أسرار البروفيسور خليل لوه لين

في جامعة اللغات والثقافة ببكين، التي تحمل لقب "الأمم المتحدة المصغرة"، تشعر بشيء من الارتباك، إذ تسمع طلابا صينيين يقرءون نصوصا بلغات أجنبية، بينما تتناهى إلى مسامعك أصوات طلاب وافدين وهم يتحدثون بلغة صينية فصيحة. في مكتبة الجامعة ومطعمها، وفي شوارعها ذات الأشجار الوارفة الظلال، يبدو التمازج والاندماج واضحا بين ثقافات مختلفة. هذا الاندماج الودي ترك بصمته على كل طالب ومعلم، فصار الجميع متحمسين وناشطين في دراساتهم وأعمالهم.

البروفيسور لوه لين (خليل)، واحد من الأساتذة الذين تأثروا بأجواء اندماج الثقافات المختلفة وتمازجها في هذه الجامعة. بعد تخرجه في كلية اللغة العربية بجامعة بكين عام 1990، عمل الشاب لو لين معلما للغة العربية في جامعة اللغات والثقافة. وعلى مدى ثلاثة عقود من الزمان، شهد لوه لين التطور الكبير لتعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية، وصار جسرا للصداقة بين الثقافتين الصينية والعربية، وساهم في تطور العلاقة بين هاتين الثقافتين العريقتين. في مقابلة خاصة مع ((الصين اليوم))، قال البروفيسور لوه لين إنه لا يحمل فقط لقب "الأخ لوه لين"، وإنما أيضا ثلاثة ألقاب أخرى تعجبه أكثر من اسمه  الصيني الأصلي.

 "الأخ خليل"

في الفترة من سنة 1992 إلى سنة 1996، عمل لوه لين في مدرسة قتيبة بن مسلم النموذجية والمدرسة الفنية في صنعاء باليمن. قال إنه في أيامه الأولى باليمن، لم يشهد أي صورة ذات علاقة بمهد الحضارة العربية أو بالتطور المزدهر لدولة حديثة، وإنما رأى صحراء شاسعة وبنايات قديمة بالية. التناقض بين الصورة الجميلة في ذهنه والمشاهد الواقعية، جعل الشاب الصيني يسعى لاستكشاف الحقائق وراء الحضارة العربية الحقيقية وتعميق معرفته بأمة العرب. مع زيادة معرفته بالمجتمع المحلي، تعاظمت محبته للثقافة العربية، ونشأت علاقات مودة بينه وبين الطلاب والمعلمين المحليين. خلال فترة عمله باليمن، كان يجتهد في تحضير دروسه بدقة ويحاول توسيع أفق الطلاب وتجديد معارفهم حول العالم الخارجي. بفضل جهوده، ازداد عدد محبي الثقافة الصينية من المحليين، فشرعوا يدرسون لغة وثقافة الصين، لتعميق الصداقة العريقة بين الشعبين الصيني واليمني، ومن بين هؤلاء سفير اليمن الحالي لدى الصين محمد عثمان المخلافي، الذي بدأت العلاقة الحميمة بينه وبين البروفيسور لوه لين في اليمن.

يتذكر البروفيسور لوه، أنه ذات مرة حدثه طالب يمني على هامش الدرس، عن الأطعمة الصينية اللذيذة، فلم يدخر السيد لوه جهدا في البحث عن مواد غذائية مناسبة لصنع الأطعمة الصينية في كل مكان باليمن، ليعد وليمة صينية لطلابه.

مع تعمق التبادلات مع اليمنيين، ازدادت معلومات البروفيسور لوه حول اليمن والدول العربية والحضارة العربية. وفي ذات الوقت، لم تعد الصين بالنسبة لليمنيين الدولة البعيدة التي في أذهانهم، وإنما دولة صديقة شعبها متحمس ومتفائل ومجتهد مثل البروفيسور لوه، الذي منحه أصدقاؤه لقب "الأخ خليل"، تعبيرا عن صداقتهم واحترامهم له.

في هذه البيئة البسيطة، أخذ البروفيسور لوه يفكر بعمق في الأمة العربية والحضارة العربية والعالم الإسلامي، من خلال التبادل مع المحليين من الفئات المختلفة. قال: "بذلت أقصى جهودي لدراسة الثقافة العربية، أثناء عملي في اليمن لمدة أربع سنوات." وقد أهله ذلك لعمل دراسات عملية ناجحة في موضوعات مختلفة، منها "دراسة مقارنة في الكلمات المستعارة بين اللغتين الصينية والعربية في العصور القديمة" و"دراسة مقارنة لصورة النساء في المعلقات العربية وكتاب الأغاني الصيني".

