مشاهدات عربي ضمن 40 مليون مسافر في رحلة بين بكين وتيانجين
مشاهدات عربي ضمن 40 مليون مسافر في رحلة بين بكين وتيانجين
l محطات القطارات تحولت من ساحة انتظار إلى حدائق تجذب الزائرين
l شبكات مترو الأنفاق أصبحت ملتقى للشباب وأرقى بيوت الأزياء والتجميل
l وزير النقل المصري يعيد اكتشاف خبرة الصينيين في بناء الطرق والمواني والسكك الحديدية
l قريبا بنوك صينية تساهم في تمويل بناء وإدارة الخطوط الحديدية بين الدول العربية وأفريقيا
قام بالرحلة: عـادل صـبري
عندما فحصت التذكرة التي حجزتها على رحلة قطار بكين- تيانجين السريع الذي بدأ العمل قبل انطلاق أولمبياد 2008 بأيام، لاحظت أن زمن الرحلة 29 دقيقة. ذكرني هذا الرقم بتذكرة رحلة قطعتها منذ 12عاما بالقطار الفرنسي "تي جي في" الأسرع في أوروبا بين باريس ومدينة أكس لابان على الحدود الفرنسية السويسرية، فقد دُوّن على التذكرة أن الرحلة تستغرق ثلاث ساعات و19 دقيقة.
في الرحلة الأوروبية، التي جابت جبال الألب والسهول الفرنسية، ظننت أن التأخير أمر وارد ولكن لم أكن أفكر أن الوصول في الموعد المحدد مستحيل. كان القطار الفرنسي يسير بسرعة تصل إلى 250 كم في الساعة، واشتهر بأنه شريان أوروبا النابض والأكثر دقة في مواعيده منذ انطلاق قطار الشرق السريع الذي كان يربط اسطنبول بالعواصم الأوروبية. أما في الرحلة الصينية فالمشهد كان في غاية الاختلاف، فالمحطة الواقعة جنوبي بكين، أصابتنا بالدهشة من الوهلة الأولى، فالمداخل تٌظهر أن الركاب على موعد في مطار دولي، وليس مجرد ساحة لتجمع القطارات. فمنذ أن تطأ قدماك المنطقة المحيطة بالمحطة العملاقة التي تتسع لنحو 14 خط سكك حديدية في آن واحد، بنيت على غرار أفضل المطارات في العالم، ساحة ضخمة متصلة بكافة الخدمات والمرافق والمواصلات وتتلألأ صالاتها بالأنوار والنظافة ومزينة بالأشجار الصناعية والزهور الطبيعية، وتتراص على جوانب المداخل المضيفات الأنيقات ذوات الملابس الحمراء والزرقاء الزاهية. وتنتشر بين أروقة المحطة مقاعد وثيرة، ومكاتب لإرشاد الركاب إلى الرحلات المقررة سلفا. حداثة المكان تبهرك في كل شئ ابتداء من التنظيم، إلى الوقوف في طوابير قبل الرحلة المقررة بعشر دقائق كي تلحق بالقطار الذي يتحرك في موعده تماما. تضع هذه الحداثة علامات استفهام حول مستقبل النقل بالقطارات في عصر كان ركوب "تي جي في" الفرنسي حلما، أم اليوم فقد أصبح جزءا من الماضي السحيق.
عصر السرعة
انطلق القطار في موعده في تمام الساعة الواحدة ظهرا، وترك وراءه بعض رفاقنا الذين تباطؤا في الوصول إلى مقاعدهم في الوقت المحدد، وكان عليهم اللحاق بنا في تيانجين بعد دفع ثمن تذاكر جديدة، ونصف ساعة من التأخير عن موعدهم المقرر. عندما بدأ القطار يسرع الخطى، فتحت صدري لشهيق طويل استعدادا لطفرة في السرعة تحوله إلى ما يقال عنه بأنه "القطار الطلقة"، وركزت عيني على مؤشر يوضع في مقدمة العربات يبين سرعة القطار كل دقيقة، فإذا به ينطلق بسرعة 180 كيلومترا في الساعة تزيد إلى ما بين 340 و350 كم مترا في الساعة فترى الأرض تنساب وراءك دون أن تهتز فوق مقعدك. بعد لحظات اكتشفت أن القطار تهادى في تحركه وفجأة أعلن مرافقي أن الوقت قد حان للنزول، وعندما نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة و29 دقيقة.
