المسلمون الصينيون
حرية العقيدة والانتماء للوطن

بين بحر سكان الصين المتلاطم، وعلى أرضها المترامية الأطراف، ووسط قومياتها التي تزيد على خمسين قومية، نجد مسلمي الصين جزءا لا يتجزأ من لوحة الفسيفساء الصينية تلك.

يشكل مسلمو الصين حوالي 8ر1% من عدد سكان الصين، والمعلومات شحيحة عنهم بالنسبة للكثيرين في عالمنا العربي، بل وقد تصل إليهم بشكل مغلوط من بعض وسائل الإعلام. على سبيل المثال سرت إشاعة منذ فترة بمنع مسلمي الصين من أداء فريضة الصوم، وهي واحدة من أركان الدين الإسلامي الخمسة، مما تسبب في صورة ذهنية خاطئة تماما عن واقع الحال لمسلمي الصين.

حرية العقيدة

 المواطن الصيني المسلم هو مواطن له مطلق الحرية في ممارسة عقيدته، إذ أن جمهورية الصين الشعبية اعترفت بالدين الإسلامي في خمسينيات القرن الماضي، عقب تأسيسها بوقت قصير. ولكن، لنطرح هنا عددا من الحقائق.

لقد حرصت الصين ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين، على إعطاء الفرصة لمسلميها أن يتعلموا دينهم بشكل صحيح ، فسجل العام 1931 وصول أول بعثة من الطلاب الصينيين إلى القاهرة للدراسة في "الأزهر الشريف"، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا. واليوم تشهد العاصمة المصرية ظاهرة جديدة. بالقرب من جامعة الأزهر، نجد "المطاعم الصينية" التي تقدم للطلاب الصينيين طعام بلادهم التقليدي. هذه المطاعم لاقت أيضا قبولا حسنا من المواطنين المصريين. وهذه المطاعم، على بساطتها، لم تكن تفتح لولا تزايد أعداد الطلبة الصينيين في تأكيد قوي لمفهوم التبعية؛ أي أنه لم يكن بمقدور هؤلاء الطلبة السفر لمصر لتعلم علوم الإسلام في بلد الأزهر الشريف، إلا لرغبة الحكومة الصينية في تعلم أبنائها لقواعد دينهم وأحكامه من مصدره الوسطي السمح.

في الصين، نجد الآلاف من المساجد التي يذكر فيها المسلمون اسم الله، ومدارس تابعة للمساجد ومعاهد إسلامية عديدة.  الرئيس الصيني شي جين بينغ نفسه، يلتقي في كثير من المناسبات مع الدعاة والأئمة المسلمين، بل يزور المساجد ويحضر حفلات افتتاح منشآت إسلامية، كأهم مسؤول صيني. فالمسؤول الأول عن الأمن القومي للبلاد يدرك جيدا أهمية المسلمين في تركيبة بلاده الاجتماعية، التي تفتح أيضا أبوابها لطارقيها المسلمين دون تعنت، أو تهديدات بمنعهم من دخول الصين، مما يشكل مفارقة لما يحدث في بعض البلدان الغربية وما يلاقيه مواطنو بعض الدول الإسلامية من منع دخولهم لأراضيها. نفس الدول التي تلتفت لقصف بلاد المسلمين بالصواريخ والقنابل وتدوس أرضهم أقدام جنودها الغزاة. على الأقل لم نسمع عن قاذفة صينية ضربت المسلمين، بل نسمع يوميا عن أموال الصين ومشروعاتها ومصانعها التي تقدم فرص العمل لملايين العرب والمسلمين لحياة أفضل.

