العالم... من متوالية الانحدار إلى طريق الحرير

لعل التاريخ السياسي وعلى امتداداته الضاربة في أعماق جغرافيا الزمن، يعد أصدق الشهود على تلك الإمبراطورية التي تواطأت- بمهارة واحترافية- على تحجيم حلمها الاستراتيجي وتقويضه كتلك الإمبراطورية الأمريكية، المنفلتة من أي توجه سياسي له طابع إنساني. فلم تكن أدنى التوقعات تعد مشيرة بحال لإرهاصات بزوغ متوالية الانحدار على الصعيد العالمي، إلا أنها قد تحققت بالفعل وبات المحيط الكوني مشمولا بهواجس الدمار بعد أن أصبح من قبيل الاستحالات الكبرى طمس الملامح المشيرة لفقدان الأهلية السياسية للقيادة الكونية المتصارع عليها من قبل قوى عديدة. لكن كافة المعايير تشير إلى ثقل الوزن النسبي للكتلة الصينية على كافة تلك القوى من حيثيات ربما تفوق الحصر. ومن ثم، فهي تحسم الصراع المحموم حول قضية القيادة؛ ليس من منطلق تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن أداء دورها في إدارة الملفات الدولية، ولكن لفشل الاستراتيجية التي تدار بها هذه الملفات المنطوية على قضايا حيوية لا تحرك ساكنا لديها لأنها تعايش حالة خاصة من غياب الرشادة السياسية وطغيان الأنوية وإعلاء الذات والتكالب على صالحها القومي غير عابئة بأي مصالح للشعوب والأنظمة على إطلاقها، وهو ما يمنح مؤشرات عدة نحو عدم الثقة واليقين في السلوك المستقبلي، لا سيما بعد أن تصدرت الظاهرة الترامبية التي حظيت بأكبر موجة احتجاجية على صعيد النخب والأفراد، وأصبح يخشى منها على الولايات المتحدة الأمريكية استقدام الخراب- جهالة لا قصدا- وهو ما يجعلها تمثل أضحوكة سياسية لدى أجيال العقود القادمة.

وعلى ذلك، تتجلى التساؤلات على نحو: هل تمر مسألة انتقال القيادة الكونية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين دون أي تقلبات سياسية يشهدها العالم؟ وهل ترتضي الولايات المتحدة الأمريكية بحصاد الهشيم بعد جولاتها المروعة التي امتدت لأكثر من قرنين كانت لها اليد الطولى في إدارة شؤون العالم؟ وكيف للولايات المتحدة الأمريكية أن تخوض محاولة مستميتة حفاظا على القيادة الكونية في ظل اقتصاد متداع كان نتيجة منطقية لسياساتها الخرقاء؟

إن استقصاء أبعاد الحالة الأمريكية لا طائل من ورائه سوى اجترار طرائف المأساة السياسية الكبرى، لكنه يدفعنا نحو استكشاف النقيض أو الميثاق الجديد للتاريخ المعاصر، الذي تنتوي الكتلة الصينية تشكيله بطريقة مغايرة تحقق إنسانية البشر، رغم الانطلاقات الساحقة في مجال التكنولوجية العسكرية. تُرى ما هي مفردات ذلك الميثاق؟

بداية، كان ذلك عبر الخطاب السياسي الرسمي والذي أكد أن الصين ستقدم للعالم مبادرات من شأنها دفع عجلة النشاط الاقتصادي وستتقدمها مبادرة "الحزام والطريق" التي ستربط الاقتصاد الصيني باقتصادات ما يتجاوز ستين دولة في ثلاث قارات يبلغ تعدادها نحو 4ر4 مليارات شخص؛ أي ما يقارب نصف سكان العالم، وهو ما يدعم المسار نحو استعادة النمو الاقتصادي العالمي.

ومن ذلك يتجلى حرص الصين على مساندة مصالحها ومسايرة مصالح غيرها من الدول، دون الاستئثار بشيء يكشف عن ديكتاتورية دولية، إذ أنها لا تسعى على الإطلاق لهدم النظام الدولي القائم وإنما تسعى إلى تجديده وإعادة صياغته حتى يصير أكثر ديموقراطية وعدالة، متخليا عن عقلية الحرب نابذا لمعاني الهيمنة آخذا في الاعتبار مفاهيم السيادة الوطنية المخولة لاختيار أنماط التنمية المتوافقة مع الظروف اللحظية لكل دولة، وتلك إحدى سمات القيادة العالمية المنتظرة.

ومن ذلك، تنطلق نداءات الصين نحو صحوة الضمير العالمي واجتذابه إلى مسارات السلمية والاعتدال والتوازن والفاعلية وطي صفحات القوى الاستعمارية في تنويعاتها المختلفة. ورغم ما تطرحه القيادة الكونية على ربانها من تحديات وتأزمات وأهوال، فإن الصين غير ساعية لها استكمالا وتتويجا لكل ما بلغته من أشواط التقدم والحضارة، إنما هي ساعية حريصة تدأب نحو إنقاذ الوضعية العالمية المتردية والمقادة إلى الأسوأ.

ولعل ذلك يلتقي مع كلمات "تشانغ جيون" الاقتصادي بالخارجية الصينية، والتي أكدت في مضمونها أن الصين بالفعل مجبرة على قيادة المسيرة المعاصرة، لاسيما في ظل تراجع متصدري السباق العالمي تاركين الساحة للصين وحدها. ولعل ذلك يقودنا إلى مستوى آخر من التساؤلات الحاسمة على غرار: هل يفضي الصراع على القيادة الكونية إلى نشوب حرب وشيكة؟ وهل يكون للعولمة الاقتصادية التي تتحيز لها الصين نفس خصائص تلك العولمة في الرؤية الأمريكية؟ وهل يمكن ترسيخ منظومة القيم الأخلاقية لتتسق والطابع الحضاري المعاصر؟ وما هي استراتيجية الصين في مواجهة القوى الاستعمارية المناوئة والتي تؤسس رؤاها على أن الصين يمكن أن تتحول مستقبلا وتعتمد آليات الاستعمار التقليدي؟

 إنها حزمة من التساؤلات التي يطرح الواقع عنها إجابات حاسمة، لكنهم يصرون أنهم في انتظار الإجابات، وتلك هي الحماقة الكبرى!

--

د. محمد حسين أبو العلا، كاتب وأستاذ علم الاجتماع السياسي بمصر.