هكذا قطع القطار الطلقة مسافة 180 كم بين بكين وتيانجين في أقل من نصف ساعة، وكانت المسافة تحتاج في الماضي إلى نحو ثلاث ساعات. وكما أصابتني السرعة بالدهشة وجدت أن نسبة الأمان العالية والتحديث الذي تشهده حركة السفر على الخطوط الداخلية بالمدن الصينية، لم تأت مغايرة عن واقع مجتمع يتحول بسرعة في شتى مناحي حياته. فحركة القطارات السريعة التي تسعى الحكومة الصينية للربط بها بين الشرق والغرب والشمال والجنوب متحدية سلاسل الجبال الشاهقة والطبيعة الصعبة، لا تستهدف فقط الربط بين الناس ولكن مد جسور الحداثة على أجنحة القطارات، في كل شبر من أراضيها. ويذكرنا المشهد بما فعله القطار في المجتمع الأمريكي في بداية نشأته وفورة ميلاد قوة عالمية كبرى.
في مترو الأنفاق
عند العودة على نفس الطريق، هبطت من محطة القطار إلى مترو الأنفاق في بكين، حيث لاحظت التحول الكبير الذي طرأ على خطوطه بعد استضافة الأولمبياد. فقد أصبحت له عشرة خطوط رئيسية ومحطات عبارة عن تحف معمارية، وعربات حديثة تنم عن امتلاك الصين لخبرات فنية وهندسية عريقة أدت في نهاية الأمر إلى إنشاء القطار الطلقة بالخبرة والجهود الذاتية للبلاد، مع قدرة على إدارة شبكات واسعة تحت وفوق الأرض، وعدة خطوط دائرية في عاصمة يصل عدد سكانها إلى نحو 18 مليونا. تحولت رحلتي تحت الأرض إلى رحلة مثيرة، فلم تعد تلك الأنفاق خانقة أو مخيفة يرتادها بعض الغرباء والسكارى، وبل الباحثون عن المتعة والشراء، خاصة عندما ذهبت في رحلة إلى شبكة أنفاق مدينة شانغهاي. فقد لاحظت أن جو الصيف الحار دفع بالمارة إلى التنزه في أروقة المترو، حيث يجدون أفخر محلات الملابس وأدوات التجميل، بل شاهدت عشرات الفتيات، وخاصة من العاملات في الشركات الكبرى وسط المدينة، يركضن إلى محلات التجميل والتدليك لنيل قسط من الراحة وتغيير تسريحات شعورهن كي تبدو زينتهن على أكمل وجه قبل بداية الفترة الثانية من أعمالهن. في مترو شانغهاي، الذي يتكون من 11 خطا تصل إلى كل شبر على مساحة يقيم بها نحو 20 مليون نسمة، تعرف لماذا أصبح القطار الطلقة والمترو النظيف السريع علامة مميزة للحياة الجديدة في الصين؟!. فكل شئ يجري بسرعة وعلى المقيمين في هذه المناطق اللحاق بأعمالهم، ومن يريد الدخول في معترك حياتهم عليه أن يلحق بهم بنفس السرعة أو يرتاد الوسيلة التي تمكنه من الوقوف في صفوفهم. لذلك لم يكن غريبا أن تسرع الحكومة الصينية في إقامة خط جديد للقطار السريع يربط بين بكين وشانغهاي سيتم افتتاحه العام المقبل ليقطع مسافة 1600 كم في خمس ساعات، وأن تنفق الحكومة نحو ثلاثة مليارات دولار أمريكي على خط تجريبي للقطار المغناطيسي الذي يسير بسرعة 420 كم متر يربط حاليا بين وسط المدينة ومطار شانغهاي، في محاولة لتعميمه في مراحل لاحقة.
رحلة الأربعين مليونا
ذكر بيان لوزارة السكك الحديدية في الصين أن أول خط سكك حديدية للقطار فائق السرعة في الصين والذي يربط بين بكين وتيانجين نقل 96ر40 مليون راكب منذ بدء تشغيله قبل عامين. وينقل الخط الذي بدأ العمل فى يوم أول اغسطس سنة 2008 نحو 125 ألف راكب يوميا بين المدينتين. وأشار البيان إلى أن مسار القطار السريع جلب المزيد من الزوار لمدينة تيانجين من بكين والمناطق المجاورة خلال العامين الماضيين مما أدى إلى انتعاش التجارة والسياحة وصناعات الخدمات وارتفاع مبيعات التجزئة في تيانجين بنسبة 5ر21 في المائة خلال سنة 2009 على أساس سنوي لتصل إلى 243 مليار يوان ( الدولار الأمريكي يساوي نحو 8ر6 يوانات). كما زادت الاستثمارات الأجنبية في تيانجين بفضل خط القطار السريع بنسبة 20 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي لتصل إلى 9ر5 مليارات دولار أمريكي.