حب الوطن من الإيمان

تنتشر في بعض وسائل الإعلام، كما أسلفنا، مغالطات قد تكون مقصودة لتشويه صورة الصين في أذهان المسلمين، لكنك لن تسمع يوما عن الصينيين المسلمين الذين قاموا مع غيرهم من أبناء الصين للقتال والكفاح ضد المحتل الياباني، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

الأمم العظيمة تنتصر في حروبها بتضحيات أبنائها ودمائهم، لكنها لن تجد من ينتفض ليدافع عنها إن كان مضطهدا لا يسمح له حتى بممارسة شعائر دينه. الصين انتصرت بتضحيات الكثير من أبنائها المسلمين، الذين شكلوا العديد من التشكيلات القتالية منها على سبيل المثال "فصيلة قومية هوي، الفيلق الإسلامي"، بقيادة البطل المسلم ما بن تشاي.

لقد قاتل أبناء قومية هوي الصينية المسلمة، ضد الاحتلال الياباني لبلادهم. ويكفي لنتصور معا حجم النجاح العسكري الذي حققوه أن نعلم أن اليابانيين حشدوا سبعين ألفا من قواتهم لقتالهم في الوقت الذي كان عددهم يقل عن 2500 مقاتل، ولهم الحق في ذلك، إذ أن رجال ما بن تشاي قتلوا لهم في ست سنوات من الحرب أكثر من 36 ألف جندي، ولم تفلح محاولات اليابانيين في كسر تلك المقاومة عبر الضغط على ما بن تشاي بالقبض على أمه. لقد رفضت الأم العظيمة طلبهم بإقناع ولدها بالاستسلام، بل وأضربت عن الطعام حتى الموت، ولكنها ظلت حية في قلب كل صيني كذكرى عظيمة لقتال المسلمين دفاعا عن بلادهم.

نقاط على الحروف

 قد يكون مهما أيضا، أن نذكر حقيقة أن الحكومة الصينية هي التي سعت لتمكين المسلمين من أداء فرائض دينهم وشعائره، وكان ذلك في خمسينيات القرن الماضي. وما أشبه الليلة بالبارحة، وقتها كانت الشائعات تحاصر الصين أيضا عن مضايقتها للمسلمين الصينيين، وقد أدى هذا إلى منع المسلمين الصينيين من السفر لأداء فريضة الحج.

لكن ما فعلته الصين في مؤتمر "باندونغ"، غيّر الكثير من الأمور على أرض الواقع. يومها حرص الرئيس التاريخي لمجلس الدولة الصيني شو أن لاي على أن يضم الوفد الصيني العالم المسلم الجليل دا بو شنغ، والذي كان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الجمعية الإسلامية الصينية كمستشار له. وفي ذلك المؤتمر أيضا نجح شو أن لاي في رفع الحظر عن سفر الصينيين للحج، بطلب شخصي لولي العهد السعودي وقتها والملك الراحل لاحقا فيصل بن عبد العزيز. لقد كان الأداء الصيني في باندونغ رائعا إلى حد بعيد، فبعد تمهيد الحج لمسلميها، التفتت لتعلمهم أصول دينهم من أهم وأبرز منابعه "الأزهر الشريف". في نفس المؤتمر، التقى شو أن لاي مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وعقب نهاية المؤتمر كانت الزيارة التاريخية لوزير الأوقاف المصري أحمد حسن الباقوري للصين.

لا تجد الكثير من الزيارات التي قد يكون لها أثر طويل وقوي، مثل زيارة الشيخ الباقوري للصين، فهي التي فتحت أمام المسلمين الصينيين، الذين كانوا يعانون بشكل حقيقي من نقص المعارف الدينية، أبواب الأزهر على مصراعيها، كما وقع خلالها "اتفاقية التعاون الثقافي بين مصر والصين".والتقى الشيخ الباقوري مع شو أن لاي ثلاث مرات، مهدا فيها كل شيء، كما طاف طول البلاد وعرضها، والتقى بكبار مسؤوليها وأبرز علمائها المسلمين، فقد امتدت زيارة الشيخ الباقوري التاريخية للصين ثلاثة شهور.

