فرص وتحديات على "طريق الحرير"

وسط سقوط نظرية سيطرة قطب واحد على العالم، وبروز عالم جديد متعدد الأقطاب، ظهر على الساحة الدولية دعوة الصين لمبادرة "الحزام والطريق" والتي يفضل البعض اطلاق عليها اسم "R&B" كنوع من التدليل والترويج المبسط للفكرة التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بعيد توليه السلطة عام ٢٠١٣. المبادرة التي يعرفها كثيرون بأنها "طريق الحرير الجديد" ويعتبرونها، بمثابة إحياء للمسار التجاري الذي ربط بين الصين والدول الواقعة غربها امتدادا إلى دول المشرق العربي والبحر المتوسط ثم لأوروبا منذ ٢٠٠٠ عام قبل الميلاد، أحيت باب أمل أمام التقاء الشرق والشرق، ثم الشرق بالغرب بل دول الجنوب مع الجنوب والشمال مع الجنوب، بأسلوب مغاير لما كنا نشاهده منذ بداية حقبة التحرر الوطني وانتهاء الاستعمار التقليدي الذي انتهى رسميا، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.

 المتحمسون لمبادرة الرئيس الصيني يرونها باب أمل لنهاية عصر العولمة المتوحشة، وفاتحة خير على الدول التي تريد التعاون فيما بينها، على أسس من العدالة والمساواة في الفرص التجارية والاستثمارية. يعلل هؤلاء وجه نظرهم بأن الصين تمكنت خلال فترة وجيزة من جذب ٦٥ دولة و٣٥ منظمة دولية للانضمام إلى المبادرة، التي ستربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، بل امتد نطاقها لتشمل القارة الأسترالية ونيوزيلندا، ليصبح طريق الحرير الجديد، بوابة لتعزيز أواصر العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بين هذه الدول.

يرى آخرون أن المبادرة مازالت تتركز عند نقطة دعم العلاقات التجارية بين الصين والدول التي تقع في مسار السفن والقطارات التي تسير على خطى القوافل التجارية القديمة برا وبحرا، ولا تتناول أي جوانب سياسية في ظل رغبة مؤكدة للصين، بألا تتدخل في الشؤون السياسية للدول وأن تظل على حيادها في القضايا الدولية الشائكة التي تثير القلاقل العسكرية والسياسية في أنحاء العالم.

 

ما بين الرأيين تقف "مبادرة" الحزام والطريق" أمام اختبار واقعي شديد الصعوبة، في عالم كثير التقلبات ويمر بأزمة مالية وتحولات فكرية عند اليمين المتعصب واليسار المتقلب وتبدل الأيدلوجيات وتوجه بعضها نحو العزلة والتطرف بأسماء جديدة، ولكن بنفس النمط الاستعماري القديم والبغيض.

في مناقشات عديدة شهدتها العديد من المراكز البحثية والمؤسسات التجارية ومجتمعات رجال الأعمال في كل من بكين والقاهرة والرياض ودبي والجزائر والمغرب، على مدار الأسابيع الماضية، تعرضت مبادرة "الحزام والطريق"  للاختبارات الواقعية، حيث فحصها الخبراء ودقق فيها رجال الأعمال وتحسسها الساسة والمفكرون. البعض وضعها في مكانة مبادرة الرئيس الأمريكي أيزنهاور المعروفة بمشروع "مارشال" الذي وجه مليارات الدولارات إلى أوروبا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لإنقاذها من آثار التدمير الذي لحق بها، ومنعها من السقوط في قبضة الاتحاد السوفيتي، وآخرون يرون أنها خطوة أولى أمام التنين الصيني لإحياء "طريق الحرير القديم" بأسلوب القرن الحادي والعشرين. في كل الأحوال اتفق الجمهور على أن المبادرة بمثابة طوق نجاة أمام دول العالم، لإنقاذ الاقتصاد الدولي من حالة الركود والكساد التي تهدده منذ الأزمة المالية الكبرى عام ٢٠٠٩، والتي كادت تعصف باقتصادات الدول، وأعادت شبح فترة الكساد الكبير التي شملت أنحاء العالم، في ثلاثينيات القرن الماضي، وأدت نتائجه إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. لمح هذا الفريق أن العالم يمر الآن بفترة مشابهة لمقدمات حرب عالمية جديدة، وأن مبادرة الحزام والطريق جاءت "طوق نجاة" لما بها من فرص كبيرة للإنعاش الاقتصادي وتبادل الاستثمار وتوفير ملايين فرص العمل أمام الشعوب التي انضمت لها أو المستفيدة منها، وتمثل نحو ثلثي سكان الكرة الأرضية. وما بين الرأيين يقف فريق برؤية متوازنة يؤكد على أن المبادرة بقدر ما هي بوابة حقيقة لـ "الفرص" فهي أيضا أمام كثير من "التحديات".

