه جين شيويه جيون، لديه ثلاثة أطفال، وقد توفيت بعد فترة من زواجهما. الأب مصاب بمرض مزمن وليس لديه مصدر رزق ثابت، وأطفاله لا يعرفون متى ومن أين ستأتي وجبتهم التالية.
نظرت إليهم السيدة عنيبا، وهم يرتجفون من شدة البرد تحت غطاء مهلهل، وعلى أرضية رطبة، وقررت أن تأخذ وانغ شو تشن وأشقاءها الثلاثة إلى بيتها. ورغم أن البيت مكتظ بمن فيه، ورغم قلة موارد الزوج، معيل العائلة، لم يتجرأ أحد على الشكوى من القادمين الجدد. وعندما علمت الحكومة المحلية بما تقوم به عنيبا من أعمال الخير، قررت صرف إعانة مالية قدرها 15 يوانا شهريا لكل يتيم ترعاه عنيبا. لا شك أن معونة الحكومة خففت الأعباء عن كاهل عنيبا، ولكنها لم تمحها تماما، فقد قررت عنيبا أن تسدد الفواتير الطبية المتراكمة على جين شيويه جيون منذ سنين. وتعبيرا عن امتنانه لها، عبر السيد جين عن رغبته، وهو على فراش الموت سنة 1989، بأن يتم دفنه على الطريقة الإسلامية، برغم أنه غير مسلم. بعد وفاته، أخذت السيدة عنيبا أولاده الثلاثة واحتضنتهم في عشها، ليزداد عدد أفراد العائلة إلى واحد وعشرين فردا.
كلهم أبنائي
لم يكن راتب أبيباو، وهو خمسة وأربعون يوانا، يكفي نفقات طعام وملابس وتعليم تسعة عشر طفلا. من أجل مساعدة أسرتها، بذلت عنيبا كل جهد ممكن وفعلت كل ما تستطيع حتى تكسب دخلا إضافيا للعائلة. كانت تفتش في القمامة عن أي شيء يمكن بيعه وتبحث في الحقول عما يصلح للأكل، بل عملت في تنظيف رؤوس المواشي المذبوحة في محلات الجزارة المحلية، وبسبب الماء البارد أصابها الروماتيزم.
عن تلك الأيام، يقول أحد أبنائها: "كأطفال، لم نكن نعرف حجم المعاناة التي تقاسيها أمنا. كنا نعرف فقط أن نتجمع حولها ونطلب المزيد من الطعام."
على مدى سنوات، كانت عنيبا تغادر البيت في السادسة صباحا ولا تعود إلا بعد منتصف الليل. وخلال وجودها في البيت، كانت تنهمك في غسل ملابس الأطفال، ثم تعد لهم الخبز الويغوري، ولا تنام سوى سويعات قليلة.
رغم كل هذه المعاناة المالية والجسدية، أصرت هذه السيدة على أن يلتحق الأطفال بالمدارس. عندما انتقلت وانغ شو تشن إلى بيت عنيبا، كان عمرها أربع عشرة سنة فألحقتها بالمدرسة. كانت الفتاة تشعر بالخجل وهي تدرس مع تلاميذ في نصف عمرها، ولكن عنيبا كانت تشجعها دائما وتقول لها: "ستتحملين في يوم ما مسؤولية بناء بلدك، فكيف تستطيعين ذلك بدون تعليم؟"
تتذكر وانغ شو تشن تلك الفترة قائلة: "كنا فقراء ولكن سعداء. كنا نلعب معا ونجمع الحطب، وكانت الضحكات في بيتنا أكثر مما في بيوت جيراننا."
في سنة أربع وتسعين وتسعمائة وألف، وبينما كانت الأسرة تستعد لحدث سعيد هو زفاف جين شيويه ليان، الفتاة ابنة قومية هان التي تبنتها عنيبا، اختطف الموت آبين، ابن عنيبا، حيث سقط عليه جدار وهو يساعد أحد القرويين في بناء حظيرة ماشية. رغم حزنها على ابن بطنها، تمالكت وهيأت لابنتها بالتبني حفل الزفاف المناسب كما كان مخططا له. وقفت قوية أمام جمع من ضيوف حفل زفاف ابنتها وطبعت قبلات على خد العروس وأعطتها خاتما ذهبيا، هو كل ما تملكه هذه الأم.
