الصين والنظام الدولي المرتقب
بين الفلسفة الصينية والفلسفة الغربية

   يثور نقاش، معظمه في الدوائر الغربية، حول مستقبل السياسة الخارجية للصين ودورها في النظام الدولي المرتقب.

    ومن واقع الخبرة والحوار مع كثير من الخبراء الصينيين غير المتأثرين بالفكر الغربي، فإن منطق التفكير والرؤية والأهداف مختلفة تماماً. فالصين في قرارة ذاتها ترفض منطق التجربة الأوروبية أو الأمريكية في الصعود على ركائز استغلال الدول الأخرى؛ فالنهضة الأوروبية ارتبطت بالاستعمار ومن ثم استغلال الدول الصغيرة والضعيفة والنامية وعلى التبشير بالمسيحية، والنهضة الأمريكية اعتمدت على نفس الركيزتين مع بعض الاختلاف. فالاستغلال الأمريكي كان لدول أمريكا اللاتينية والتبشير لم يكن بالمسيحية بل بالديمقراطية وحقوق الإنسان. أما النهضة الصينية فقامت على أساس ركائز مختلفة؛ وهي الاعتماد على الذات ثم الانفتاح على الخارج (التصدير والحصول على التكنولوجيا) والتعاون مع الآخر على أساس الكسب المتبادل للحصول على الموارد والمواد الخام والأسواق.

  ثم هناك زاوية تطور العلاقات الدولية بمفهوم القوة الصاعدة، وانطلاقها للخارج، سواء كانت إسبانيا أو البرتغال أو هولندا أو بريطانيا أو فرنسا، بالسيطرة على الخارج وعلى البحار مع استغلال الدول الخاضعة لها. ثم جاءت التجربة الألمانية التي أدت إلى قيام الحربين العالميتين  من خلال الصراع على أوروبا وعلى مستعمرات الدولة العثمانية، ومن هنا ولد تقسيم سايكس بيكو القديم عام 1916. والآن، تشهد منطقة الشرق الأوسط دمارا يمكن وصفه من حيث الأطراف وحجم الدمار بالحرب العالمية الثالثة من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة بقيادة لافروف كيري.

أما صعود الصين فقد جاء بمنطق حضارتها، والتي تختلف عن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وهي الإشعاع الحضاري لدول الجوار، من خلال السعي للتعاون الاقتصادي بالتجارة (تصدير واستيراد للسلع والتكنولوجيا) والسعي لبناء نظام دولي يقوم على الركائز التالية: التعايش السلمي بقبول اختلاف النظم، تعدد الأقطاب بمفهوم الشراكة، الكسب المشترك في ضوء نتائج التنمية والتعاون، وحدة الأراضي الصينية التاريخية، الدعوة للتناغم والتعاون بين القوى المختلفة من أجل تحقيق السلام والتنمية.

   مع اختلاف مفهوم تعدد الأقطاب الصيني عن نظيره الروسي أو الغربي؛ التعدد الصيني يعني التواجد وليس الصراع، كما يعني التعاون وليس السيطرة والهيمنة، حتى أن الصين أعطت مفهوماً جديداً لفكرة الهيمنة استناداً لفلسفة المتناقضات الصينية، وهي وجود هيمنة سيئة وهيمنة حميدة، وهذه مصطلحات غير قائمة في الفلسفة الغربية.

إذ بينما قدم الفكر الأمريكي مبدأ التدخل الإنساني والمسؤولية عن الحماية، فإن مثل هذه المبادئ مرفوضة في الفكر الصيني، ومن هنا لا تتدخل الصين لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وتتعاون مع النظم الديمقراطية أو الديكتاتورية على حد سواء، وترفض مفهوم تغيير النظم في الدول الأخرى. هذا هو المبدأ الصيني التقليدي والقائم بعد الإصلاح والانفتاح.