 "الشيخ خليل"

اللغة العربية هي اللغة الرسمية لاثنتين وعشرين دولة عربية وأربع منظمات دولية. وهي اللغة الأم لأكثر من مائتي مليون فرد، ويتجاوز عدد مستخدميها في العالم أربعمائة مليون فرد. رغم ذلك، ما زالت هذه اللغة بعيدة عن حياة معظم الصينيين. البروفيسور لوه، وهو حاليا عميد كلية دراسات الشرق الأوسط بجامعة اللغات والثقافة ببكين، وعضو قسم اللغة العربية بلجنة إرشاد تعليم اللغات الأجنبية بالجامعات التابعة لوزارة التعليم الصينية، يساهم في دفع تطور تخصص اللغة العربية بالجامعات الصينية وإعداد المزيد من المتخصصين في اللغة العربية.

في عام 2003، تولى البروفيسور لوه منصب عميد كلية اللغة العربية في جامعة اللغات والثقافة ببكين، وكان الأستاذ الوحيد لفصل وحيد يدرس به عشرون طالبا. بذل البروفيسور لوه أقصى جهوده لإعادة تطوير كلية اللغة العربية في تلك الجامعة. فمن ناحية، وخلال دراسته بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين للحصول على درجة الدكتوراه، اشترك في كثير من المشروعات البحثية لترقية مهاراته في البحث العلمي. ومن ناحية أخرى، دعا الأساتذة المشاهير من جامعة بكين وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين للتدريس في جامعة اللغات والثقافة ببكين. وفي ذات الوقت، طلب تعيين معلمين جدد ممتازين للتدريس في كليته. هكذا، وتحت قيادة البروفيسور لوه، أصبحت كلية اللغة العربية بجامعة اللغات والثقافة ببكين من أفضل كليات اللغة العربية في الصين، فارتفع عدد الطلاب سنة بعد أخرى، وأتيحت لهم جميعا فرصة الدراسة في الدول العربية، وصار كل الطلاب يجتازون اختبار المستوى لطلبة السنة الثانية بالجامعات والمعاهد العليا في الصين. فضلا عن ذلك، تأسس مركز الدراسات العربية التابع لوزارة التعليم الصينية في جامعة اللغات والثقافة ببكين في نهاية عام 2011.

مساهمات البروفيسور لوه في رفع مستوى تعليم اللغة العربية لا تقتصر على جامعته، فهو يدفع تعميم اللغة العربية بين الجامعات الصينية المختلفة. يذهب البروفيسور لوه إلى سفارات الدول العربية لدى الصين، ويناقش مع السفراء والمسؤولين المعنيين أحوال تعليم اللغة العربية في الصين حاليا، وسبل الارتقاء به، وتعزيز التبادلات الإنسانية بين الشعبين الصيني والعربي. يحمل البروفيسور لوه معه كل الملفات والأوراق، فيتيح للطرف الآخر معرفة المعلومات المعنية في وقت قصير. قال أحد طلابه: "ذات مرة، اشترك البروفيسور لوه في عدة اجتماعات هامة في نفس اليوم، وكان عليه أن يلقي كلمة في كل اجتماع. أمضى نحو شهر كامل لكتابة هذه الكلمات. كان كلما ينال منه التعب، يغفو على طاولته لمدة ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم يعود إلى العمل، لدرجة أنه كان ينسى تناول الطعام. بعد انتهاء الاجتماعات، نال إعجاب الجميع. بعيد مغادرة الطلاب، بدأ البروفيسور لوه عمله من جديد." المستشار الثقافي السابق بسفارة السعودية لدى الصين، صالح صقري، قال ممازحا: "الشيخ خليل لا ينام أبدا. هو لا يعرف فرق التوقيت بين الصين والدول العربية." بفضل جهود البروفيسور لوه، يسافر أكثر من ألف طالب صيني إلى مصر لدراسة اللغة العربية وثقافتها كل سنة.

