المقالات من المجلة | المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني

المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي- رؤية عربية

2017-10-01 08:30

مع اقتراب انعقاد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، ذلك الحزب الذي تأسس في عام 1921، قد يكون السؤال المشروع الذي ينبغي أن يُثار ويُبحث عربيا هو: كيف استطاع حزب سياسي في دولة تتشابه ظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية، مع عدد ليس قليلا من الدول العربية، أن يستمر ويتطور ويقود الدولة الصينية إلى ما هي عليه الآن؟ وما يبرر هذا السؤال أكثر، أن الحزب الشيوعي الصيني، مثل عدد من الأحزاب العربية، تأسس في فترة النضال من أجل التحرر الوطني. ولكن الحزب الشيوعي الصيني، الذي قاد كفاح الصينيين، استطاع أن يتحول من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. ليس هذا فحسب، وإنما أيضا قاد الصين على طريق التنمية وجعلها قبلة للباحثين عن أسرار التقدم السريع والاستقرار الاجتماعي والسياسي. الحزب الشيوعي الصيني هو الحزب السياسي الأطول بقاء في السلطة بدون انقطاع في العالم، متجاوزا الحزب الشيوعي السوفيتي والحزب الثوري الدستوري المكسيكي!

عربيا، هناك دول لديها خبرات وتجارب حزبية جديرة بالبحث والدراسة، ومنها السودان والعراق ومصر ولبنان وسوريا والجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، وهناك دول لا تعرف الأحزاب السياسية ومنها دول الخليج العربي. بيد أن التجارب الحزبية العربية لا تمثل نموذجا واحدا، فكل منها حالة خاصة تكاد تكون متفردة في ظروف نشأتها وتكوينها وطبيعة تمثيلها وتطورها. ليس هناك حزب عربي استطاع أن يعبر عن مصالح الغالبية العظمى من شعب بلاده، وأن يقود أمته ويواكب تطورات وتغيرات العصر ويحافظ على زخمه والتفاف الشعب حوله. وهنا، قد يكون من المفيد النظر في الحالة التي يمثلها الحزب الشيوعي الصيني.   

وحقيقة الأمر أن تعريف الحزب السياسي يتباين من مدرسة إلى أخرى وفقا لأيديولوجيتها. في الموسوعة البريطانية، الحزب السياسي هو مجموعة من الأشخاص المنظمين يسعون للحصول على السلطة السياسية وممارستها. أما عالم السياسة الفرنسي موريس دوفرجيه فيعرّف الحزب السياسي بأنه مجموعات صغيرة تنتشر في البلاد، ترتبط فيما بينها ارتباطا منظما وتنسق عملها للوصول إلى الحكم عن طريق الانتخاب. في حين يذهب التعريف الماركسي للحزب السياسي على أنه تعبير عن المصلحة الاقتصادية لطبقة معينة يكون هو طليعتها، ويصل إلى السلطة عن طريق التغيير والثورة. خلاصة ذلك، أن الحزب السياسي هدفه هو الوصول إلى السلطة سواء بالانتخاب وفقا لدوفرجيه، أو بالتغيير والثورة وفقا لكارل ماركس.

لقد عجت مراكز البحث ووسائل الإعلام الغربية، على مدى سنوات، بالدراسات والمقالات التي تنبأت بانهيار الحزب الشيوعي الصيني، بل والصين كلها. في العشرين من سبتمبر سنة 2014، كتب جميل أندرليني بصحيفة ((فاينانشيال تايمز))، تحت عنوان "إلى متى يمكن بقاء الحزب الشيوعي في الصين؟"، قائلا: "ترى نظرية التحديث أن النظم الاستبدادية تميل إلى الديمقراطية مع ارتفاع الدخل، وأن ظهور طبقة متوسطة كبيرة يعجل العملية، وأن التباطؤ الاقتصادي بعد فترة طويلة من النمو السريع يجعل هذا التحول أكثر احتمالا. إن التفاقم الخطير والمتنامي الذي يقترن بمستويات عالية من الفساد يمكن أن يضاف إلى الزخم اللازم للتغيير." ويخلص محرر الشؤون الآسيوية بالصحيفة البريطانية إلى أن "كل هذه العوامل موجودة الآن في الصين، لكن بعض المنظرين السياسيين، بمن فيهم الكثيرون في مدرسة الحزب المركزية، يقولون إن البلاد استثنائية ثقافيا وسياسيا، وأن موجة الانهيار التي لا تزال ترتفع عبر العالم العربي لن تصل أبدا إلى الشواطئ الصينية. ويعتقد آخرون، بمن فيهم بعض المثقفين الصينيين، والصينولوجيون الغربيون المتميزون، وحتى كبار أعضاء الحزب الليبراليين، أن هذه هي الأيام الأخيرة للحقبة الشيوعية، وأن الحزب ستتم إزاحته إذا لم يشرع في إجراء إصلاحات سياسية جادة قريبا." قبل ذلك، وتحديدا في عام 2001، أصدر الكاتب الأمريكي غوردون تشانغ كتابا بعنوان "انهيار الصين القادم"، والذي توقع فيه أن تنهار الصين اقتصاديا في غضون خمس سنوات على الأكثر، أي قبل أولمبياد بكين في عام 2008!

