رحلة مع قومية سالار

تتكون الصين من ست وخمسين قومية، منها عشر قوميات يعتنق أبناؤها الإسلام، وقومية سالار واحدة منها. لا يتجاوز عدد أبناء سالار مائة ألف نسمة، لذا تعتبر قومية صغيرة جدا مقارنة مع قوميات مثل هان والتبت وهوي. وبرغم ذلك، ما زال أبناء سالار يحتفظون بلغتهم الفريدة وخصائصهم المتميزة، فضلا عن نسخة نادرة بخط اليد من القرآن الكريم، عمرها أكثر من ألف سنة. من أجل تصوير حلقة أفلام وثائقية حول هذه القومية، سافرنا إلى محافظة شيونهوا الذاتية الحكم لقومية سالار بمقاطعة تشينغهاي.

وصلنا إلى حدود هضبة تشينغهاي- التبت (تشينتسانغ) الشرقية في الصين، التي تحيط بها جبال شاهقة من جميع الأنحاء، ويمر بها النهر الأصفر الذي يبلغ طوله خمسة آلاف وأربعمائة وأربعة وستون كيلومترا ويعد خامس أطول نهر في العالم. يبلغ ارتفاع هذه الهضبة عن سطح البحر ألفين وثلاثمائة متر، ومن الصعب أن تدخل إليها الرياح الموسمية الجافة القادمة من شمال غربي الصين بسبب الجبال الشاهقة المحيطة بها، كما تزيد الأبخرة المتصاعدة من سطح النهر الأصفر رطوبة الهواء، مما يشكل مناخا بريا هضبيا. يتمتع وادي النهر الأصفر الضيق هنا بمناخ معتدل ونباتات مزدهرة، ويعيش فيها أبناء قومية سالار.

لأبناء قومية سالار لغة خاصة غير مكتوبة، ويستخدمون لغة هان في الكتابة. كان أسلافهم يعبدون الصقر والذئب والقوة، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "سالار"، فاعتمدت الحكومة الصينية اسم سالار لهذه القومية في عام 1953. مسجد "جيتسي" هو مسجد أسلاف أبناء سالار، ويضم ضريح اثنين من أشهر أسلافهم، هما  قارمون وأحمون. وفقا للسجلات التاريخية والروايات المنقولة شفويا، ينتمي أسلاف قومية سالار إلى أبناء سالور التابعين لقبيلة ووقوسي في توجور الغربية في قديم الزمان، ويرجع تاريخها إلى القرن السابع في عصر ووقوسي.

وفقا لتقرير دراسة تركمانستان للكونغرس الأمريكي، عاشت قبائل "سالور" في شبه جزيرة مانغيشلاك وجبال البلقان. وكان أسلاف قومية سالار يعيشون داخلها. ويتفق معظم العلماء على أن قبائل "سالور" عاشت في آسيا الوسطى.