ومن المتوقع بحلول نهاية السنة الجارية أن تحتل مدينة شانغهاي المرتبة الثالثة على مستوى العالم والمرتبة الأولى في آسيا من حيث خطوط المترو المفتوحة، بعد أن بلغ طولها 250 كم حاليا مع وجود 170 محطة. وقد دخلت شانغهاي، التي تعد المركز الاقتصادي والمالي في الصين، مرحلة من النمو السريع في مواصلات السكك الحديدية الحضرية، فقد شهد العام الجاري تشغيل خط المترو رقم 7 بطول 35 كم والمرحلة الثانية من الخط رقم 9 بطول 5ر14 كم والمرحلة الأولى للخط رقم 11 بطول 46 كم تقريبا فضلا عن المرحلة الثانية للخط رقم 8 بطول 2ر14 كم، لتضيف شانغهاي ما يزيد على مائة كيلومتر إلى مجمل طول خطوط المترو العاملة في شبكاتها المحلية. و قارب إجمالي طول السكك الحديدية العاملة داخل المدينة العملاقة على 400 كم مع افتتاح إكسبو شانغهاي 2010، ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 500 كم بحلول سنة 2012.
نقطة الانطلاق
قصة القطار الطلقة أو كما يحلو لي أن أسميه "قطار الشرق الجديد" لم تبدأ من فراغ، ففي أربعينات القرن الماضي احتلت الصين المرتبة الأخيرة في العالم من حيث نصيب الفرد في خدمات النقل، وكانت من أقل الدول الكبرى من حيث طول السكك الحديدية، حيث بلغ طولها اثنين وعشرين ألف كيلومتر فقط. وتظهر أرقام الإحصاء التي صدرت سنة 1997 أن طول خطوط السكك الحديدية في الصين بلغ 66 ألف كيلومتر وطول خطوط الملاحة الداخلية 110 آلاف كيلومتر وطول الطرق العامة 1226 ألف كيلومتر وطول خطوط الطيران المدني 1425 ألف كيلومتر. وبلغ عدد المراسي بالمواني الرئيسية أكثر من 1300 مرسى. كما شهدت منشآت النقل والمواصلات تحسنا، حيث ازدادت نسبة الخطوط المزدوجة للسكك الحديدية وارتفع عدد الخطوط المكهربة سنة بعد أخرى، كما استخدمت بعض التقنيات المتقدمة على نطاق واسع.
بين الشرق والغرب
قال نائب مدير مركز بحوث التنمية التابع لمجلس الدولة الصيني، ليو شي جين، إن الحكومة تخطط لإنشاء أكثر من 60 خط سكة حديد لخدمة المناطق الحضرية في 15 مدينة كبيرة من بينها بكين وشانغهاي وقوانغتشو وشنتشن. وقال ليو إن 72 في المائة من الخطوط الجديدة عبارة عن مشاريع لقطارات الأنفاق و10 في المائة لخطوط سكك حديد خفيفة و8 في المائة أنظمة سكك حديد أخرى. وتخطط الصين لمد السكك الحديدية بأكثر من 50 ألف كيلو متر في مناطقها الغربية الشاسعة بحلول سنة 2020. وقال يان خه شيانغ، نائب مدير إدارة تخطيط التنمية في وزارة السكك الحديدية، إنه سيتم تخصيص المزيد من الاستثمارات لبناء السكك الحديدية في المناطق الغربية خلال الأعوام المقبلة لخدمة الاقتصاد المحلي والتنمية الاجتماعية. وأكد يان خه شيانغ أن الوزارة ستٌسرع في بناء سكك حديدية رئيسية تحت الإنشاء حاليا وستعمل على بدء بناء المزيد من المشروعات مثل خط السكك الحديدية الذي يربط بين تشنغدو وقوييانغ وخط السكك الحديدية بين تشونغشينغ وقوييانغ وخط السكك الحديدية بين كونمينغ وناننينغ في أقرب وقت ممكن.
وتضم المناطق الغربية 12 مقاطعة ومنطقة ذاتية الحكم وبلدية ويبلغ عدد سكانها نحو 370 مليون نسمة وتحتل نحو 4ر71 في المائة من مساحة الصين. وقد زادت المساحة التي تغطيها السكك الحديدية في المناطق الغربية بنسبة 50 في المائة من 20 ألف كيلو متر إلى 30 ألف كيلو متر تقريبا في نهاية سنة 2008 لتشكل نسبة 36 في المائة من اجمالي خطوط السكك الحديدية في الصين.