   عندما طرح شي جين بينغ نظرية العمل المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية في أول لقاء له مع أوباما وجد صدوداً من أوباما ؛ لأن الأخير يعمل في إطار الفكر الغربي للهيمنة وليس الشراكة، بينما الصين تعمل في إطار الشراكة وليس السيطرة. وهدف الشراكة في المنطق الصيني هو الازدهار المشترك والتنمية المشتركة. وبعض الصينيين المتأثرين بالفكر الغربي والذين يُطلق عليهم مصطلح المستغربين أو المتأمركين يفكرون من منظور غربي، ولكن تأثرهم مازال محدودا بالنسبة للسياسة ومؤثرا بالنسبة للاقتصاد. وهذا الاختلاف الفكري يرتبط بالفلسفة الصينية العريقة بترك الساحة لتصارع الأفكار دون أن يعني الأخذ بواحدة منها فقط، وهو ما كان في عصر كونفوشيوس وغيره من فلاسفة الحضارة الصينية، وقد أدخل عليه ماو تسي تونغ مفهوم دور الفلاحين، وحرب العصابات ونظرية المتناقضات الحميدة والخبيثة وأسلوب التعامل معها، بحيث يتغير أحدهما نحو الآخر. وهذه كلها فلسفة صينية ولا تنتمي للحضارة الغربية/ الأوروبية ذات الجذور الإغريقية الرومانية، ولا حتى لحضارات الشرق الأوسط الاستبدادية في صورتها الكسراوية الفارسية أو الفرعونية وغيرها من حضارات المنطقة، وقد عبر الكواكبي في كتابه ((طبائع الاستبداد)) عن ذلك بوضوح. بينما العقيدة الصينية تقوم على أساس التعددية، وهي هنا تتشارك مع العقيدة الهندوسية والبوذية مع اختلاف في التفاصيل، ومن ثم لا عجب أن نجد الحضارتين الصينية والهندية تفاعلتا عبر التاريخ وجرى بينهما احتكاك على مناطق النفوذ الإقليمية، ومن هنا بروز منطقة الهند- الصينية. ولكن لم يتحول أيا منهما لقوة استعمارية خارج نطاقها المحلي والإقليمي، وهذا ما زال مؤثراً في سياسة الدولتين. الهند تغزو العالم بالسكان الذين يقيمون ويتأقلمون ويسيطرون دون ارتباط سياسي مع البلد الأم ولكنه ارتباط روحي أو سيكولوجي، وبعبارة أخرى ارتباط حضاري، وكذلك الصينيون. هذا على النقيض من الفلسفة اليابانية التي اختلفت ووقعت تحت تأثير الفكر الغربي؛ ولذا سعت لاستعمار آسيا وخرجت عن نطاق جزرها. وربما أحد التفسيرات لذلك كونها جزرا صغيرة ومواردها محدودة بخلاف الحضارتين الصينية والهندية العملاقة في الفكر وفي المساحة وفي السكان. أما اليابان فقد حققت الانفتاح الفكري، وخاصة في الفكر العسكري على الفكر الغربي خلال القرن التاسع عشر بحروبها مع روسيا القيصرية وبغزو الولايات المتحدة الأمريكية لها وعلاقاتها الأوروبية، ومن هنا شاركت ألمانيا وإيطاليا في دول المحور في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

      وينبغي أن نستذكر هنا أن أكبر مفكرَين على مستوى العالم كانا من الصين القديمة قبل حضارة الإغريق، الأول هو كونفوشيوس الفيلسوف والمعلم قبل أرسطو، والثاني هو سون تسي كمفكر استراتيجي عسكري صيني في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وما زال فكرهما حتى الآن له تأثيره.

ما أريد التأكيد عليه هنا هو عدم صحة ومصداقية تطبيق النظريات والفلسفة الأوروبية على سلوك الصين أو الهند، وهذا لا يمنع من التأثير والتأثر، ولكن التطبيق أو النقل الآلي الكامل أمر مستبعد في ظل المعطيات الراهنة، وربما على مدى خمسين عاماً قادمةً.