وثمة حكاية أقرب إلى الأسطورة، فيقال إنه في القرن الثالث عشر للميلاد، كان في سمرقند بوسط آسيا شقيقان، الأكبر يدعي "قارمون" والأصغر "أحمون". وقد أحبهما الناس، وذاعت شهرتهما ولاسيما بين المسلمين من أبناء قبيلة "سالور"، مما جلب لهما سخط الملك الذي انهمك في تدبير المؤامرات والمكائد للتخلص منهما. لكن جهود الملك أخفقت، وما كان من هذين الشقيقين إلا أن غادرا مسقط رأسهما متجهين إلى الشرق. كانت فرقة الانتقال تتكون من الأخوين وعضو من القبيلة إضافة إلى جمل أبيض. كانوا يحملون ماء والقرآن الكريم من مسقط رأسهم، وقاموا برحلة شاقة عظيمة. خلال الرحلة، انضم تابعون آخرون اليهم، وبحثوا جميعا عن مكان السعادة متجهين إلى جهة شروق الشمس. عبروا نهرا وغابة وصحراء وتغلبوا على صعوبات عديدة. ومرت الفرقة بمدينة سمرقند التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في أوزبكستان في آسيا الوسطى حاليا، ودخلت منطقة جبال جيشي في محافطة شيونهوا في الصين عبر جبال تيانشان الممتدة. وصلوا إلى أراضي الصين في عهد أسرة يوان، بعد أن ابتعدوا عن مسقط رأسهم آلاف الأميال. لم يجدوا مكانا مناسبا لهم، وكانت مشاعر الشوق إلى مسقط الرأس مسيطرة على الأخوين وأفراد القبيلة. وبينما كان الجميع غارقون في هذه المشاعر، وجد أحدهم فجأة أن الجمل الأبيض الذي يحمل المصحف قد اختفى. أخذوا يبحثون عنه في أنحاء الجبل وهم يحملون المشاعل في الليل. بدأت الشمس تشرق تدريجيا، فرأوا أمامهم واديا شاسعا تتدفق فيه أنهار وجداول. نزلوا إلى سفح الجبل، فوجدوا الجمل الأبيض منبطحا في حقل من القصب الأخضر. عندما اقتربوا منه، وجدوا أنه قد تحول إلى صخرة بيضاء، ورأوا بجانبه نبع ماء.فقاموا بقياس التراب والماء، فوجدا أنهما بنفس قياس ما حملوه معهم من مسقط رأسهم. فوثقوا بأن الله قادهم إلى هنا من خلال الجمل الأبيض، وقرروا أن يعيشوا في هذا المكان إلى الأبد. ومنذ ذلك الوقت، أطلق أبناء القبيلة على هذا النبع اسم "نبع الجمل"، وحتى الآن يعتبره أبناء قومية سالار نبعا مقدسا، ويحتل مكانة هامة في ثقافة سالار.

بعد أن أقام أسلاف قومية سالار في محافظة شيونهوا، دعوا أربعين شيخا بقيادة شيخ يدعى سليمان من آسيا الوسطى وذلك من أجل الحفاظ على فهمهم لتعاليم الإسلام. واختاروا قاضيا من هؤلاء الشيوخ لإدارة جميع القضايا والشؤون الدينية. قد يكون هذا من أهم أسباب حفاظ أبناء سالار على العادات والتقاليد القديمة للقومية التركية حتى اليوم، حيث يدين كل أبناء هذه القومية بالإسلام.

لكن تاريخ هجرة قومية سالار انتشر على نطاق واسع عن طريق الأدب الشفوي. لذا تمتعت هذه القصة بالكثير من تبجيل الأسلاف وحملت الكثير من الأوصاف الأسطورية الجميلة. تقول الأسطورة إن قارمون كان يقود قبيلته في هجرتها إلى الشرق من آسيا الوسطى واعتبر هذا الفريق فريقا للمؤمنين لا يخشى مواجهة الصعاب والمشاق، ويُظهر الاختلاف الكبير بين من يتمتع بالإيمان وروح التضحية ومن لا يتمتع بهذا كله. أسلاف قومية سالار تغلبوا على صعوبات ترك بلادهم وأقاموا في موطن جديد واستقروا ونشروا قصائد السرد الجميلة ولم يتخلوا عن سرد أساطير الحزن والألم، كل هذا يعطي انطباعا عميقا عن قوة وشجاعة أبناء هذه القومية.

مسجد جيهتسي، الذي ينتصب وسط قرية سالاباهاي في بلدة جيهتسي بمحافظة شيونهوا، يحتل مكانة هامة في نفوس أبناء سالار، لأن المسجد يضم متحفا بناه أبناء سالار لإظهار تاريخ هذه القومية، ويحتفظ فيه بنُسخ قديمة للقرآن الكريم. وحسب إمام المسجد، فإن أحدث نسخة من هذه النسخ تعود إلى مائتي سنة على أقل تقدير.

ومع مرور الزمن، أصاب هذه النسخ الكثير من التلف كما تم تدمير معظم سجلات الأسماء والجداول  وبالطبع، بين هذه النسخ المنتشرة، لا يمكن استبعاد وجود كمية صغيرة من المخطوطات الواردة من الخارج، بالإضافة إلى ما قام بنسخه المسلمون الصينيون من نسخ للقرآن الكريم بأنفسهم. كل هذا يحتاج إلى الكثير من أعمال التحقيق والتقييم الدقيق. كما تبين أن نسخ وكتابة القرآن أسهما في انتشار وتطور فن الخط العربي في الصين.

