مقالات من المجلة | منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي

"الحزام والطريق" والنظر للمستقبل في إطار التعاون الاقتصادي والسلام

2017-05-01 11:34

خلال جولته في آسيا الوسطى ودول جنوب شرقي آسيا في النصف الثاني لعام 2013، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ، على التوالي، مبادرتين هامتين للبناء المشترك لـ"الحزام الاقتصادي لطريق الحرير" و"طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين" (الحزام والطريق)، الأمر الذي نال اهتماما عالميا واسع النطاق.

طريق الحرير البري عبارة عن شبكة قديمة من الطرق نشأت وتطورت من شمال غربي الصين. وارتبط طريق الحرير في تطوره بالتجارة من وإلى الصين، وبينها وبين الشرق الأوسط عبر آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية. ومن الشرق الأوسط انتقل إلى أوروبا. ولم يكن طريق الحرير البري طريقا واحدا بل عدة طرق متقاربة وتتجمع حينا ثم تتفرق وفقا لخطوط سيرها. وارتبط اسم الطريق بتجارة الحرير التي كانت من أهم الصناعات الصينية، وصارت تدريجيا ذات سمعة عالية. وكان طريق الحرير من هذه البداية هو طريق حمل ثلاثة أمور: أولها، أنه حمل تجارة الحرير والسلع الأخرى مثل البهارات، ولكن أهم سلعة كانت الحرير؛ وثانيها، أنه حمل ثقافة آسيا الوسطى وآسيا الجنوبية من شبه القارة الهندية وعقائدها؛ وثالثها، أنه حمل الثقافة والأديان السماوية من الشرق الأوسط مثل اليهودية والمسيحية والإسلام.

 ومع تطور الزمن وظهور النهضة الأوروبية نقل الطريق الثقافة والحضارة الأوروبية إلى الصين، وإن ظل أكبر مؤثر في الحضارة الصينية هو الحضارة الهندية والعقيدة البوذية، بالإضافة إلى التراث الصيني التقليدي من كونفوشيوس ومو تسي  ولاو تسي وغيرهم من أصحاب المدارس الفلسفية، وخاصة مدرسة المشرعين المعتمدة على القانون. وهكذا لعب طريق الحرير دوره في نقل ونشر الحضارة الصينية لأوروبا عبر القارة الآسيوية، ونقل الحضارة الأوروبية وحضارة الإسلام وقبله حضارة الرومان واليونان والفرس إلى الصين.

وقد عبّرت الحضارة الصينية عن مفهوم التركيب بين المتناقضات والتأليف بينها في فلسفة "ين ويانغ" وانتشر المفهوم في الحضارات الأوروبية وبين العقائد الدينية السماوية، في ثنائية الخير والشر والظلم والنور والليل والنهار والحياة والموت والأنوثة والذكورة، وهكذا.

ولعله مما يذكر أن أهم عشرة اكتشافات في العصور القديمة ظهرت في الصين، ومنها اكتشاف النار والبارود والبوصلة والورق والطباعة. كما عرفت الحضارة الصينية الفلسفات العظيمة مثل فلسفة كونفوشيوس ومدرسته وفلسفة لاو تسي ومو تسي وفلسفة المحبة المطلقة، كما عرفت الفكر العسكري الاستراتيجي في فكر سون تسي الذي طبق فكره العسكري الاستراتيجي عمليا واستخدمه في توحيد المناطق الصينية.

في العصر الحديث، تراجع طريق الحرير نتيجة الحروب والاضطرابات، ومن ثم اضمحل دوره وظل أثرا غير نشيط حتي القرن التاسع عشر، عندما زار الصين كثير من المفكرين والعلماء الأوروبيين وانبهروا بحضارة الصين وتقدمها مقارنة بحالة أوروبا في العصور الوسطى. وكان أول من استخدم تعبير طريق الحرير الأكاديمي الألماني فرديناند فون ريتشثوفن، الذي زار الصين سبع مرات، من عام 1868 إلى عام 1872. واستمد رتشثوفن التسمية من أهم سلعة كان يتم نقلها والتجارة بها من الصين، وهي الحرير. تراجعت أهمية طريق الحرير مع التطور في وسائل النقل والمواصلات والنهضة الأوروبية الكبيرة بعد الثورة الصناعية والكشوف الجغرافية، وإن ظلّ شاهداً على المدى الذي وصلت إليه الحضارة الصينية القديمة، والتطور في علاقاتها مع الدول الأخرى وانفتاحها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً على العالم الخارجي.

