نجمة الصحراء الساطعة على طريق الحرير
الصين تبني أحدث مدينة بيئية في العالم جنوبي قناة السويس

وسط تلال الرمال وهضاب الصحراء الشاسعة على المدخل الجنوبي لقناة السويس، بدأت تلمع في الصحراء نجمة جديدة، بعد أن تحولت إلى أول مدينة ذات المفهوم الحضاري الشامل "١x٤"، التي تتميز بها المدن الصناعية الحديثة القائمة على الإنتاج والحياة والبيئة والمعيشة. تلك هي منطقة التنمية الاقتصادية الخاصة الصينية- المصرية، الواقعة على مساحة مليون وثلاثمائة وستين مترا مربعا جنوب غربي منطقة السويس، والتي أصبحت جزءا من مشروع التنمية الاقتصادية لمنطقة قناة السويس، والواقعة على طريق المشروع الصيني "الحزام والطريق" الذي يربط بين موانئ الصين الكبرى وأوروبا، مرورا بالمحيط الهندي والبحر الأحمر وقناة السويس والممتد إلى المدن الأوروبية الواقعة على ساحل البحر المتوسط  وشمالي أوروبا.

" نجمة الصحراء" ذاك الاسم الذي يطلقه العاملون الصينيون في المشروع لم يأت من فراغ، فقد أصبحت المنطقة بمثابة النجم المتلألئ في السماء المصرية، ليلا لا تخطئه السفن المارة في قناة السويس والسيارات العابرة بين الموائي المصرية والمنتجعات السياحية والجمهور الذي يمشي ليل نهار بين السويس والقاهرة الواقعة على مسافة مائة كيلو متر منها. لم تعد المنطقة التي انطلق العمل بها منذ عشرين عاما، مجرد معسكر صناعي تتواجد به بعض المصانع، وإنما أصبحت مركزا عالميا للتصنيع والترفيه السياحي والحياة والسكن المناسب للجميع.

تحولت المنطقة الصحراوية إلى قلعة صناعية جميلة، امتدت في مرحلتها الأولى على نحو 4ر1 كيلو متر مربع، وتعمل شركة "تيدا" الصينية على قدم وساق لتنفيذ المرحلة الثانية على مساحة تبلغ ستة كيلوات مترات مربعة، لتتحول البقعة الصناعية الصغيرة إلى مدينة حديثة، صناعية تجارية تقدم الخدمات اللوجيستية والتحويلية والترفيهية الثقافية والإسكان الراقي، لتصبح كما وصفها  تشانغ إي شيانغ المدير التنفيذي لشركة "تيدا" "زهرة متفتحة وقطعة فنية عالية، تضفي على ما حولها البهجة والجمال". يؤكد تشانغ إي شيانغ أن الصين التي تمكنت من تحقيق نهضة صناعية كبيرة في مدينة تيانجين من خلال "تيدا" وحولت صحراء خبي إلى نجمة ساطعة، ترغب أن تصبح " تيدا" المصرية على نفس البهاء والقوة والروعة، في السنوات الخمس المقبلة.

خلال جولة ميدانية قام بها مراسل "الصين اليوم" في المنطقة الصناعية بغربي السويس، مطلع يناير ٢٠١٧، رصدنا تطورا كبيرا، ليس في حجم الاستثمارات والصناعات وعدد العاملين فحسب، وإنما أيضا في عدد الأسر التي تقطن المكان بصفة مستمرة والوفود السياحية التي أصبحت تأتي للاستمتاع بملاعبها الواسعة والملاهي الحديثة. العمل هنا يصل الليل بالنهار لتطوير نحو مليوني متر مربع، تشمل شق الشوارع وتركيب شبكات الكهرباء والمياه والبنية التحتية، لخلق بيئة صناعية حديثة مبتكرة قائمة على الأبعاد الأربعة التي تتحقق لأول مرة في مصر.