تعرض في مسجد "جيهتسي" أقدم نسخة للقرآن الكريم بخط اليد في الصين، التي تتألف من جزأين وتجمع ثلاثين مجلدا، تضم ثمانمائة وسبع وستين صفحة، وبعض الصفحات طالها الكثير من التلف، كما أن الصفحة الأولى التي تضم "سورة الفاتحة" غير موجودة. ولا توجد أي سجلات حول تاريخ بداية كتابة هذه النسخة من القرآن أو مَن كتبها. خط كل النسخ يتمتع بأسلوب الخط المحقق في مرحلة الخط العربي الأولى. الخط المحقق تشكل خلال الدولة العباسية، أي في القرن الحادي عشر الميلادي. ومن هنا يمكن أن يكون تاريخ هذه النسخة يرجع إلى قبل نحو ألف سنة.

وحسب أحد الخبراء الذين قاموا بتحليل هذه النسخ، فقد اكتشف أن هذا النوع من الورق يحتوي على ألياف حيوانية ونباتية. وحسب السجلات التاريخية، بدأت صناعة الورق الصينية الانتشار في منطقة آسيا الوسطى في منتصف القرن الثامن، فنستطيع أن نستنتج أن نسخة القرآن الكريم التي حملها أبناء قومية سالار يرجع تاريخها إلى ألف ومائتي سنة.

لكن هل من الممكن أن يكون عمر هذه النسخة النسخة من القرآن الكريم التي حملها أبناء سالار أكثر من ألف ومائتي سنة؟ قال ما تشنغ جيون، من مواليد عام 1964، وهو أستاذ في كلية الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعية بجامعة القوميات في تشينغهاي: "في سنة 950  ميلادية تقريبا، عاشت سلالة في آسيا الوسطى تدعى أسرة قراخانات، وكلمة "قراخانات" تعني اللون الأسود في لغة سالار. اعتنق الأتراك في دولة قراخانات في هذه الفترة الإسلام، لذا فخلال القرن الثالث عشر، كان تاريخ اعتناق الأتراك في دولة قراخانات للدين الإسلامي وقد وصل إلى مائتي أو ثلاثمائة سنة في ذلك الوقت. ووفقا للدراسات، تمتع أسلاف قومية سالار في أسرة قراخانات بمكانة مرموقة، لذلك كانوا هم الأجدر بحفظ نسخ القرآن الكريم، أما جلبهم لهذه النسخ إلى شيونهاو، فيدل بلا شك على اعتناق مجموعة قومية سالار للإسلام جيلا بعد جيل."

إذا توافقت بحوث ما تشنغ جيون مع القول بأن أسلاف قومية سالار قد تمتعوا بمكانة مرموقة في أسرة قاراخانات، فلماذا غادروا أرضهم الأصلية وجاؤوا إلى شيونهاو الصينية وقطعوا مسافات طويلة وواجهوا صعوبات؟ لماذا اختاروا العيش بين قوميات المغول والتبت وهان ذات العدد الكبير من الأفراد؟ قال ما تشنغ جيون: "في عام 1223، فتح جنكيز خان منطقة آسيا الوسطى وكان أسلاف قومية سالار يعيشون في آسيا الوسطى أيضا. بعد أن بسط جنكيز خان نفوذه على هذا المكان، ونظم العاملين المحليين، بمن فيهم العمال الحرفيون والحجارون لتشكيل قوة في المنطقة الغربية للإمبراطورية. لذا تم وضع قارمون وأحمون وأسلاف قومية سالار في قيادة المنطقة الغربية. في عام 1225، بدأ نفوذ القوة المنغولية بالتراجع بعد السيطرة على آسيا الوسطى، حيث بدأ نفوذ المنطقة الغربية الذي يضم أشخاصا من قومية سالار بالامتداد إلى الشرق، فتوجهوا من آسيا الوسطى شرقا إلى الصين واستقروا في منطقة داخلية تحمل ثقافة صينية تبتية."

