محتويات العدد 2 فبراير (شباط) 2004

كلام من فوق دراجة!

كنت دائما أقول إن الذي يعيش في بكين بدون دراجة حافي القدمين، ولعلي لم أكن مبالغا؛ فعدد الدراجات في العاصمة الصينية يكاد يكون مساويا لعدد سكانها المقيمين إقامة دائمة، عشرة ملايين. وكانت الدراجة لها مهابة في الشارع وفي أماكن الانتظار، ولا زلت أذكر تعليقا لصديق زار بكين قبل عشر سنوات عندما رأى التبجيل الذي تحظى به الدراجة، حيث قال إن الدراجات في الصين مثل البقر في الهند (الهندوس يقدسون البقر ولهذا يسير في الشوارع حرا طليقا لا أحد يعترضه). بها هناك

في طرق بكين ومدن الصين الأخرى توجد عادة حارة مخصصة للدراجات، وإلى وقت قريب كانت أكشاك إصلاح الدراجات تلقاء أينما يممت مقود دراجتك، وفي كل متجر ركن لقطع غيار الدراجات. تشعر أنك في مملكة خاصة على عجلتين، أو أنك فوق طائر بدون جناحين يشق بك الأزقة الضيقة ويعبر بك الزحام وينتظرك في أي مكان وفي كل وقت. والدراجة في الصين خلقت ثقافة خاصة أثمرت حكما وأمثالا تضرب؛ فكل جزء في الدراجة القديمة يصدر صوتا إلا الجرس! بها هناك

وقد نشأت بين كثير من الناس ودراجاتهم القديمة علاقة خاصة، وأنا أعرف أصدقاء صينيين مازالوا متمسكين بدراجاتهم القديمة برغم ظهور أنواع جديدة أحسن شكلا وأخف وزنا وربما أكثر سرعة.  والدراجة كانت الدافع وراء تمسك البعض ببيوتهم القديمة ورفض الانتقال إلى أماكن أفضل من حيث المستوى السكني، فقد قالت زميلة إنها فضلت بيتها القديم المتواضع على شقة أوسع وأجمل.. لأن الطريق من البيت القديم إلى العمل تظلله الأشجار وهذا يريحني عندما اقطع المسافة من المسكن إلى العمل تحت ظل وعطر الأشجار. بها هناك

غير أنه قد يكون من المهم هنا أن نشير إلى أن بعض راكبي الدراجات يسببون أحيانا ارتباكات مرورية غير مبررة. وكان إلى وقت قريب إذا لمست سيارة دراجة يعتبر الأمر واقعة كبيرة تستلزم استدعاء الشرطة والتحقيق، وحتى إن كان راكب الدراجة هو المخطئ فإنه يطالب قائد السيارة بالتعويض والاعتذار. ولأسباب تتعلق بتاريخ الدراجة في هذا البلد ومدلولها الاجتماعي كان هناك دائما تعاطف من أجهزة الشرطة مع الدراجة. بها هناك

والدراجة تفرض أنماطا خاصة من السلوك واللبس على راكبها، فعليه أن يكون مرفوع الهامة مستقيم الظهر ناظرا إلى الأمام، ممسكا المقود بيديه باستثناء المتمرسين الذين يقودون الدراجة بالقدمين فقط. وعلى راكب الدراجة، والنساء خاصة، أن يرتدي ملابس كأجوال، فلا يحبذ للرجل ارتداء رابطة العنق والبدلة الرسمية لأن ذلك يعيق الحركة، وبالنسبة للمرأة البنطلون هو الأفضل أما التنورات والفساتين فتعقد الأمر وتفقد قيادة الدراجة متعتها. وفي أيام المطر يحب ارتداء واقي المطر البلاستيكي وليس حمل المظلة، فالأول يجعلك تتحكم في دراجتك بقوة خاصة في مواضع الانزلاق، والنظارة من الأدوات المطلوبة عند قيادة الدراجة، خاصة أيام الريح الشديدة والشمس الحارقة. بها هناك

ومن مزايا الدراجة، إضافة إلى كون قيادتها رياضة ممتعة، أنها تصل بك إلى مقصدك في الموعد الذي أردته، وتلك مزية يصعب أن تتوفر لوسيلة مواصلات أخرى في المدن الكبيرة. والدراجة وسيلة انتقال صديقة للبيئة، فلا هي تستهلك وقودا فتؤثر على موارد الطاقة المحدودة ولا ينبعث منها ملوثات تؤثر على البيئة التي تئن من مصادر التلوث، وفوق هذا وذاك وسيلة رخيصة. وفي المدن الكبيرة التي تفتقر إلى أماكن انتظار  كافية، الدراجة هي الحل الأمثل، تتركها على باب بيتك أو تحملها معك إلى غرفتك أو تفعل مثل كثيرين وتتركها تحت أحد الجسور القريبة من منزلك مع ملاحظة إقفالها جيدا. بها هناك

ولكن كما يقولون دوام الحال من المحال. مع التغيرات التي يشهدها المجتمع الصيني منذ انتهاج البلاد سياسة الإصلاح والانفتاح تبدلت أمور كثيرة، ومثلما ترك التغير الاجتماعي بصمته على كل وجه من أوجه حياة الصينيين، لم تستطع الدراجة، برغم رشاقتها، أن تنأى بنفسها عن ركب التغيير. بها هناك