يقول الشاعر العربي أبو تمام الطائي: السيف أصدق أنباء من الكتب. الواقع يقول إن الحزب الشيوعي بصدد انعقاد مؤتمره الوطني التاسع عشر، وإن اقتصاد الصين هو الثاني عالميا، ويتقدم بخطى حثيثة نحو المركز الأول.

لا يمكن بحث حالة الحزب الشيوعي الصيني من دون النظر إلى ظروف نشأة هذا الحزب، الذي

تأسس رسميا في الأول من يوليو سنة 1921، بينما كانت الصين تشهد حالة من السيولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبمعنى أدق كانت شبه دولة. في سنة 1911، قام الصينيون بثورة أنهت الحكم الإمبراطوري الذي دام ألفي سنة، وتأسست جمهورية الصين برئاسة زعيم الثورة صون يات صن. ولكن السيد صون استقال في سنة 1912، وتولى الحكم يوان شي كاي الذي سعى إلى تنصيب نفسه إمبراطورا لتدخل البلاد في مرحلة من الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، دخلتها الصين إلى جانب الحلفاء، ولكن معاهدة فرساي التي ترتبت على هذه الحرب أهملت مطالب الصينيين بإنهاء الامتيازات الأجنبية وسيطرة الأجانب على الأراضي الصينية. وقد شعر الصينيون بالإهانة، وأدركوا عجز حكومة بلادهم، فخرج الطلاب في مظاهرات حاشدة في الرابع من مايو سنة 1919 احتجاجا على معاهدة فرساي. من رحم حركة "رابع مايو" ولد الحزب الشيوعي الصيني. ولكن الصينيين، الذين اختاروا النهج الشيوعي، واجهوا معضلة نظرية، فالفكر الشيوعي يستند إلى صراع الطبقات، وتحديدا الصراع بين طبقة العمال وطبقة الرأسماليين، وهما الطبقتان الرئيسيتان في المجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، ولا وجود لهما في الصين، التي كان فلاحوها يمثلون أكثر من 90% من سكانها، آنذاك. في هذه اللحظة التاريخية تحديدا؛ وضع الحزب الشيوعي الصيني بذرة تطوره، باتخاذ الريف والفلاحين القاعدة الرئيسية له، وليس المصنع والعمال. هكذا، ولدت مرونة الفكر مع ولادة الحزب الشيوعي الصيني، وحل الصينيون تلك المعضلة النظرية، مثلما استطاعوا، لاحقا، حل الكثير غيرها.

في سنة 1924، تحالف الحزب الشيوعي مع حزب الكومينتانغ لتشكيل "الجبهة المتحدة" الأولى للقضاء على أمراء الحرب الذين كانوا يسيطرون على أجزاء متفرقة من الصين، وشكل الحزبان الجيش الثوري الوطني. في سنة 1927، نقض زعيم الكومينتانغ تشيانغ كاي شيك اتفاق "الجبهة المتحدة" فدخل الحزبان في حرب أهلية استمرت حتى تشكيل "الجبهة المتحدة" الثانية في سنة 1936، استعدادا لمقاومة العدوان الياباني، واستمر تحالف الحزبين حتى أوائل سنة 1941، عندما وقعت "حادثة الجيش الرابع الجديد". ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية في سنة 1945 وهزيمة اليابان، دخل الحزبان الشيوعي والكومينتانغ في مرحلة صراع جديدة حسمها الحزب الشيوعي لصالحه وأعلن ماو تسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، في الأول من أكتوبر سنة 1949 قيام جمهورية الصين الشعبية.

بقيام الصين الجديدة، انتقل الحزب الشيوعي الصيني من الثورة إلى الدولة، فكان عليه أن يعيد بناء الصين اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، فشرع في تطبيق أول خطة خمسية للتنمية، وتضمنت إصلاح الأراضي والإصلاح الاجتماعي والإصلاح الثقافي والتخطيط الاقتصادي. وقد قادت تلك التغييرات إلى "القفزة الكبرى إلى الأمام والإصلاح الثقافي البروليتاري العظيم". ونظر الحزب الشيوعي الصيني بانفتاح إلى العالم الخارجي، وخاصة دول آسيا وأفريقيا، واستطاع أن يجعلها تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين، برغم اختلاف القيم والمفاهيم السياسية والنظم في تلك الدول عما هو في الصين. وحققت الصين في تلك الفترة إنجازات ملحوظة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ولكن الحزب الشيوعي، في تحوله من الثورة إلى الدولة، دخل مرحلة خطيرة عندما أشعلت عناصر معينة فيه "الثورة الثقافية الكبرى" من سنة 1966 حتى سنة 1976.