 

في مناقشات عديدة شهدها أول مؤتمر "على طريق الحرير" ضم نخبة من كبار رجال الأعمال والوزراء والمفكرين ورجال بنوك وممثلي مؤسسات مالية وصناعية واقتصادية متنوعة، من الصين ومصر والسعودية والأردن والجزائر وباكستان وروسيا ونيجيريا وكينيا، والسودان، نظمته جمعية رجال الأعمال المصرية، على ضفاف نيل القاهرة في شهر مارس 2017، أقر المناقشون أن "التعاون مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق مثل يحتذى"، لأنه تعاون من أجل سلام العالم، حيث تؤمن المبادرة فرص الاستثمار والتنمية لنحو ٦٣٪ من سكان العالم، لاسيما أن الصين انتقلت حاليا من مرحلة "مصنع العالم" إلى دولة تشجع على نقل رؤوس الأموال من داخلها، وتبحث عن الإبداع والابتكار وتدعم التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الواقعة على مسار الطريق، وزيادة الواردات من هذه الدول إلى السوق الصينية، بهدف خفض العجز في الميزان التجاري الذي يميل لصالح الصين طوال العقود الثلاثة الماضية. وعلى نفس النهج سارت مناقشات أخرى في جامعة بكين خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز لجمهورية الصين الشعبية، وأيضا بين الباحثين والعلماء الذين التقوا في المجلس الأعلى للثقافة المصرية، في إطار مناقشات ملتقى المترجمين والباحثين الصينيين والعرب، الذي تديره الدكتورة تشين يون يون المستشار الثقافي بالقاهرة.

خرجت رؤية العلماء والمسؤولين بأن الفرص التي توفرها المبادرة  تتركز في أن "مبادرة الحزام والطريق" هي استراتيجية جديدة، تخدم المصلحة الصينية وتفيد العالم، لأنها ليست مشروعا ضخما لتنمية الاقتصاد والتجارة فحسب، رغم اعتمادها آلية السوق، وإنما أيضا تعبر عن رؤية استراتيجية شاملة للسلام العالمي والتنمية المستدامة. ويعتبر هؤلاء أن المبادرة تبلور الحكمة الجماعية للنخبة الثقافية والسياسية في الصين، وتجسد أفكار أصحاب النظر البعيد في دول العالم حول واقع البشرية ومستقبلها، ولا تهدف إلى إحداث ثورة على النظام العالمي الحالي، بل إجراء اصلاحات عليه، ولا تهدف إلى استبدال الآليات والمبادرات القائمة للتعاون، بل تسعى إلى تحقيق الالتقاء بين الاستراتيجيات التنموية في الدول المشاركة بها. ويعتبر هؤلاء أن المبادرة تقوم على فلسفة تتجاوز المفهوم الجغرافي التقليدي الضيق لمشروعات التعاون الإقليمي، وتسمح بضم أكبر عدد من الدول المتباينة سياسيا واقتصاديا وثقافيا وأكبر عدد من الأقاليم الجغرافية (قارة آسيا في معظمها وأستراليا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوراسيا وجنوبي وغربي أوربا). كما تقوم المبادرة على "الربط الوثيق بين التجارة والتنمية، بتسهيل وتوسيع حجم التجارة بين الأقاليم والدول المنضمة لها من خلال خفض التكلفة، وإزالة العوائق القانونية والمادية التي تحول دون نمو حركة التجارة، وإقامة مشروعات تنمي البنية الأساسية وتوفر المال اللازم لهذه المشروعات، بطرق غير تقليدية وبعيدة عن المؤسسات التي توظف القروض الدولية في فرض ضغوط سياسية على الدول، كالبنك الدولي وصندق النقد الدولي. وفقا لهؤلاء، أسست الصين صندوق طريق الحرير، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ليساهما في توفير الأموال من أجل تنمية البنية التحتية، وارتبطت المبادرة بمشروعات عملاقة في البنية الأساسية، شملت مجالات السكك الحديدية، والطرق السريعة العابرة للحدود، والموانئ البحرية.

على الجانب الاقتصادي يرى خبراء  في دراسة أعدتها "جمعية رجال الأعمال المصرية" أن المبادرة تؤمن استثمارات ضخمة لن تستطيع الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية توفيرها في الوقت الراهن أو المستقبل القريب، مشيرة إلى أن الصين ضخت في عام ٢٠١٥ استثمارات تقدر بنحو ١٦٠ مليار دولار أمريكي في ٦٢ دولة، انضمت إلى المبادرة،. ووفقا للدراسة فإن الصين ساهمت في ربط الدائرة الاقتصادية المتقدمة في أوروبا بحزام اقتصادي قوي، يمر عبر ممرات الصين ـ روسيا ـ أوروبا، وأيضا عبر منطقة الخليج وقناة السويس وغربي أوروبا، بما سيؤدي إلى مزيد من اعتماد الصين على الممرات البحرية عبر المحيط الهندي ومضيقي هرمز وباب المندب وحمايتها لهذه الخطوط البحرية التي أصبحت شديدة الأهمية للصين. وتبين الدراسة أن الصين ستعمل على إقامة خطوط قطارات وموانئ وطرق ومراكز خدمات لوجستية على مساري الحزام والطريق تبلغ قيمتها نحو ٤٠٠ مليار دولارأمريكي، وستوجه جزءا من هذه الأموال لإنشاء الطرق بأنواعها والمطارات ومحطات الكهرباء والسكك الحديدية، بما سيساهم في تسهيل النقل والحركة بين الدول وتوسيع الاستثمارات الخارجية.

