الصين ظلت تفتح بابها الى العالم

زرت بروكسل في ربيع عام 2016، بعيد الهجمات الإرهابية على مطار ومترو العاصمة البلجيكية. عندما وصلت إلى المدينة، بعد منتصف الليل، رأيت في كل مكان من المطار إلى الفندق جنودا مسلحين بالبنادق ويرتدون الدروع الواقية.

في اليوم التالي وأنا في طريقي إلى العمل، رأيت حشدا من الناس أمام مقر الاتحاد الأوروبي يحملون لافتات. قال لي صديق بلجيكي إنهم يحتجون على اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار (TTIP)، وتابع متنهدا: "في فرنسا يتظاهرون أيضا لأن الحكومة الفرنسية تريد إصلاح قانون العمل." هذه الرحلة الأوروبية، على الرغم من أنها كانت قصيرة، أتاحت لي رؤية مباشرة للنكسات التي تعرضت لها العولمة في أوروبا.

التهديدات الخارجية والاضطرابات الداخلية تشكل عائقا أمام العولمة. الأسوأ من ذلك، أن حوادث "البجعة السوداء" في عام 2016 شكلت تهديدا إضافيا: أولا، انفصال بريطانيا عن أوروبا، ثم انتخاب دونالد ترامب، صاحب دعوة "الولايات المتحدة الأمريكية أولا" والداعي إلى جدار على الحدود الأمريكية مع المكسيك، رئيسا للولايات المتحدة. وقبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض تم تعليق اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP). كثير من الناس يشعرون بمجيء عصر مناهضة العولمة، مع تركيز القوى الكبرى على شؤونها الداخلية، وقد صار كثيرون متأثرين بالشعبوية التي تشمل مناهضة النخبة ومناهضة المؤسسة ومناهضة العولمة. وازدادت الحواجز أمام التجارة والاستثمار الدوليين. وتفتقر الدول صاحبة العملات الرئيسية في العالم إلى التنسيق. الألعاب الجيوسياسية والهجمات الإرهابية والاضطرابات بين المجموعات العرقية المحلية والصراعات الدينية تسبب مشكلات تؤثر على تطور الاقتصاد العالمي. على الرغم من هذه العقبات، تعهدت الصين بمواصلة الانفتاح.

تعاظم حوافز الانفتاح

أولا، أصبحت الصين جزء من الاقتصاد العالمي، لذلك من المستحيل لها أن تقوم بقطع علاقاتها الاقتصادية مع العالم والتراجع إلى السوق المحلية. شهد اقتصاد الصين اندماجا مستمرا في الاقتصاد العالمي خلال حوالي أربعين عاما من الإصلاح والانفتاح. ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ظلت الصين تعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي مع العالم، على الرغم من بيئة التجارة والاستثمار غير المواتية. لا تتباطأ مسيرة "الذهاب إلى الخارج" للشركات الصينية والأفراد ورأس المال. حاليا، يتجاوز عدد الشركات الصينية التي تستثمر في الخارج عشرين ألفا، ويسافر إلى الخارج أكثر من مائة مليون صيني سنويا. في عام 2015، سجلت الاستثمارات الصينية الخارجية المباشرة رقما قياسيا، إذ بلغت 67ر145 مليار دولار أمريكي، بمتوسط نمو وصل إلى 3ر18% مقارنة مع العام السابق. وارتفعت نسبة الاستثمارات الصينية الخارجية المباشرة في الاستثمارات الخارجية المباشرة العالمية من 4ر0% في عام 2002 إلى 9ر9% عام 2015، لتحتل المرتبة الثانية في العالم لأول مرة. فإذا أغلقت الصين بابها في ظل هذه الظروف، فإن الاقتصاد المحلي في الصين سوف يعاني من انقطاع علاقاته مع المصالح الخارجية، وسيتعرض رأس المال والناس في الخارج لخسائر كبيرة. ومن ناحية أخرى، حققت خطوات انفتاح الصين تقدما مستقرا بفضل مبادرة "الحزام والطريق"، وشهد مستوى الاقتصاد الصيني المنفتح ارتفاعا في السنوات الأخيرة. حتى الآن، هناك أكثر من مائة دولة ومنظمة دولية أعربت عن دعمها لمبادرة "الحزام والطريق" واستعدادها للانضمام، وتم توقيع أكثر من أربعين اتفاقية تعاونية حول "الحزام والطريق"، وهذا يعكس ثبات وتيرة انفتاح الاقتصاد الصيني.