 تعتمد الخطة مفهوم "١x٤"، التي تنفذ في مدن قائمة على "الإنتاج، الحياة، البيئة، المعيشة"، واستخدام الطاقة الجديدة المتجددة، وتصميم المباني الموفرة للطاقة، والتوازن بين الإنسان والبيئة، بما يحقق التنمية المستدامة، بما يضمن رفاهية الإنسان، وحياة أكثر راحة في المدن. وتسعى إدارة المنطقة الصناعية "تيدا" إلى جذب مائة شركة صينية كبرى لإقامة مشروعات مستقرة، وحجم استثمارات يصل إلى 4ر3 مليارات دولار أمريكي، توفر فرص عمل لنحو أربعين ألف شخص، وتشجيع التعاون بين رجال الأعمال المصريين والصينيين بما يخلق صناعات تحويلية محلية، وزيادة حجم التبادل التجاري بين الصين ومصر وتشجيع الصادارت المحلية المصرية للأسواق الدولية.

تتضمن القائمة الجديدة من المشروعات، مصنعا لتجميع الدراجات النارية، وآخر للزجاج وثالثا لمعدات الطاقة الشمسية ورابعا للورق، عدا المصانع الخاصة بالمعدات البترولية، وغيرها من المشروعات التي تدفع بها الحكومة الصينية في إطار تشجيع الاستثمار في الخارج، ودعم مبادرة "الحزام والطريق". تأتي التوسعات الجديدة، بالتوازي مع دعم المشروعات القائمة التي شملت ثمانية وستين شركة استثمرت نحو مليار دولار أمريكي على مدار السنوات العشر الماضية، يعمل بها نحو ألفي عامل مصري، وتأتي على رأسها شركة جوشي لإنتاج الألياف الزجاجية (فايبر غلاس"، وتسعى إلى تطوير أعمالها خلال العام الحالي لتصبح مصر أكبر ثالث منتج للألياف الزجاجية في العالم.

أوجدت "تيدا" نظام الشباك الواحد لخدمة المستثمرين، بما يوفر عليهم الوقت والمال عند إصدار تصاريح المشروعات، وتتولى الإدارة بالمنطقة التعامل مع خمس وثلاثين هيئة صينية ومصرية وأجنبية، وجذبت إليها البنوك المحلية والدولية وشركات النقل البحري والإمداد والتموين والإعلانات، وغيرها من الخدمات التسويقية، عدا المطاعم والمخابز والأندية والمكتبات، ليعيش الموظفون مع عائلاتهم في أجواء أكثر استقرارا. وسط هذه الأجواء الدافعة لمزيد من الاستثمار، شهدنا تخوفا من جانب بعض الشركات الصينية، من عدم قدرتها على النمو بسرعة كبيرة بما يتفق مع الخطط الموضوعة من قبل الشركات الأم في تيانجين وغيرها من المدن الصناعية الكبرى في الصين.

هذه الهمة في التنفيذ واكبها بعض التحديات التي تواجه سرعة نمو المشروعات الاقتصادية في مصر، كما ترغب في ذلك الشركات الصينية. يقول هان بينغ الوزير المفوض الاقتصادي بسفارة الصين لدى مصر: "الصين ترغب في دفع عجلة التنمية في مصر التي تعرضت لمشاكل عديدة منذ خمس سنوات، وذلك عبر توجيه المزيد من الاستثمار في مشروعات جديدة وتوسيع القائم منها." يشير هان بينغ إلى أن العلاقة الحميمة التي تربطه بالمصريين تدفعه أن يكون أكثر صراحة عند مناقشة الأمور التي تتعلق بالاستثمار ومصالح المستثمرين، من الطرفين المصري والصيني. وينوه الوزير المفوض إلى أن حجم التبادل التجاري بين مصر والصين بلغ خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر ٢٠١٦، نحو عشرة مليارات وثلاثمائة وأربعين مليون دولار أمريكي، بزيادة بلغت 97ر10% عن نفس الفترة من عام ٢٠١٥. ويذكر هان بينغ أن الصين تمكنت من تصدير منتجات لمصر قيمتها نحو 9ر9  مليارات دولار أمريكي، بينما مصر لم تصدر للصين إلا بمبلغ ٤٥٧ مليون دولار أمريكي. ويذكر الوزير المفوض أن هذا التفاوت الكبير يوقع الجانب الصيني في حرج شديد، لأن الميزان التجاري يصب في صالح الصين دوما وبشكل كبير، في الوقت الذي ترغب فيه الصين زيادة حجم التبادل التجاري عبر تشجيع الجانب المصري على خفض معدلات العجز في الميزان التجاري مع زيادة الاستثمارات الصينية، التي تخدم السوق المصرية وتساهم في رفع معدلات الصادرات المحلية للأسواق الدولية الأخرى. يؤكد هان بينغ أن هذه الطريقة الوحيدة هي التي ستمكن مصر من إنعاش اقتصادها وتوفير فرص العمل لملايين الشباب من خريجي المدارس والجامعات، وتوفير العملة الصعبة وزيادة الاستثمارات المحلية والدولية في قطاعات ترغب الصين في دعم وجودها في مناطق استراتيجية واقعة على مسار "الحزام والطريق" الذي أطلقته بكين منذ ثلاثة أعوام.