 تشير دراسة نشرها "الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين"، إلى أن تراكم القدرات الاقتصادية والثروات المالية الهائلة بالصين، بعد نجاحها في تطبيق"الإصلاح والانفتاح" منذ عام 1978، جعلها القوة الاقتصادية الثانية في العالم، وتمتلك أكبر احتياطي نقدي، مع تقدمها في مشروعات البنية التحتية وتوجها نحو الإبداع والابتكار، وهو الأمر الذي صنع منها نموذجا جاهزا يمكن للشعوب الأخرى الراغبة في النمو والتطور أن تستفيد من تجربتها الحية ببساطة. ويرى الخبير المالي المصري الدكتور مدحت نافع أن  المبادرة ستسهم في النمو التجاري وتعزيز تسوية المعاملات بين الدول المشاركة في الحزام والطريق باستخدام العملات الوطنية، عبر خلق أنماط لتبادل العملات، وبما سيساهم في تخفيض تكلفة التعاملات وحجم التبادل وتحسين تنافسية الإقليم كله، مع تعزيز فرص التعان المالي الثنائي والمتعدد الأطراف، ويمكن من إنشاء مؤسسات إقليمية تهدف إلى التنمية الإقليمية تكون أكثر فاعلية من مؤسسات التمويل الدولية القائمة. ويؤكد الخبير المالي أن المشروع سيساهم في تعميق أواصر الصداقة والتعاون بين الشعوب، والحد من الصدام الحضاري والثقافي ودعم التعايش السلمي، وقبول الآخر، واعتناق قيم التنوع التي تعززها التجارة عبر العصور. وتشير السيدة سعيدة نيغازي رئيس "كونفدرالية جمعيات الأعمال في الجزائر" إلى أن "مبادرة الحزام والطريق" لن تساهم فقط في دعم فرص التنمية، وإنما أيضا في تقارب العرب الذين مزقتهم الخلافات والحروب، في الآونة الأخيرة، بينما المشروعات الواردة في المبادرة تسعى إلى توفير فرص العمل والحياة الكريمة للمواطنين وربطهم بمشروعات وطرق تدفعهم للتفكير في المستقبل بصورة أفضل". ويعتبر شيونغ منغ "نائب رئيس اتحاد الصناعات الاقتصادية" بالصين وسكرتير عام الاتحاد الصناعي والتجاري عبر طريق الحزام والطريق" BRICA"، أن مبادرة الحزام والطريق ستحدث تغيرات كبيرة في منظومة التعاون الاقتصادي بين الدول عبر تعديل قوانين الاستثمار من أجل تحسين الوضع المالي ودعم الصناعات المحلية، من خلال المنح والقروض التي ستتيحها مؤسسات التمويل الصينية والمشتركة مع الدول المشاركة في المبادرة.

 

آمال واسعة يحسبها الخبراء بداية الخطوات في المسار الصحيح، مع ذلك هناك توافق على وجود الكثير من التحديات، تتعلق بضرورة فهم المبادرة بعيدا عن حالة الانقسام الدولي والصراعات التي تضع الدول وبخاصة المنطقة العربية بين خيارات في سباق موازيين القوى، التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول الأخرى، مع ضرورة استكشاف نمط جديد من العلاقات بين الدول الكبرى يبحث عن "وحدة مصيرية مشتركة" ويبعد عن الهيمنة والاحتواء. يشير الخبراء إلى استمرار التنافس الروسي- الأمريكي والغربي- الشرقي على المناطق الواقعة في مسار الحزام والطريق، في آسيا والشرق الأوسط، وتفشي الإرهاب الذي يتحصن تارة بالأديان وأخرى بالطائفية والعرقية، ودعم فكرة الصراع الديني والمذهبي، بما يتطلب من مبادرة الحزام والطريق البحث عن حل لمساعدة الدول التي تنتشر بها هذه النزاعات، والتي تقع تحت وطأة ضغوط الحروب الأهلية والطائفية. ويؤكد الخبراء على أهمية أن تكون "النخبة الثقافية والسياسية" مدركة لعواقب هذه الصراعات، التي لا تنتهي إلا باستنزاف ثروات الشعوب ومقدراتها، ودفع الناس للعمل على إزالة التطرف والإرهاب والمساهمة في القضاء على الفقر. ويؤكد الخبراء على أهمية تقديم الصين صاحبة المبادرة لنموذج تنموي، يعلي من شأن البيئة، ويحارب الفساد والرشوة والتزوير، ويرفع من شأن الصداقة والانسجام بين الشعوب بقيم أعلى من تحقيق الربح المادي، ويحترم الثقافات المحلية، وأن تتحمل الصين المسؤوليات الاجتماعية تجاه الدول، وأن تعمل على تعميم  فوائد التنمية على شرائح واسعة من أبناء هذه الشعوب.