بذل ما تشنغ جيون جهودا مضنية لدراسة تاريخ وتراث قوميته، حيث توصل في دراسته إلى أن عدد أبناء قومية سالار ليس كبيرا، حيث لم يتجاوز عددهم في البداية ألف شخص. أما في أوائل القرن الثامن عشر، فقد بلغ عددهم أكثر من  عشرين ألف شخص موزعين على اثنتي عشرة منطقة إدارية. غير أنه وفي أواخر أسرة تشينغ؛ آخر أسر إمبراطورية في الصين،  ازدادت المواجهة الداخلية بين أبناء سالار في أوائل القرن السابع عشر، ما أثر على نفوذ الحاكم في القومية. ففي السنة السادسة والأربعين من فترة حكم تشيان لونغ من أسرة تشينغ، أدى الصراع الداخلي إلى صراع شامل داخل القومية في مواجهة أسرة تشينغ، لكن تم كبح هذا الصراع بسرعة وشهد عدد أبناء هذه القومية انخفاضا، ووصل إلى تسعة آلاف شخص فقط، كل ذلك بسبب الموت والقتال والتشرد والمطاردات. ومع انخفاض عدد السكان، تقلص عدد مناطقهم الإدارية من اثنتي عشرة إلى ثماني مناطق.

وجاء في السجلات أن الصراعات العسكرية في مواجهة أسرة تشينغ أدى إلى تقلص عدد أبناء هذه القومية بشكل كبير. وفي عام 1894، ألغت سلطة أسرة تشينغ نظام الوراثة للرئيس الإداري المحلي والزعيم الديني في قومية سالار، وهو النظام الذي استمر خمسمائة سنة، ما خفف الصراع الداخلي، وساهم في اندماج مختلف الطوائف بشكل تدريجي. عادت بذور الحياة لقومية سالار على أرض شيونهوا من جديد، وامتزج أبناء سالار مع أبناء قوميتي المنغول والتبت في المنطقة المجاورة.

في مسيرة التطور التي استمرت سبعمائة سنة بعد القرن الثالث عشر، والذي استقر خلاله أبناء سالار في محافظة شيونهوا بمقاطعة تشينغهاي، ظل الإسلام يترك تأثيراته العميقة في حياة أبناء هذه القومية. بالنسبة لأبناء سالار فقد دخل الإسلام في كافة جوانب حياتهم، وترك آثارا عميقة تبدو واضحة في معيشتهم اليومية وعاداتهم وتقاليدهم. وقد حملت كل أشكال التعاملات وحفلات الزفاف والجنازات خصائص هذا الدين.

يرجع تاريخ استقرار أبناء قومية سالار في مقاطعة تشينغهاي إلى أكثر من سبعمائة سنة. احترف أسلاف قومية سالار القدامى الصيد والزراعة، ومع مرور الوقت أتقنوا الحرف اليدوية. هذا التطور ساعد على إنشاء المزيد من التبادلات بين أبناء سالار وأبناء القوميات الأخرى، وفي الوقت نفسه، ساهم في حفظ وتوارث الثقافة المتميزة لهذه القومية.

في السنوات الأخيرة، ومع سياسة تنمية المنطقة الغربية التي تتخذها الحكومة الصينية، شهدت المناطق التي يعيش فيها أبناء قومية سالار تطورا سريعا في عملية التحول الحضري. من أجل إنقاذ وحماية اللغة الخاصة بأبناء سالار، والتي تعتبر جوهر ثقافتهم، قدمت الحكومة المحلية التسهيلات السياسية والدعم المالي للمؤسسات المحلية في إطار سياسة تنمية المناطق الغربية الكبرى، مما أدى إلى تطور المؤسسات وتقديم فرص العمل للشباب من قومية سالار. ومن ثم، بدأ أبناء سالار يعملون في مسقط رأسهم وقلت هجرتهم إلى المدن الكبيرة، بما يساعد على حماية البيئة اللغوية لهم.