ومع التقدم الذي حدث في الصين المعاصرة اقتصادياً، واتجاهها للانفتاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وسعيها لتطوير علاقاتها على أسس جديدة في التعامل مع العالم المتغير في القرن الحادي والعشرين، عاد التفكير في موضوع طريق الحرير ودوره وكيفية إحيائه بمنظور جديد. ومن هنا طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق"، في زيارته لكلٍّ من كازاخستان في سبتمبر 2013 ، وإندونيسيا في أكتوبر 2013، كما أشرنا سابقا. ولعل اختيار هاتين الدولتين لطرح هذه المبادرة لوجود إحداهما على طريق الحرير البري، والأخرى على طريق الحرير البحري. استهدفت المبادرة ربط طريق الحرير القديم بما أسماه الرئيس الصيني بالحزام والطريق وأن يكون الطرح متناسبا ومتلائما مع  الظروف والاحتياجات التنموية للصين في القرن الحادي والعشرين الذي يتميز بست سمات: الأولى، أنه عالم متشابك ومتداخل وتعتمد أجزاؤه على بعضها البعض، ومن ثم فإن مفهوم "الحزام والطريق" يعني تداخل الاقتصاد والتنمية مع التجارة التي كانت أساس طريق الحرير القديم؛ ثانيا، أن المفهوم الجديد يضيف بعدا جغرافيا تنمويا، فهو يسعى ليكون الطريق القديم وحزامه الجديد، أداة دفع للاقتصاد على ثلاث ركائز هي: التنمية والاستثمار والثقافة، فعلى الطريق وحزامه ستقوم مراكز تنموية جاذبة للاستثمار، ونقاط تلاقٍ حضاري، وتفاعل بين الصين والدول التي يمر عبرها طريق الحرير البري والبحري وحزامه؛ الثالثة، أنه يربط بين الحضارة الصينية القديمة كمرجعية فكرية وتجارية وثقافية، وبين فكر الصين الحديثة في القرن الحادي والعشرين، الذي يقوم على التنمية كأداة للتقدم، وأداة للتعاون الدولي. فالتجارة الخارجية هي القوة الجاذبة للاستثمار، والدافعة للتنمية على غرار ما حدث في عملية الانفتاح الصيني التي أطلقها الزعيم دنغ شياو بينغ عام 1978، والتي يطلق عليها "المعجزة الصينية". ومن ثم سعى الرئيس شى لتحقيق معجزة جديدة ترتبط بالتعامل مع العالم الخارجي، في إطار مفهوم السلام والتعاون الدوليين على أساس المصالح المشتركة والاستفادة المتبادلة؛ الرابعة، أن الطرح الجديد يتماشى مع مفهوم تعزيز التعاون الإقليمي في تعامل الصين مع العالم الخارجي، وخصوصاً مع الدول الآسيوية والشرق الأوسط وأفريقيا. ولعل مما يذكر أن أهم أداتين للتعاون الإقليمي المعاصر أنشأتهما الصين هما منتدى التعاون الصيني- الأفريقي عام 2000، ومنتدى التعاون الصيني- العربي عام20014. ومن الجدير بالذكر أن المنهج التنموي الصيني يقوم على دراسة متعمقة للفكرة قبل طرحها. وكذلك حرصت الصين على البدء في المناطق الاقتصادية الخاصة  والبدء بها تجريبيا في مناطق محدودة، وهذا ما حدث في إنشاء تلك المناطق في خمس مناطق ثم أصبحت أكثر من مائة منطقة في طول البلاد وعرضها؛ الخامسة، أن نقل العملية التنموية الصينية إلى الداخل والغرب الصيني كان أول من طرحه هو الرئيس الصيني الأسبق جيانغ تسه مين لإحداث عملية تنموية بهدف التقريب بين تلك الأقاليم ونظيراتها في الشرق في مجال التنمية، وللحد من الفوارق الضخمة في دخول الأفراد وبين الأقاليم؛ السادسة، طرح النموذج الصيني أمام العالم الخارجي ليس لنقله حرفياً بل للاستفادة منه وإقامة نظير له في إطارٍ من التعاون بين الصين والدول الأخرى، على أساس مبدأ المنفعة المتبادلة للأطراف المشاركة في التنمية. وهذا ما طبّقته الصين في أفريقيا بوجه خاص، وحقق تقدماً ومنافع للطرفين. وتسعى الصين لتوسيع هذا النموذج، ولهذا زار الرئيس الصيني شى جين بينغ أفريقيا في مارس 2013 بعد انتخابه مباشرةً، كما زارها رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ في مايو 2014.

ومن الملفت للنظر في الزيارتين أنهما تمتا على أرفع مستوى للقيادة الصينية، رئيس الدولة ورئيس مجلس الدولة، وقدّم كل منهما مساعدات لأفريقيا. فقدم الرئيس الصيني عرضاً بعشرين مليار دولار أمريكي لتمويل عمليات التنمية والبنية الأساسية ما بين عامي 2013 و2015، في حين قدّم رئيس مجلس الدولة عرضاً باثني عشر مليار دولار أمريكي، منها عشرة مليارات كخط ائتماني إضافي، وملياران لصندوق التنمية الصيني- الأفريقي لتصل القيمة الإجمالية للصندوق إلى خمسة مليارات دولار أمريكي. وركّز على تمويل خطوط القطارات الفائقة السرعة للتواصل بين الدول الأفريقية بعضها البعض، وتعزيز التنمية في أنحاء القارة، موضحاً أن لدى الصين تقنية متقدمة لتحقيق ذلك، فضلاً عن تقديم مائة مليون دولار أمريكي كمساعدات لحماية البيئة البرية.

--

د. محمد نعمان جلال، سفير مصر الأسبق لدى الصين، عضو مجلس إدارة مؤسسة كونفوشيوس الدولية، عضو المنتدى الدولي الدارسين للشؤون الصينية بأكاديمية شانغهاي للعلوم الاجتماعية، وعضو منتدى بكين العالمي للثقافة.