معرض تاريخ شارع نيوجيه
ذاكرة مسلمي بكين

شارع نيوجيه (شارع البقر) في بكين معروف لكل سكان العاصمة الصينية، وتقريبا لا أحد من مسلمي المدينة العريقة لم يزر هذا الشارع التاريخي، ليس فقط لأنه من أشهر وأقدم شوارع بكين فحسب، وإنما ايضا لأنه أكبر تجمع سكني للمسلمين الصينيين من مختلف القوميات منذ قدم التاريخ.

الماضي والحاضر

شارع نيوجيه، الذي يمتد لمسافة ستمائة وسبعين مترا بعرض أربعين مترا، يقع في منطقة سكنية تحمل نفس الاسم تبلغ مساحتها حاليا 41ر1 كليومتر مربع. هذه المنطقة التي تعد أكبر تجمع لأبناء القوميات في بكين، يقطنها أربعة وخمسون ألف نسمة، ينتمون لاثنتين وعشرين قومية صينية، منها هان وهوي ومان وكوريا ومنغوليا والويغور. يبلغ أبناء قومية هوي في المنطقة اثنين وعشرين ألفا، يمثلون 23% من إجمالي عدد سكان نيوجيه. يتعايش أبناء القوميات المختلفة هنا جيلا بعد جيل في تناغم ومودة.

شارع نيوجيه له تاريخ عريق. وحسب السجلات التاريخية، بني مسجد نيوجيه القائم في هذا الشارع قبل أكثر من ألف سنة، وهو أقدم مسجد في بكين. بدأت أعمال بنائه في عام 996 الميلادي. وتشير سجلات أسرة مينغ (1368-1644)، إلى أن المسلمين كانوا يتجمعون في "شارع المسجد"، الذي يقصد به شارع نيوجيه الحالي. وفي نهاية فترة أسرة تشينغ (1616-1912)، كان في هذا الشارع الكثير من أشجار الرمان، فأطلق أهل المنطقة على الشارع اسم "شارع الرمان" (شي ليو)، لأن نطق كلمة "شي ليو" (الرمان) يشبه نطق كلمة "نيو" (البقر). كان المسلمون في هذا الشارع يتخذون البقر مصدرا رئيسيا للحم الذي يأكلونه فاشتهر الشارع باسم "نيوجيه" منذ ذلك الوقت.

بعد سنوات من التطور، صار "نيوجيه" قبلة العديد من المتاجر والمطاعم ذات الخصائص القومية والإسلامية. ومع زيادة عدد سكانه، صار الشارع مزدحما وساءت أحواله البيئية والمعيشية بعد أن أمست بيوته متداعية. في عام 2001، بدأت حكومة مدينة بكين مشروعا لإصلاح وترميم منطقة نيوجيه السكنية، فتم توسيع الشارع وإصلاح وترميم البيوت القديمة، فتغيرت ملامح الشارع جذريا. أصبح الشارع عريضا، ذا بيئة ممتازة وبنايات جديدة. تحسنت الظروف السكنية لأكثر من عشرة آلاف أسرة تسكن في المنطقة، وارتفع متوسط نصيب الفرد من مساحة السكن من خمسة أمتار مربعة في السابق إلى أكثر من عشرين مترا مربعا حاليا. يحتضن شارع نيوجيه أكبر متجر إسلامي في الصين، وهو الوحيد من نوعه في بكين. الشارع به أيضا مستشفى قومية هوي، وهو المستشفى الوحيد ذو الخصائص الإسلامية في بكين، فضلا عن مرافق أخرى تيسر كثيرا حياة سكانه.

معرض الشارع

في نهاية عام 2015،  افتتح معرض تاريخ شارع نيوجيه في قاعة تحت الأرض مساحتها أكثر من ستمائة متر مربع. كانت هذه القاعة تستخدم في السابق كمخزن للأشياء المهملة. قامت الحكومة المحلية لحي شيتشنغ، التي يقع الشارع في نطاقه، بإصلاح هذه القاعة وحولتها إلى قاعة عرض، بعد جهود استمرت سنتين وبتكلفة جاوزت أربعة ملايين يوان (الدولار الأمريكي يساوي 5ر6 يوانات).

يشتمل المعرض على سبعة أقسام، هي: تاريخ الشارع، ملامح الشارع، أزقة الشارع، اقتصاد الشارع، ثقافة الشارع، تقاليد الشارع، ومشاهير الشارع. تضمن هذا المعرض أنواعا من الصور والمعروضات التي جمعتها الحكومة المحلية من عامة الشعب، كما زينت جدران قاعة العرض بالعديد من القصص حول هذا الشارع العريق.

في داخل المعرض، لوحة طولها ستة عشر مترا تصف أحوال أهل نيوجيه في مختلف المراحل التاريخية. استخدم الرسام الأسلوب الصيني التقليدي لإظهار الصور الحيوية لحياة الناس في هذا الشارع. وفي كل مرحلة تاريخية، هناك شرح مفصل باللغتين الصينية والعربية للتعريف بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت. وقد حرص الرسام على الموضوعية في عمله الإبداعي، فجسدت لوحته تاريخ الشارع ومسيرة انتشار الدين الإسلامي في هذه المنطقة.