ثانيا، الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الصين والعالم قوي، لا يمكن الفصل بينهما. في بداية الإصلاح والانفتاح، تجلى هذا الاعتماد المتبادل، في معظمه، في المرحلة الأولى من السلسلة الصناعية، وبعبارة أخرى، فإن العالم كان يحتاج إلى العمالة الصينية الرخيصة، وكانت الصين بحاجة إلى الاستثمارات والتكنولوجيا والخبرات الإدارية. فلو أن الصين، في ذلك الوقت، انفصلت عن اقتصاد العالم، لعانى العالم من نقص الملابس والأحذية والألعاب ذات الجودة العالية والسعر الرخيص، أما الصين فكان العديد من عمالها ومهاجريها الريفيين سيعانون من البطالة. العلاقات الاقتصادية بين الصين والعالم تتطور مع ارتفاع مستوى السلسلة الصناعية، ولا تزال علاقات وثيقة. منذ عام 2015، احتلت المنتجات الميكانيكية والكهربائية نحو نصف صادرات الصين، مع التركيز على المعدات الكبيرة والمجموعات الكاملة من المعدات. وتتمتع الصين أيضا بقدرة تنافسية عالية في السكك الحديدية الفائقة السرعة ومنتجات الطاقة النووية وكذلك السفن وصناعة الطيران ومعدات النقل وغيرها من الصناعات. الآن، الاعتماد المتبادل بين الصين والعالم أصبح أقوى، مع ارتفاع مستوى الاقتصاد في العالم، وقد تتعمق العلاقات الصينية- العالمية في مجالات مثل العملة والتمويل والمنتجات الفكرية، فالاعتماد المتبادل بين الصين والعالم لن يختفي.

ومن ناحية أخرى، تعتبر الثقافة الصينية قوة دافعة ثابتة للانفتاح. مهد الثقافة الصينية يكمن في الأراضي الواسعة الصالحة للزراعة والترابط الوثيق بين الصينيين. في المقابل، تشكلت الثقافة الغربية في السواحل والجبال والغابات، حيث تم فصل المدن والقرى، وكان الارتباط بين الناس فضفاضا. ولذلك، فإن مفهومي القومية والسيادة ظهرا للمرة الأولى في أوروبا، وقد قبلت الصين "قسرا" هذه الأفكار بعد تسلل رأس المال الغربي والبنادق الغربية إليها في العصر الحديث. إن أعمق جزء من الثقافة الصينية لا يزال مفهوم "العالم واحد". لذا، قبول الصين للعولمة ليس فقط بسبب المصالح المادية وإنما أيضا بسبب الاعتقاد الصيني بأن جميع البشر يجب أن يتحدوا. وقد دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى بناء رابطة المصير المشترك، وطرح مبادرته لبناء الاقتصاد العالمي المنفتح في قمة هانغتشو لمجموعة العشرين، ثم أكد في مؤتمر العمل الاقتصادي الصيني في أواخر عام 2016 على المثابرة على الانفتاح. دعوات الرئيس شي جين بينغ تتفق مع الاحتياجات الاقتصادية الصينية والعالمية بعد استيعاب الثقافة الصينية، لذلك يمكننا أن نقول إن الانفتاح الصيني أمر مستدام.

الثقة بالانفتاح

ستواصل الصين الانفتاح لأن لديها ثقة في العولمة. الصين، وعلى الرغم من مشاركتها في العولمة في وقت متأخر، أدركت جوهر العولمة بشكل عميق. تعلمت الصين من فشلها في سياسة الانغلاق في التاريخ، وعرفت أن الاتجاه الدولي لا يمكن وقفه ولا يمكن السير عكسه.

شهدت الصين أفول بعض الدول الناشئة، التي كانت مزدهرة، بسبب الغرور والانفصال عن التنمية في العالم. كما رأت الصين أيضا أن الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كادت تدمر العالم. هل الشعبوية، التي يلجأ لها البعض للتعبير عن آرائهم العابرة، سوف تغير اتجاه تطور التاريخ العالمي؟ الصين لا تعتقد ذلك. الصين لديها ثقة بسياستها المنفتحة وأيضا بعودة البلدان الأخرى إلى طريق الانفتاح.

وبالطبع فإن الانفتاح الصيني الذي يواصله الصين في ظل الوضع الراهن المتغير، وخاصة في تيار مناهضة العولمة، سيختلف معالمه عما كان عليه في السابق، ويمكن تلخيص الاختلاف في كلمة واحدة، هي "النظام" أو "القواعد".

سبل تعزيز الانفتاح

ستواصل الصين الانفتاح ودفع العولمة والدمج فيها، مع التركيز على بناء الأنظمة والقواعد.