تقول السيدة عنيبا: "كل طفل في هذا المنزل هو ابني، وكل ما أتمناه لهم أن يكونوا سعداء في بيوتهم في المستقبل، ومتفوقين في أعمالهم."
إنها مشاعر كل أم، أياً كانت ديانتها أو عرقها أو لونها.
أسرة واحدة
كان أبناء عنيبا وأبيباو التسعة يشعرون بضيق من تفضيل الأبوين لأخوتهم بالتبني عليهم في كل شيء، ووقوف والدهم دائما إلى جانب الأيتام "الغرباء".
ذات يوم، سألت رحي، أصغر أبناء أبيباو، أباها: "لماذا أتيتم بهؤلاء الأيتام بينما نحن نعاني شظف العيش؟" جلس الأب وقرّْب ابنته منه وراح يحكي لها قصته. قال لها إنه كان يتيما وعانى من قسوة الحياة ومرارتها إلى أن التحق بالجيش الشيوعي. وعندما تقاعد من الخدمة في الجيش في خمسينات القرن العشرين وجد عملا في بلدة تشينغخه، وهناك التقى بعنيبا، التي كانت قد فقدت أبويها قبل وقت غير طويل. ساهمت ظروفهما المتماثلة في التقريب بينهما. وقال الرجل لابنته: "أنا وأمك حصلنا على الكثير من المساعدات السخية من العديد من الناس خلال السنوات الأخيرة، ولم يكن أحد يسأل من أي قومية نحن. كلنا، سواء من قومية هان أو الويغور أو هوي، أسرة واحدة. ربما لم نستطع توفير حياة رغيدة لكم، لكننا على الأقل وفرنا بيتا تستطيعون جميعا العيش فيه وتجدون من تنادونه بأبي وأمي، ولا تشعرون بالوحدة."
تعلمت الفتاة الصغيرة معنى العطاء، ومعنى أن تكون ممتنة.
جزاء الإحسان
كَبُر أبناء عنيبا وأبيباو التسعة عشر، وكلهم يعملون في مهن مختلفة؛ في التعليم والدوائر الحكومية وحتى الأعمال الخاصة. يتذكرون مآثر والديهم، وتزوجوا بأقران من أعراق مختلفة فتعزز التنوع العرقي لهذه العائلة، وصار تقديم العون للمحتاجين من شيمهم الأصيلة. وبعد الحادث المأساوي لوفاة آبين، أخذ أخواه من قومية هوي على عاتقهما مسؤولية تربية ابنته الصغيرة، وهي حاليا على وشك التخرج في الجامعة. في سنة 2007، علمت كريمان، كبرى بنات عنيبا، أن طالبة من قومية القازاق تفكر في ترك الدراسة بعد وفاة والدها ومعاناة أمها التي لا عمل لها، فسارعت بالاتصال بالطالبة ووعدتها بتقديم الدعم المالي لها لتواصل دراستها. وبعد زلزال سيتشوان المدمر سنة 2008، توجهت عنيبا إلى دائرة الشؤون المدنية المختصة، وأعربت عن استعدادها لتبني عدد من أيتام الزلزال. وحذت الكثير من العائلات حذوها.
وخلال أيام، جمع سكان هذه المنطقة النائية المتخلفة تبرعات قدرها أكثر من 3ر1 مليون يوان لمنكوبي زلزال سيتشوان.
أثبتت عنيبا وأبيباو وأبناؤهما أنه بالحب يمكن تخطي حواجز العقيدة واللغة، وملامسة نبع الحنان الإنساني في قلب أي إنسان.
اختيرت عنيبا علي ما هونغ ضمن "أكثر عشر شخصيات تأثيرا في الصين" سنة 2009