مرارة اليوم لن تمحو آمال الغد

الطيران هو حلم البشرية الذي راودها منذ طفولتها، وقد غرست الصين البذرة الأولى لهذا الحلم قبل ألف سنة من الميلاد، عندما اخترع الصينيون أول طائرة ورقية في التاريخ. ومنذ عام 1903، الذي نجح فيه الأخوان رايت في الطيران للمرة الأولى بشكل مستدام عبر آلة أثقل من الهواء، لم يتوقف الإنسان ولو لحظة في رحلة مثيرة طور خلالها الطيران بشقيه المدني والعسكري تطورا مدهشا. كان النصيب الأكبر من تلك الرحلة للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والدول الأوروبية، خصوصا في فترتي الحربين العالميتين. منذ منتصف القرن العشرين، وكجزء من نهضتها الشاملة، بدأت الصين دخول هذا المضمار بشكل ملفت للأنظار.

الطاووس الذهبي

السبت، الثاني عشر من نوفمبر 2016، مقاتلة صينية من طراز "J110" تتعرض لحادث أثناء تدريب على استعراض جوي. طاووس الصين الذهبي "يوي شيوي" الأولى بين أربع سيدات صينيات ينجحن في اختبارات قيادة المقاتلة"J110"، لن تحلق مجددا.

 "لقد فقدنا رفيقة، والقوات الجوية تشعر بألم وحزن كبيرين لفقد يوي شيوي"، بهذه الكلمات نعى شين جين كه، الناطق باسم القوات الجوية الصينية. لم يقتصر الحزن على السيد شين ورفاقه في سلاح الجو الصيني، وإنما عم وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، مثل شبكة "ويبو" التي حفلت بالتعليقات الحزينة، وبالامتنان في الوقت ذاته للعسكريين الذين يضحون بأرواحهم من أجل أمن الشعب الصيني. إن وفاة "يوي شيوي" لن يكون أبدا كلمة الختام، وإنما فقرة في قصة لن يطول لحنها الحزين، لكنها كعادة الصينيين ستتحول لقوة حزن دافعة إلى الأمام، تخليدا لها، لمزيد من العمل نحو التطوير في صناعة الطيران الصينية بشقيها العسكري والمدني.

 صناعة معقدة

صناعة الطائرات إحدى أكثر الصناعات تعقيدا في العالم، إن لم تكن هي الأكثر تعقيدا على الإطلاق. بداية من مرحلة تصميمها لتكون صالحة للطيران الآمن، وتوفير محركات ذات ثقة، بجانب العديد من المعدات والأجهزة ذات الجودة والدقة العالية، تنسجم معا في قالب واحد، حتى يتم إنتاج طائرة متطورة تلبي متطلبات القرن الحادي والعشرين. هذا كله تقوم به شركات تصنيع الطائرات الصينية. وفي عملها هذا لا تنسى الشركات المنافسة العملاقة، مثل بوينغ الأمريكية وإيرباص الأوروبية وسوخوي  الروسية.

في الطليعة نجد مؤسسة صناعة الطيران الصينية  "AVIC" (أفيك) التي تأسست في عام 2008 بعد قرار الحكومة الصينية بإعادة هيكلة قطاع الطيران فاندمجت مؤسستا صناعة الطيران في الصين "AVIC I" و"AVIC II" في كيان واحد عملاق لا تعوزه الخبرة ، فطائراته تحلق منذ خمسينات القرن الماضي، ولكنها وإن كانت برخص تصنيع من دول كالاتحاد السوفيتي السابق لم تكن إمكانياتها تضاهي نظيراتها الغربية. اليوم الصورة مختلفة تماما.

الشركة الصينية العملاقة تنتج الطائرات الحربية والمدنية وطائرات النقل والمروحيات، كما أن أنظمة الطيران المتطورة على ضمن قائمة منتجاتها. وتقدم الشركة أيضا لعملائها الخدمات اللوجيستية وخدمات ما بعد البيع، وهي خدمات ضرورية لكل دولة تشتري طائرة كي تضمن استمرارية عملها بشكل مناسب وطوال الوقت. الأبحاث والتطوير على يد المهندسين الصينيين لا تتوقف، فذلك جزء من عمل الصين المتواصل لإبداع علامات صينية متميزة عالية التكنولوجيا في كافة المجالات، وخصوصا في الصناعات العالية الدقة والتكنولوجيا.

للشركة مائة فرع حول العالم، ويعمل بها أربعمائة وخمسون ألف موظف. في عام 2015، احتلت الشركة المرتبة الرابعة والثلاثين بعد المائة في قائمة فورتشن لأقوى خمسائة شركة حديثة حول العالم. وللسنة الرابعة على التوالي، احتفظت بالمركز الخامس والعشرين في قائمة "معمل تصنيف العلامات التجارية العالمي الصادر في بكين عام 2015" بين خمسمائة شركة صينية. حاليا، تحلق طائرات  "أفيك" الصينية في مصر، السودان، أفغانستان، بوليفيا، بوروندي، كمبوديا، الكاميرون، جيبوتي، الكونغو، إريتريا، اليمن، إندونيسيا، فنزويلا، زامبيا، وغيرها.