طريق حرير جديد
مع تقدم الخبرة الصينية في إدارة شبكات السكك الحديدية العملاقة وتصنيع القطارات الفائقة السرعة بالخبرة والامكانات الذاتية، توجهت العديد من الدول العربية للاستفادة من هذه التجربة. فعندما قام المهندس علاء فهمي، وزير النقل المصري، والوفد المرافق له بزيارة للصين في بداية شهر أغسطس 2010، بحث مع وزير السكك الحديد الصينية، ليو تشي جيون، سبل تدعيم التعاون في مجال النقل والسكك الحديدية وتم الاتفاق على تشكيل مجموعة عمل من كل من الوزارتين لبحث تفاصيل مجالات التعاون المرتقبة خاصة في مجال تطوير شبكة السكك الحديدية المصرية، من قطاعات وعربات وتطوير نظم التحكم والصيانة وفي تصريح لـمجلة ((الصين اليوم)) أكد الوزير علاء فهمي اهتمام مصر بالتعرف على التجربة الصينية في مجال تمويل وإنشاء وادارة وصيانة خطوط السكك الحديدية .قال المهندس علاء فهمي إنه عرض على نظيره الصيني المشروعات المدرجة في خطة الحكومة المصرية لتطوير السكك الحديدية والخطوط الاقليمية والمترو والترام السريع وتم بحث سبل مشاركة الجانب الصينى في هذه المشروعات وسبل التمويل المقترحة لاسيما في ظل صدور قانون مصري يسمح بمشاركة القطاعين العام والخاص في إقامة وتمويل وإدارة وملكية هذه المشروعات الكبيرة. ودعا فهمي قيادات الشركة الصينية إلي زيارة مصر للتعرف على احتياجات الخطة على الطبيعة لدراسة الدخول في المناقصات الخاصة بمشروعات الطرق والأنفاق. والتقى الوزير وأعضاء الوفد المرافق له مع وزير النقل الصيني، لي شنغ لين، لمناقشة الحصول على الخبرة الصينية في تطوير شبكة الطرق واستخدام التكنولوجيا الحديثة في بناء وتشييد الكباري وتشكيل مجموعتي عمل لتطوير الأعمال في قطاعي النقل البحري والبري. والتقى فهمي مع رئيس بنك الصناعة والتجارة الصيني، الذي يعد الأول في مجال الاستثمارات والمساهمات المالية لقطاع النقل بقيمة 120 مليار دولار أمريكي، حيث أبدى رئيس البنك الاستعداد التام للتعاون مع الجانب المصري في تمويل وإنشاء مشروعات النقل التي تقوم بها شركات صينية. وأعرب علاء فهمي عن سعادته البالغة بالاهتمام الذي لاحظه من الجانب الصيني سواء على الصعيدين الحكومي أو الشركات الخاصة التي ترغب في إنشاء وإقامة مشروعات في مجال النقل في مصر، مشيراً إلى أن وجود بنك صيني قوي مثل بنك الصناعة والتجارة الصيني سيساهم في خلق ظروف تمويلية أفضل سواء بقروض ميسرة أو المشاركة في تنفيذ هذه المشروعات.
الجودة
أصبح القطار السريع في عيون المهندس علاء فهمي وأمثاله النموذج الإنمائي الصيني لأنه ـ حسب قوله ـ نموذج اقتصادي مختلف ومتميز، لاسيما في جذب الاستثمارات الأجنبية للاستفادة منها في مجال البنية الأساسية التكميلية والفوقية في مشروعات النقل، خاصة وأن الصين لديها شغف للاستثمار في إفريقيا وتسعى مصر إلى جذب هذه الاستثمارات في مشروعات السكة الحديد والنقل البحري بشكل خاص.
لم تكن رحلة القطار السريع بين بكين وتيانجين هدفها الوقوف على التجارب الناجحة ومدى إمكانية تطبيقها في مصر، فالصدفة وحدها أعادت اكتشاف المنتجات الصينية بشكل دقيق ومعرفة جودتها من أول الترام والسوبر ترام والمترو والقطار السريع والعادي والكهربائي إضافة إلى محطات القطارات بأنواعها المختلفة، خاصة بعد الجولة التي قمنا بها في مواني تيانجين وشانغهاي حيث شاهدنا طفرة في إنشاء وإدارة الموانئ البحرية من حيث النظم اللوجيستية الحديثة وطريقة إداراتها التي تستدعي ضرورة تعميمها في المنطقة العربية بأسرها. قد يصبح قطار الشرق الجديد، الذي يسير اليوم بين بكين وتيانجين، وسيلة للربط بين الدول العربية وإفريقيا والصين غدا عبر طريق حرير جديد تجرى شحناته خلال ساعات على سكك حديدية طويلة متخللة الصحارى الشاسعة التي كانت تجوبها في أشهر الإبل والخيول منذ مئات السنين.
مضيفتان واقفتان أمام القطار الطلقة بين بكين وتيانجين
مراسل "الصين اليوم" مع وفد عربي في صالة المغادرة بمحطة بكين الجنوبية
خط المترو الأولمبي الذي يصل مباشرة إلى منطقة الأولمبياد المركزية