حقوق الإنسان والقدم الصينية

في شهر سبتمبر عام 1997، وفي كلمة أمام جمع من العلماء والخبراء من دول مختلفة، من بينهم العالم الأمريكي- الصيني تشن نينغ يانغ الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1957،  قلت إن الصين تستحق أعظم جائزة لحقوق الإنسان في العالم. اليوم، يزداد اقتناعي ويقيني بما قلتقبل نحو عشرين عاما. فالصين التي خلّصت أكثر من أربعمائة مليون فرد من مواطنيها من براثن الفقر، وانخفضت فيها نسبة الأمية من نحو 75% عندما تأسست جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، إلى نحو 3% حاليا، وارتفع متوسط عمر الفرد من أبنائها من ستة وثلاثين عاما في سنة 1949 إلى نحو ستة وسبعين عاما في سنة 2015، وقفز متوسط الدخل السنوي للفرد فيها من ثلاثمائة واثنين وثمانين يوانا في عام 1978 إلى نحو خمسين ألف يوان (الدولار الأمريكي يساوي 5ر6 يوانات) في 2015، حققت ما لم تحققه أمة أخرى في تاريخ البشرية!

ومع ذلك، فإن تقارير ما يُسمى بمنظمات حقوق الإنسان الدولية (الغربية في الأساس) لم تنل من أمة بقدر ما نالت من الصين! وأزعم أن الصين هي الدولة صاحبة الرقم القياسي في تقارير الإدانة الصادرة من تلك المنظمات المعروفة بتحاملها وانحيازها. وتكشف قراءة تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عن حالة حقوق الإنسان في الصين عام 2015، عن نموذج لهذا التربص بالصين، وتجاهل حقائق التاريخ والتطور الاجتماعي والإنساني الذي شهدته الصين خلال السنوات الثلاثين الماضية. يقول التقرير في مقدمته: "تبقى الصين دولة استبدادية، تقمع منهجيا الحقوق الأساسية، ومنها حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمعات والأديان عندما تعتبر ممارساتها تهديدا لحكم الحزب الواحد."

إن الصين لم تزعم يوما أنها دولة لا يحكمها حزب واحد هو الحزب الشيوعي الصيني، والصين لم تزعم يوما أنها تتبنى نظاما سياسيا على غرار النظم الغربية، وإنما تؤكد أنها تتبنى نظاما سياسيا يتوافق مع ظروف تطورها التاريخي ومستوى التنمية فيها وثقافة شعبها وظروفها الديموغرافية. إن الصينيين عندما تبنوا النهج الاشتراكي في الحكم، عدلوا في النموذج الاشتراكي الغربي وأكسبوه سمات صينية، والصينيون لديهم ديمقراطيتهم الصينية الخصائص، بل إن كلمة "democracy" التي تترجم في لغات عديدة، ومنها اللغة العربية حسب نطقها، تترجم في اللغة الصينية إلى "مينتشو" أي "الشعب هو السيد" أي سيادة الشعب على دولته، وليس "حكم الشعب" وفقا للترجمة الحرفية للكلمة اليونانية الأصل.

لقد ربط مفكرو الغرب الديمقراطية بالليبرالية والرأسمالية، وبعبارة أخرى، بالنسبة لهم لا توجد ديمقراطية إذا غابت الليبرالية. وقد عبر عن هذا المعنى في أكثر صوره فجاجة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه المعروف "نهاية العالم". بعد انتهاء الحرب الباردة، اعتبر فوكوياما أن الرأسمالية حققت الانتصار النهائي، وأن التاريخ سينتهي إلى النظام الديمقراطي الغربي. ولكن مسار التاريخ في العقود الأخيرة للقرن العشرين والعقد الأول للقرن الحادي والعشرين لم يؤيد نبوءة فوكوياما، فلم تتأصل الديمقراطية في روسيا ودول شرقي أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكانت عواقب محاولات فرض نموذج الديمقراطية الغربية في بعض دول أمريكا اللاتينية وفي أفغانستان والعراق والفلبين مأساوية في حالات كثيرة. على الجانب الآخر، حققت الصين، التي تتبنى نهجا سياسيا مختلفا تماما عن الحرية والديمقراطية الغربية، نهضة شاملة أثارت انتباه العالم، فكان ذلك تحديا قاسيا لمنظومة القيم الليبرالية الغربية.

مفهوم الصين لحقوق الإنسان مرتبط بالثقافة والفلسفة الصينية وتاريخ الصين ومسيرة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، فمع الاعتراف بعالمية حقوق الإنسان، تؤكد الصين على الخصوصية الثقافية ومستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. الصينيون لأسباب تاريخية وفكرية يضعون حق الإنسان في الطعام الكافي واللباس الدافئ والمسكن الآمن على قمة أولويات الحقوق. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان له الحق في الحياة أولا قبل أن يكون له الحق في حرية التعبير والتجمع.