كوماك

الشركة الصينية المحدودة للطائرات التجارية "COMAC" (كوماك)، هي رفيقة درب "أفيك"، وهي مملوكة للدولة. ارتبط اسم "كوماك" مؤخرا بتحفة فنية ينتظرها العالم بأسره وهي "COMAC C919"، طائرة نقل الركاب المدنية التي يحبس صناع الطائرات التقليديين أنفاسهم انتظارا لقدومها، فحالة الاحتكار شبة الدائم من شركاتهم أصبحت مهددة من صناع الطائرات الصينيين.

شركة "كوماك" وصفت طائرتها بأنها "تعبير عن إرادة الصين وشعبها"، صممت لتتسع مائة وثمانية وستين مقعدا، أو مائة وستة وخمسين مقعدا في نسختها الهجين، ويمكنها الطيران لمسافة 4075 كيلومترا، في حين أن نسخة محسنة منها تستطيع الوصول إلى 5555 كيلومترا. وهي أيضا طائرة اقتصادية إذ يمكنها العمل حتى تسعة آلاف ساعة طيران، أي لمدة ثلاثين عاما.

المميزات الرئيسية للطائرة متعددة؛ فالتصميم صيني وطني، يقوم على قواعد السلامة التي حددتها منظمة الطيران المدني، وهذا إنجاز هام للصناعة الصينية، فهو اختراق هام لها إذ أن عدد الدول التي تمتلك القدرة على تصميم طائرات نقل الركاب المدنية محدود. كما أنها طائرة اقتصادية في استهلاكها للوقود، وتكلفة تشغيلها هي الأقل بين مثيلاتها الأوروبية والأمريكية مما يعطيها ميزة تنافسية إضافية. بعد كل هذا، نجد أن الطائرة، ووفقا لخطط الصين في الحفاظ على كوكب الأرض وتقليل حجم الانبعاثات الضارة، تعمل بمحركات جديدة أقل بشكل ملحوظ في تلويث البيئة، وذات أصوات أكثر هدوءا، مما يقلل إزعاج السكان حول المطارات عند الإقلاع والهبوط. المحركات نتيجة الشراكة مع شركة " هانيويل" الأمريكية العملاقة لصناعة المحركات. هذه الطائرة تحديدا خطوة هامة في مسيرة الصين بأسرها، وليس شركة "كوماك" فحسب. بهذه الإمكانيات، يمكن أن نقول إن الصين وضعت قدميها بل وتسير بثبات في تلك الصناعة. هذا من الناحية النظرية.

من الناحية العملية، من المتوقع أن شركات الطيران الصينية فقط ستنفق ما يقارب تريليون دولار أمريكي للحصول على أكثر من 6300 طائرة جديدة خلال العقدين القادمين، ومن المؤكد أن كوماك C919  سيكون لها جزء كبير من تلك الأرقام، مما سيمنحها شهادة الكفاءة العملية التي تحتاجها، ويفتح عيون شركات الطيران حول العالم على C919 . اللافت أن العديد من وسائل الإعلام الغربية المنتمية لبعض الدول التي تنتج شركاتها طائرات مماثلة، بدأت بالفعل حملات ممنهجة  للتشكيك في الطائرة حتى قبل أن تجري تحليقها الأول.

صوت سيف السلام 

صناعة الطيران في الصين، خطت أيضا في الشق العسكري خطوات هامة. الصين حاليا واحدة من دول قليلة في العالم لديها برنامج تطوير مقاتلة من الجيل الخامس، وهو الجيل الذي يتصف أساسا بالقدرات الشبحية وإمكانية التخفي من على شاشات أجهزة الرادار.

تعتمد الصين في صناعة مقاتلاتها الحربية على أخلاقياتها الثابتة. لم تستخدم الصين تلك الطائرات- وهي ثالث دولة عالميا في عدد طائرات سلاحها الجوي- في الاعتداء على أي دولة. ورغم أن العالم من حولنا يغلي بمناطق صراعات تنتشر في كل مكان، فلا وجود للطائرات الصينية كمعول هدم أو تدمير. بالعكس، شاركت طائرات صينية دون طيار من طرازCH-4 ، مع القوات العراقية في هزيمة تنظيم داعش الإرهابي خلال العديد من المعارك، وكانت سببا في كثير من الانتصارات التي حققتها، وعودة مئات الآلاف من العراقيين إلى منازلهم ومدنهم وقراهم.

إن ما يحدث اليوم في وطننا العربي على وجه الخصوص، شهادة للأصدقاء في الصين على إخلاص الصداقة ونبل المشاعر.  فبينما تتوالى انتقادات منظمات حقوقية دولية مثل "أوكسفام" و"هيومن رايتس ووتش" على بعض الحكومات الغربية لاستمرار تصديرها للطائرات والذخائر التي تحملها للدول المتورطة في نزاعات داخلية أو خارجية في دول مجاورة، مما أدى لوقوع الآلاف من الضحايا المدنيين، تظل الصين بعيدة عن هذا كله. كان يمكن للصين أن تربح المال، لكنها كالعادة ربحت الأصدقاء، وربما سمعنا صليل السيف الصيني، لكنه سيف السلام. وربما رحلت "يوي شيوي" ، لكن طائرات الصين ستظل تحلق، وستنجب أمهات الصين عشرات مثل "يوي شيوي".

--

محمد علام، باحث مصري في الشؤون الدولية