ولكن لأن هذا الحزب له عقيدة واضحة ويمتلك المرونة الكافية، فقد استطاع أن ينهض من كبوة "الثورة الثقافية". وفي الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني قرر الحزب تبني سياسة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي. كان محور هذه السياسة هو توجيه كافة الجهود لبناء الدولة. أدرك زعيم الحزب آنذاك، دنغ شياو بينغ، التغيرات التي شهدها العالم، وأنه لكي تتبوأ الصين مكانتها اللائقة فلابد أن تواكب تلك التغيرات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بـ"تحرير الفكر". آمن دنغ شياو بينغ بأنه ليس هناك أيديولوجيات جامدة وإنما مبادئ وأهداف ثابتة، فالمهم، حسب قوله، ليس المهم هو لون القط طالما أنه يأكل الفأر. سمح الحزب الشيوعي الصيني بتطور أعمال اقتصادية غير مملوكة للدولة وليست ذات ملكية جماعية، وشجع رأس المال الخارجي على الاستثمار في الصين، واتخذ إجراءات عديدة هدفها في النهاية هو تحقيق مزيد من الانفتاح الاجتماعي، وتبني "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".

ومع تطور الصين اقتصاديا وسياسيا وظهور قيم ومفاهيم وفئات اجتماعية قام الحزب بتعديل دستوره فدخلت فيه لأول مرة كلمة "الدين" وذلك خلال المؤتمر الوطني السابع عشر له في سنة 2007. وشمل التعديل أيضا خطوة غير مسبوقة حيث جاء فيه أن الحزب "يشجع بثبات ويدعم ويرشد تطور القطاع غير العام". وواصل الحزب تكيفه مع التغيرات التي تشهدها الصين والعالم، فشجع أصحاب الأعمال الخاصة على الانضمام إليه لتوسيع قاعدة عضويته بحيث يضم شخصيات تمثل كافة أطياف وتوجهات المجتمع الصيني. صار الحزب أكثر حيوية مع تولي قيادات شابة لمواقع عديدة فيه وصار أكثر انفتاحا في تعاملاته مع الأحزاب السياسية المختلفة في العالم، كما أصبح قادرا على استيعاب مستجدات العصر التقنية والفكرية.

ومع تولي شي جين بينغ منصب أمين عام الحزب الشيوعي الصيني، شهد هذا الحزب طفرة في تعاطيه مع التحديات الداخلية والخارجية، فأخذت الصين تكافح الفساد من جذوره، ذبابه ونموره، وتبنت نهج تنمية جديدا يقوم على الإبداع والابتكار وإدماج الشباب وغير الحزبيين في العملية السياسية، ومكافحة التلوث، ومحاربة البذخ والانحطاط في دوائر الحزب والحكومة، وغيرها من الإجراءات التي جعلت الحزب الشيوعي الصيني يقود حلم الصين بتحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية. وعلى الصعيد الخارجي، أطلقت الصين، أكثر من أي دولة أخرى في العالم، مبادرات تهدف إلى تنمية وسلام العالم، ولعل أبرزها مبادرة "الحزام والطريق"، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، بنك التنمية الجديد لمجموعة بريكس، الشراكة الاقتصادية الإقليمية، وغيرها من المبادرات التي جعلت الصين لاعبا دوليا فاعلا.

وختاما، ماهي الدروس التي ينبغي للأحزاب العربية أن تتعلمها من الحزب الشيوعي الصيني؟ الدرس الأول، هو أن هذا الحزب يمثل الصينيين جميعا، من كافة الأعراق والأطياف والعقائد والمناطق والمشارب، فهو يمثل الغالبية العظمى من الشعب الصيني؛ الثاني، أنه حزب مرن يطور نفسه وفق مقتضيات العصر والمستجدات داخليا وخارجيا؛ الثالث، أنه حزب يمتلك قدرة عالية على التعبئة ومتغلغل في كافة دروب الحياة الصينية ومرتبط بكل فرد يعيش على الأرض الصينية؛ رابعا، أنه يدرك التحديات التي تواجهه وتواجه الصين ويتعامل معها بواقعية متبعا نهج استخلاص الحقيقة من الواقع؛ خامسا، أنه حازم وحاسم في التعامل مع التهديدات التي تشكل خطرا على وجوده وعلى الأمن الوطني للبلاد؛ سادسا، أنه يدرس التجارب الناجحة والفاشلة للأحزاب والدول الأخرى ويستفيد منها.

هذه ليست دعوة لمحاكاة الحزب الشيوعي الصيني، وإنما استعراض لحالة نحسب أن فيها الكثير من العناصر المفيدة للتطور الحزبي في البلدان العربية.