في قسم "ملامح الشارع"، يقتبس المعرض عدة مظاهر رمزية ولطيفة في حياة أهل شارع نيوجيه. مثلا، هناك تجار يبيعون الفواكه في السلال الكبيرة، مع ربط كل سلتين بحبل على عصا طويلة ليحملوا سلال الفواكه على أكتافهم. وتُعرض في المعرض تماثيل شمعية لإعادة هذه المظاهر. كما أن هناك مشهدا يستعيد ملامح لمطعم جيوباويوان الإسلامي العريق. يرجع تاريخ هذا المطعم القديم إلى عام 1946، وكان يشتهر بلحم البقر والغنم الطازج. حاليا، مطعم جيوباويوان صار سلسلة مطاعم منتشرة في بكين.

من بين المعروضات، ملابس تقليدية لأبناء القوميات، كتب وصور قديمة، لوازم الحياة المنزلية، وغيرها. كما يضم المعرض لوحات العناوين القديمة المكتوبة بالصينية والعربية للعائلات التي كانت تسكن في شارع نيوجيه، كدليل على انتشار الثقافة العربية والإسلامية بين أبناء شارع نيوجيه منذ وقت مبكر.

في يوم الثلاثاء والخميس والسبت، هناك متطوعون يقومون بأعمال التعريف والشرح للزوار. العجوزان تشانغ شو فانغ وما هونغ نيان من بين هؤلاء المتطوعين. قالت تشانغ شو فانغ، وهي مدرسة إبتدائي متقاعدة: "عندما سمعت أن الحكومة المحلية قررت إصلاح هذه القاعة وتحويلها إلى معرض لتاريخ نيوجيه، تطوعت للقيام بأعمال التعريف والشرح هنا. هذا بسبب حبي لهذا الشارع من جانب، ومن جانب آخر، لأنني أعرف الكثير من قصصه، وأود مشاطرتها مع الناس." وقالت إنها قامت باستعدادات كافية لهذا العمل. كتبت هي وبعض المتطوعين الآخرين كلمات الشرح في ثمان وعشرين صفحة، وحفظوها ليقدموا أفضل خدمة للزوار.

كما قال ما هونغ نيان: "أعتقد أنني أستفيد من هذا العمل، فعندما أعرّف الزوار بتاريخ شارع نيوجيه وقصصه، أشعر بأني أتعلم منها من جديد. أظن أن الشارع ليس مجرد مكان يسكن فيه أبناء القوميات، وإنما أسرة كبيرة ترمز إلى ثقافة بكين الفريدة والتعايش المتناغم بين أبناء مختلف القوميات.

كما قال ما هونغ نيان إن هذا المعرض حظي بالاهتمام من جهات شتى، حيث نظمت الشركات الكبيرة، خاصة في مجال المطاعم الإسلامية، موظفيها لزيارة المعرض، وشجع المعلمون تلاميذهم لزيارته والتعلم منه، كما أن وسائل الإعلام أتت إلى هنا لتغطيته. لذا، لعب هذا المعرض وظائف متعددة، بما فيها العرض والتعليم والدعاية والمحافظة على المعروضات الثمينة.

فتح ما هونغ نيان سجل زوار المعرض وقال: "منذ افتتاح المعرض في الثامن من ديسمبر عام 2015، جاوز عدد الزوار ألفي فرد. لكن مع الأسف لا نستطيع فتحه على مدار أربع وعشرين ساعة، لأننا نفتقر إلى المتطوعين للقيام بالتنظيف والإدارة والتسجيل والتعريف. لكن، كتبنا أرقام الهاتف النقال لكل منا على بوابة المعرض، ويمكن لأي فرد الاتصال بنا مباشرة. نحن نسكن في محيط هذا المعرض، ويمكننا أن نصل في خمس دقائق."

ثقافة الشارع

يظهر المعرض الثقافة الخاصة لشارع نيوجيه. على أحد جدران قاعة العرض، كتب العديد من أسماء العائلات الصينية، مثل لي، وتشانغ، وما. وبجانب هذه الأسماء العديد من أسماء المهن، مثل الطباخ والتاجر والمعلم. وحسب تعريف تشانغ شو فانغ، يرمز هذا الجدار إلى ثقافة فريدة في شارع نيوجيه، أي ثقافة أسماء العائلات. قديما، كان العديد من أبناء الشارع من أصول متشابهة ويحمل بعضهم نفس اسم العائلة. كانوا لا يعرفون الكتابة والقراءة، لكنهم يعيشون معا ويلتقون معا كل يوم. كانت المشكلة هي كيفية تمييز أصدقائهم الذين يحملون نفس اسم العائلة. وهكذا، بدأ سكان نيوجيه يلقبون أصدقائهم باسم العائلة والمهنة معا. مثلا، هناك رجل اسم عائلته "ما" وهو طباخ، فأصبح لقبه "الطباخ ما"، وأسرته أسرة "الطباخ ما". وبعد أجيال صار أهل الشارع يعرفون المهن التي كان يمارسها أسلافهم.

بالإضافة إلى ثقافة أسماء العائلة، هناك ثقافات أخرى ذات خصائص محلية في هذه المنطقة، مثل ثقافة اللغة وثقافة الأزقة وثقافة الووشو في شارع نيوجيه.

يعتبر شارع نيوجيه مهد الثقافة الإسلامية والقومية في مدينة بكين، وهو يجسد التعايش المثالي بين أبناء مختلف القوميات. إن جهود الحكومة المحلية لإقامة معرض تاريخ نيوجيه تدل على اهتمامها وعزمها لاستمرار هذا الوئام والتعايش بين أبناء الشارع، وهذا المعرض دليل ثابت على الثقافة العريقة لهذا الشارع وأهله.