اليوم، أصبح من الواجب على أئمة الأزهر وكبار العلماء المسلمين، وعلى رأسهم شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، تكرار مثل تلك الزيارة، وبكثرة. علينا أن نستمع للصينيين ونسمعهم، خصوصا في تلك الفترة التي تكثر فيها الشائعات والأخبار المغلوطة والمتضاربة أحيانا. لقد حرص الإسلام على أن لا يردد أتباعه الشائعات وأن لا يعتمدوا على الظن في الحكم على الأمور. السبيل الوحيد  أمامنا الآن أن نوطد علاقتنا مع هذا الصديق الصيني الذي يفتح أبوابه لنا في كل مكان وزمان، وخصوصا في تلك الفترة التي تنتشر فيها بعض الجماعات الإرهابية حول العالم تنشر أفكارا خاطئة وهدامة، فمن المؤكد أننا عندما نخطو تجاه بكين خطوة سترد بعشر خطوات.

اليوم، تواصل الصين تقليدها باحترام معتقدات كل مواطنيها، وليس المسلمين فحسب، فنجد أن عدد من أدى فريضة الحج في العام الماضي وصل إلى 14 ألفا، مقارنة مع بضعة أفراد في خمسينيات القرن العشرين. كما كان من بين أكثر المشاهد الملفتة للنظر في موسم الحج الأعظم العام الماضي صور الحاج الصيني الذي قطع 8 آلاف و150 كيلو مترا على دراجته من أجل الوصول إلى مكة المكرمة؛ أنه الحاج محمد باو شن.

طوال أربعة أشهر، استمرت رحلة الحاج باو شن لتنتهي بالوصول للسعودية حيث تم استقباله بحفاوة من بعض المواطنين السعوديين الكرام  وانتشرت صوره وقصته في العديد من وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد كان الحشد الصيني القادم جوا وبرا ردا ضمنيا على شائعة أخرى لها موعد سنوي في شهر رمضان من كل عام. تلك الشائعة السنوية، التي لا ينفك من يكيد للصين عن ترديدها، مفادها أن الصين تمنع مسلميها من الصوم بحجة تأثير ذلك على عملهم. وإذا كان ذلك صحيحا، فمن باب أولى منعهم من الحج الذي سيجعلهم لا يقومون بهذا العمل من الأساس.

أما الرد الصريح فيتمثل بحقيقة أن رمضان في الصين أصبح يحمل العديد من ملامح رمضان في البلاد العربية والإسلامية. في الصين اليوم الكثير من الجمعيات الإسلامية الخيرية التي تتولي الإشراف على أوجه البر طوال العام ، وفي شهر رمضان تقوم بتجهيز "حقيبة رمضان"، والتي تحتوي على مواد غذائية لتوزيعها على فقراء المسلمين الصينيين، وهي ظاهرة طيبة تتوسع بشكل مضاعف كل عام.

في الصين أيضا يمكنك أن تعرف بسهولة أن المبنى الذي أمامك هو "المسجد". لا تفرض الصين على مسلميها أي قيود في تصميم أو شكل المسجد، كما تفعل بعض الدول الأوروبية، بل بالعكس تظهر في المساجد الصينية روعة المزج بين فن العمارة الإسلامي والصيني في قالب واحد، كما أن أي سيدة مسلمة لن تجد حظرا على حجابها في الصين.

هذه هي الحقيقة التي لا يكتفي البعض بطمسها، بل يحاول جاهدا وبكل قوة تغييرها. وكما تصل أصوات حجاج بيت الله من كافة جنسيات الأرض بصورة واضحة لذويهم في كافة بقاع الأرض عندما يجتمعون في بقعة واحدة، تصل اصوات الحجاج الصينيين إلى ذويهم عبر شركات الاتصالات الصينية التي عهد إليها بمهمة توفير البنية التحتية اللازمة لإجراء الملايين للاتصالات عبر هواتفهم المحمولة في وقت واحد.

--

محمد علام، باحث مصري في الشؤون الدولية.