الأرقام تقول أنه حتى نهاية العام الماضي تجاوز عدد الدراجات في العاصمة بكين عشرة ملايين، وهو رقم يزيد عما كان قبل عشر سنوات بمليوني دراجة، مما يعني أن الدراجة، حتى كتابة هذه الكلمات، هي وسيلة المواصلات الرئيسية لسكان بكين، ومن المتوقع أن تستمر كذلك خلال السنوات القليلة القادمة. ولكن الأرقام أيضا تقول إن البكيني كان قبل عشر سنوات يقود دراجته عشرة كيلومترات في المتوسط يوميا، الآن المعدل تراجع إلى أربعة كيلومترات! بها هناك

لماذا إذن يهجر كثيرون دراجاتهم إلى وسائل مواصلات أخرى؟  لكل أسبابه، وهي أسباب لا تنفصل عن التغير الاجتماعي الهائل الذي يشهده هذا البلد، وبمعنى أدق تحقيق الرخاء والحياة الميسورة التي يسميها الصينيون "شياوكانغ" وتغير نمط المأكل والملبس والقيم أيضا. بها هناك

السيدة وانغ هاي يون، البالغة من العمر ثلاثا وخمسين ربيعا، وضعت دراجتها، ربما كتذكار من الزمن القديم، في مخزن بالقرب من بيتها الجديد. تقول المحررة الصحفية ببكين إن الدراجة لم تعد عملية بالنسبة لها بعد أن انتقلت إلى البيت الجديد الذي يقع بعيدا عن وسط المدينة، فالمسافة بين البيت والعمل 12 كم، ولهذا تفضل المترو. البروفيسور  ليو شياو مينغ، نائب رئيس جامعة الفنون التطبيقية، يقول إنه مع توسع المدينة وانتقال الكثير من السكان إلى الضواحي وتحول وسط المدينة إلى متاجر وعمارات إدارية، من الطبيعي أن يتجه الناس إلى المواصلات العامة..باعتبار الدراجة وسيلة مواصلات خاصة! بها هناك

ومع نشوء فئة ذوي الياقات البيضاء يرى البعض أنه ليس من المناسب أن يقود الواحد منهم الدراجة إلى عمله وهو يرتدي رابطة العنق وبدلة العمل الأنيقة، مواجها عادم السيارات، التي أصبحت كثيرة، ومضطرا للتدافع ليجد مكانا لدراجته بين السيارات. يقول تيان تشونغ هونغ، وهو مهندس برمجيات، إن عددا قليلا من زملائه في العمل يركبون الدراجة حاليا، وأنه لم يعد هناك مكان لانتظار الدراجات بالقرب من الشركة التي يعمل بها. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لذوي الياقات البيضاء فما بالك بآنسة أنيقة رقيقة ترتدي فستان سهرة مدعوة إلى عشاء في مطعم  فاخر أو فندق خمس نجوم! بها هناك

لقد بات حلم المواطن الصيني بامتلاك سيارة خاصة كابوسا لشركات إنتاج الدراجات ومصلحيها وأنصار حماية البيئة، خاصة أن حلم السيارة لم يعد بعيد المنال، فالجيوب تنتفخ يوما بعد يوم وأسعار السيارات في الصين تهبط بشكل دراماتيكي. مدينة بكين التي لم يكن يجري على طرقها قبل عشرين عاما أكثر من ستين ألف سيارة  بها اليوم ما ينيف على مليوني سيارة يضاف إليها عشرون ألف سيارة جديدة كل شهر. امتلاك السيارة في الصين ليس مجرد وسيلة مواصلات، ربما أكثر راحة ورفاها، وإنما رمز للمكانة الاجتماعية والثروة وإشباع نفسي. تقول السيدة شي شيو، وهو مدرسة بالمرحلة الثانوية، تمتلك سيارة فولكس فاغن "إن امتلاك السيارة كان بالنسبة لجيلها سرابا لم يحلم لأحد أن يتحقق"  ومع توجه الحكومة إلى مواجهة أزمة الاقتصاد العالمي بتشجيع زيادة الطلب المحلي فإنها تشجع على امتلاك السيارات المنتجة محليا، والنتيجة أن طرق العاصمة التي تمت توسعتها بشكل يفوق التصور إضافة إلى الطرق الجديدة التي أنشئت، وصل الأمر معها إلى بناء الطريق الدائري السادس الذي يحزم بكين، ليصل إجمالي طول الطرق في عاصمة الصين 12852 كم منها 212 كم طرق سريعة، النتيجة  أن الزحام المروري، خاصة في أوقات الذروة أصبح شيئا مزعجا حقا. بها هناك

هذه الحالة المرورية الصعبة قادت السيارة إلى الزحف رويدا رويدا على مملكة الدراجات. كانت البداية على استحياء بتخطيط أجزاء من حارات الدراجات لتكون أماكن انتظار للسيارات، ثم تعدى الأمر  ذلك بالسماح للسيارات بالمرور من حارات الدراجات في التقاطعات للمنعطفين يمينا ويسارا، وفقدت الدراجة سطوتها  ومهابتها في مملكتها، وإن ظلت الدراجة الصينية الأكثر تفضيلا في العالم، فالصين صدرت في عام 2002 ثمانية عشر مليون دراجة قيمتها 530 مليون دولار أمريكي، بزيادة نسبتها 11,2% عن عام 2001، ولعل عزاء عشاق الدراجة مثلي أن الدراجة مازالت للأطفال الصغار حلما جميلا حتى وإن حملها الآباء في سياراتهم إلى النوادي والحدائق والشواطئ ليستمتعوا بها هناك. بها هناك

مع نهاية الرحلة فوق الدراجة ترن في أذني عبارة أستاذ بجامعة رنمين الصينية وهو يصرخ "إنه عبث أن يقود شخص وزنه سبعون كجم كتلة حديدية تزن ثلاثة أطنان وتشغل ستة أمتار على الأرض". بها هناك

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

قصة في صورة
موضوع تسجلي

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.