ويشرح هان بينغ، في لقاء مع ((الصين اليوم))، أن الرغبة الصينية في دفع الاستثمارات تواجهها بعض التحديات، منها أن الجانب المصري يحتاج من الصين معدات تكنولوجية وسيارات ومنتجات الحديد والصلب المخصوص والمنسوجات والبلاستيك، بينما يكتفي بتصدير مواد خام أولية وعلى رأسها البترول والرخام وقليل من الفاكهة، في الوقت الذي تفتح السوق الصينية أبوابها أمام كافة المنتجات المصرية أسوة بباقي أنحاء العالم، التي تصدر للصين منتجات تبلغ قيمتها نحو تريليون وثمانمائة مليار دولار أمريكي سنويا. ويتناول الوزير المفوض عددا من المعوقات التي تواجه المستثمرين، منها، زيادة العجز في الميزان التجاري، بين البلدين في الوقت الذي يمكن خفضه إذا زادت الصادرات المصرية من الحمضيات والفاكهة المطلوبة للسوق الصينية. وأضاف: "تغيير القوانين الحاكمة للقطاع الاقتصادي كل فترة يؤدي إلى إرباك المستثمرين الذين يبدأون مشروعاتهم في ظل قوانين وحسابات مالية معينة، وعندما يشرعون في التنفيذ تتغير تلك القوانين، وما يتبعها من ضرورة تعديل ميزانية الشركات والمشروعات، بما يدفع بعضها إلى التأخير في التنفيذ أو الخروج من السوق المحلية، أو تفضيل التوسع في أسواق أخرى." وأشار هان بنغ إلى مشكلة نقص العملة الصعبة للمشروعات، بما يصعّب عمليات الحصول عليها من البنوك المحلية لاستيراد المعدات وخامات التشغيل أو ترحيل فائض الأرباح إلى الشركات الأم، بما يحول دون استفادة أصحاب هذه المشروعات من عوائد الأرباح ويحملهم في نفس الوقت التضخم في السوق المحلية.

 

يؤكد هان بينغ أن إتمام إجراءات التفتيش على المنتجات الصينية يستغرق وقتا طويلا في الموانئ المصرية، بما يحمل الشركات نفقات عالية ناتجة عن طول فترة التخزين في منافذ التفتيش الجمركي، كما تطول فترة التقصي عن حقيقة المستثمرين وأصحاب المشروعات، في الوقت الذي تسعى فيه الشركات الصينية إلى تنفيذ مشروعات عملاقة، تتعلق بمحطات توليد الكهرباء وشبكات نقل الطاقة وتشييد الموانئ والعاصمة الإدارية الجديدة. ويشير إلى طول فترة التحريات التي تجريها الأجهزة حول الشخصيات الصينية المطلوب دخولها بتأشيرات العمل، لمدد تصل إلى نحو ستة أشهر مع صعوبة تجديدها لأكثر من عام، في الوقت الذي تكون الحاجة فيها إلى هذه النوعية من العمالة حرجة للغاية في بداية تنفيذ مشروعات حيوية للطرفين. وتناول الوزير المفوض العمل على جذب الاستثمارات الصينية للسوق المصرية، مشيرا إلى رغبة الصين في أن توجه أموالا ومشروعات جديدة لمصر تبلغ قيمتها نحو أربعين  مليار دولار أمريكي، بما يجعل مصر من أهم منافذ إنتاج وإعادة تصدير المنتجات، التي تصنع في شركات صينية في مصر، إلى الأسواق العربية والأفريقية والأوروبية، بفضل ما تملكه مصر من موقع استراتيجي هام في العالم، وباعتبارها نقطة محورية في طريق "الحزام والطريق".