وبفضل مساهمات البروفيسور لوه، أقيمت أربع دورات لمسابقة الخطابة باللغة العربية لطلاب الجامعات الصينية منذ عام 2011، ودورتين لمسابقة فن الخط العربي لطلاب الجامعات الصينية، بهدف حفز رغبة الطلاب في دراسة اللغة العربية واستكشاف طاقاتهم الكامنة، وتأهيلهم للعمل. تشو، وهو أحد الطلاب الذين شاركوا في الدورة الثانية لمسابقة الخطابة في عام 2013، اكتشف من خلال الممارسة نقطة ضعفه في اللغة العربية من خلال المشاركة في المسابقة، وتعرف على كثير من الطلاب من الجامعات الأخرى، فصاروا أصدقاء حميمين. وبعد المسابقة، وجد هوايته الحقيقية في وسائل الإعلام.

أنشأ البروفيسور لوه مسابقة الترجمة الأدبية بين الصينية والعربية لرفع مستوى الترجمة للطلاب الصينيين، إذ أنه يعتقد أن الترجمة طريقة هامة لدراسة اللغتين والثقافة الكامنة وراء كل منهما. قبل الفعاليات، كان البروفيسور لوه مسؤولا عن كل التفاصيل، لدرجة أنه أعد بنفسه الأقلام والأوراق للضيوف. كما أنه زار كثيرا من الجامعات الصينية في بكين قبل كتابة كلمته التي ألقاها أمام المنتدى الصيني- المصري الأول للترجمة.

تعزز هذه الفعاليات والمسابقات المختلفة التبادلات بين الصين والدول العربية، مما يدفع انتشار اللغة العربية في الجامعات الصينية. وقد أطلق عليه باحث سعودي لقب "الشيخ خليل"، اعترافا بمساهماته الكبيرة في دفع تطور تعليم اللغة العربية في الصين.

 "خليل باشا"

كلمة "باشا" تحمل نكهة عثمانية ومصرية إلى حد كبير، وقد أطلق أحد المسؤولين المصريين على البروفيسور لوه لقب "خليل باشا"، تعبيرا عن مشاعره الخاصة تجاه هذا الأستاذ الصيني. الحقيقة أن البروفيسور لوه زار مصر أكثر من ثلاثين مرة، ناقش خلالها مع الخبراء المصريين في جامعة قناة السويس وجامعة عين شمس وجامعة فاروس تعزيز التعاون بين الصين ومصر. في عام 2016، أقامت جامعة اللغات والثقافة ببكين سلسلة من الفعاليات الرائعة في إطار العام الثقافي الصيني- المصري، منها مسابقة في الترجمة الأدبية بين الصينية والعربية، المنتدى الصيني- المصري الأول للترجمة، معرض الأعمال الصينية- المصرية لفنون الخط والرسم والنحت، والمهرجان الثقافي الصيني- المصري للقهوة. تركت هذه السلسلة من الفعاليات الإنسانية أثرا عميقا في نفس المسؤول المصري، الذي قال بإعجاب شديد: "والله، لا أحد يستطيع أن يقيم أربع فعاليات ضخمة في نصف شهر فقط إلا خليل باشا!"

خلال الزيارة الأولى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الصين في عام 2014، قام البروفيسور لوه بتنظيم وحضور الاجتماع بين الرئيس المصري والمسؤولين الصينيين في الجامعات الصينية والهيئات الأكاديمية. على هامش الاجتماع، دعا الرئيس المصري البروفيسور لوه إلى المشاركة في مراسم فعاليات تدشين قناة السويس الجديدة، الأمر الذي يؤكد على مساهمات البروفيسور لوه في دفع العلاقات بين الصين ومصر بل والعالم العربي.

في عام 2014، قدم صاحب السمو الملكي السعودي الأمير تركي بن عبد الله بن عبد العزيز هدية تذكارية لمركز الدراسات العربية بجامعة اللغات والثقافة ببكين، حيث أهدى إليه قطعة من كسوة الكعبة، تقديرا لجهود البروفيسور لوه وفريقه في رفع مستوى تعليم اللغة العربية في الصين.

البروفيسور لوه لين، معلم اللغة العربية الذي يبذل جهوده في إعداد الطلاب، أعد مئات من المتخصصين الممتازين في كافة المجالات، فضلا عن كونه جسر صداقة بين الشعبين الصيني والعربي، حيث يساهم في تعزيز التبادل والتعاون بين الصين والدول العربية. لذا، نقول إن الألقاب الثلاثة التي يحملها البروفيسور لوه ليست أسماء بديلة لاسمه الأصلي، وإنما تعكس المشاعر العميقة التي يكنها العرب للبروفيسور خليل لوه لين.