تحتاج الصين إلى تحسين تشريعاتها. التشريعات الصينية حول تعزيز إدارة الإنترنت والمنظمات غير الحكومية أثار الشبهات من الخارج، ورأى البعض أنها إشارة من الصين لتقييد سياستها المنفتحة. ذلك يدل على أن العالم الخارجي لم يتعود على الانفتاح الصيني المبني على أساس القواعد. الانفتاح العميق يحتاج إلى القواعد الشاملة، عدم الاهتمام بالقواعد في تطبيق الانفتاح سيؤدي إلى الاضطراب وأزمة الانفتاح التي تضر تطور الصين والعالم. في السنوات العشرين الماضية، واجهت بعض الدول التي تفتقر إلى القواعد الشاملة مشكلات في التعامل مع مضاربات الاستثمار الأجنبي. تخبرنا الحقائق أن الانفتاح لا يمكن أن يتجاوز القوانين واللوائح، وسيعاني بالتأكيد من الخسائر على المدى البعيد في حال خرق القوانين. وصلت شركات الإنترنت والمنظمات غير الحكومية إلى الصين بعد الاستثمار الأجنبي المباشر، فمن الأفضل أن نضع قواعد مقبولة لكل من الصين والشركات الأجنبية. في الواقع، الاتجاه نحو وضع القواعد ظاهرة عالمية، وعلى سبيل المثال، المنظمات غير الحكومية في الغرب تحاول التكيف مع القواعد الجديدة التي وضعتها الدول الناشئة والدول النامية. يقول الصينيون: "حتى الإخوة ينبغي لهم أن يتحاسبوا" ويقول الأمريكيون: "الأسوار الجيدة تصنع علاقة جيرة جيدة"، وكلا القولين يعني أن التقدم لا يمكن أن يحقق التعاون الطويل المدى إلا عندما يتم اتباع القواعد. عملية اقتصاد السوق والعولمة حتى الآن تعتمد على حكم القانون.

يعتقد البعض أنه من الصعب فهم قواعد عمل الحكومة الصينية. في الواقع، الأمر بسيط للغاية: الهدف النهائي ليس التنمية الإقليمية والاقتصادية فحسب، وإنما أيضا التنمية الشاملة. يمكن تلخيص هذا الهدف بأنه "بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل." ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي للسوق أن تلعب دورا حاسما، وهذا يحتاج إلى تغيير كثير من الأشياء القديمة، وهذا هو المقصود بـ"تعميق الإصلاح على نحو شامل". اقتصاد السوق يتطور بموجب القانون، وبالتالي فإن الحكومة الصينية تدعو إلى "حكم الدولة وفقا للقانون". وأخيرا، دفع الإصلاح وحكم القانون يتطلبان "الإدارة الصارمة للحزب على نحو شامل". ومبدأ "الشوامل الأربعة" يعد استراتيجية الحزب الشيوعي الصيني في حكم الدولة.

ومن ناحية أخرى، يتعين على الصين أن تتعلم التفاوض حول القواعد في عملية "الذهاب إلى الخارج". وعموما، لم يتم الاعتراف بالصين كاقتصاد سوق لمدة خمس عشرة سنة بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. هذا يعلمنا أن الصين بحاجة إلى أن تتعلم كيفية التفاوض حول القواعد مع المجتمع الدولي. الصين لم تتعود على القواعد الاقتصادية الدولية، ويبدو أن الدول المتقدمة ليست متسامحة في التعامل مع الصين. الصين لن تتوانى عن التفاوض حول القواعد، ولن تبدأ حروبا تجارية أو حروب العملة. الصين سوف تتعلم القواعد وتشارك في التفاوض مع الأطراف المعنية حول تعديل القواعد القديمة ووضع القواعد الجديدة. بينما يخشى الناس أن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، واصل الرئيس شي جين بينغ مناشدة دول العالم لإنشاء منطقة التجارة الحرة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ (FTAAP) في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (أبيك) في بيرو. أظهرت هذه المناشدة موقفا إيجابيا وإجراءات صارمة للصين.

وختاما، فإن حركة مناهضة العولمة تكتسب حاليا بعض الزخم، وتثير مخاوف الكثير من الناس. ولذلك، فإن الصين ستلقى عراقيل كثيرة في طريق انفتاحها. ولكن مبادئ الطيران تخبرنا أنه بالوضع الصحيح والأسلوب المناسب، فإن الرياح العكسية يمكن أحيانا أن تجعلك تطير أعلى. إن مواصلة الصين انفتاحها في ظل مناهضة العولمة لن يكون سلسا، ولكن الصين ترغب في استكشاف نمط جديد لدفع العولمة مع الدول الأخرى، لتكون في المستقبل أكثر فعالية وأكثر عدالة وذات قواعد شاملة، وكل ذلك تحتاج إلى مشاركة وإرشاد الاقتصادات الناشئة والدول النامية.

--

 كو لي يان، باحث مساعد في مركز دراسات العالم المعاصر