إن ما تؤكده الأحداث التي نعيشها اليوم، وبخاصة في المنطقة العربية وقارة أفريقيا، هو أن ما يُسمى بمنظمات حقوق الإنسان هي آخر من يتحدث عن حق الإنسان في الحياة قبل أن تتبوأ دور المرشد والمعلم والناقد، فالصين التي وصفتها هيومن رايتس ووتش بالاستبدادية هي الدولة التي لا يحمل مواطنوها صفة "لاجئ" تتقاذفه حدود الدول الغربية، وهي الدولة التي ليس من بينها مواطنيها جائع يتوسل عطف وتعاطف الدول "الديمقراطية"، وهي الدولة التي تسعى إليها الدول الليبرالية لتتعاون معها. فهل منظمات حقوق الإنسان أكثر حرصا على المواطن الصيني من حكومة الصين؟

في التاسع والعشرين من يناير 2016، وفي تعليقها على تقرير لواحدة من منظمات الإنسان "الدولية"، أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ إلى المثل القائل: "إن قدمك فقط هي التي تشعر بما إذا كان الحذاء ملائما لها أم لا". السيدة هوا طالبت المنظمة إياها بمراجعة التطورات في الصين بطريقة موضوعية ومنصفة وعقلانية. وقالت: "الشعب الصيني وحده هو الذي يمكنه أن يعلق على وضع حقوق الإنسان لديه." وأضافت: "نأمل أن تتمكن الأطراف المعنية من النظر إلى التنمية الاجتماعية في الصين بطريقة موضوعية ومنصفة وعقلانية. فالصين دولة قائمة على حكم القانون وأي منتهك للقانون يُعاقب وفقا للقانون بغض النظر عن وضعه أو ما يسمى بحرية التعبير. حقوق الإنسان جزء هام من التنمية الاقتصادية والاجتماعية للصين، وتدفع الصين قضية حقوق الإنسان بما يتماشى مع ظروفها الوطنية واحتياجات شعبها."

إن أحداً لا يزعم أن الصين تخلو من التجاوزات بحقوق البعض أو أنها جنة حقوق الإنسان، ولكنها دولة تسعى إلى تحسين حياة مواطنيها، وتوفير الشروط الأساسية لمعيشتهم وتطورهم، بما في ذلك كافة حقوقهم، ومنها حريات التعبير والنقد والاحتجاج، بشرط أن لا يكون ما يعتبره البعض حرية سببا ومبررا لانتهاك الحقوق العامة والرئيسية لجموع الشعب. بعبارة أخرى، الحقوق العامة للغالبية العظمى من الشعب مُقدَمة على الحق الخاص بمجموعة من الأفراد. إنه لمن العبث اتهام الصين بأنها تتبع سياسة ممنهجة لانتهاك حقوق مواطنيها، لأنها ببساطة إذا كانت تفعل ذلك ما كانت لتحقق ذلك التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والرياضي والثقافي والفني الذي يشهد به العالم، ولانتهى بها الحال إما إلى دولة منعزلة أو دولة تضرب الفوضى أطنابها فيها. وكل ذي بصر وبصيرة يمكن أن ينظر حوله ليرى هذا الواقع. إن الصين تدرك جيدا أن تطورها الاقتصادي والاجتماعي يواكبه تطور في حقوق مواطنيها، وهذا هو واقع الحال. إن الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي الصينية تعج بالانتقادات لما تراه ممارسات سلبية على أي مستوى، وتنتقد المسؤولين إذا حادت تصرفاتهم وأعمالهم عن جادة الصواب. ولكن فرق كبير بين أن تنتقد لتصلح وتبني وأن تنتقد لتهدم وتشيع الفوضى.  

إن أسوأ شيء هو توظيف مبادئ إنسانية نبيلة لخدمة أغراض سياسية أو اقتصادية، وهذا ما تلجأ إليه الدول الغربية في علاقتها مع الصين، كما هو الحال مع دول أخرى لا تدور في فلك السياسة الغربية. ويلاحظ المراقب أن إثارة غبار حقوق الإنسان في الصين، تتزامن دائما مع الأحداث الكبيرة في هذه الدولة التي تعول خُمس سكان العالم. لقد كان لافتا، قبيل الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2015، التصريح الذي خرج به توم مالينوسكي مسؤول حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأمريكية، في الرابع عشر من أغسطس، وقال فيه: "يتعين على الصين تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان لضمان نجاح القمة التي ستعقد بين الرئيس باراك أوباما والرئيس شي جين بينغ." السيد مالينوسكي، الذي ارتكبت بلاده أبشع جرائم انتهاك لحقوق الإنسان في كل ركن من العالم، قال: "إن هناك إحساسا متزايدا بالقلق في الحكومة الأمريكية بشأن تطورات حقوق الإنسان في الصين." ولا شك أن ثمة فارقا كبيرا بين "إحساس" الحكومة الأمريكية والسيد مالينوسكي و"واقع" حياة المواطن الصيني. ولعلنا نتذكر الحملة الشرسة التي تعرضت لها الصين قبيل استضافة بكين لدورة الألعاب الأولمبية عام 2008، عندما قلبت منظمات حقول الإنسان الغربية الحقائق واستغلت أحداث العنف التي شهدتها مدينة لاسا، حاضرة منطقة التبت، ووصفت مرتكبي جرائم التخريب والنهب والحرق بالمتظاهرين، وبررت أعمال العنف التي ارتكبوها.  وهذا ما تفعله تلك المنظمات مع كثير من دعاة العنف والتطرف والتخريب في مناطق مختلفة من العالم، ومنها المنطقة العربية.

أستعيد هنا كلمات واحد من الحقوقيين الصينيين، وهو البروفيسور لوه يان هوا الذي قال: "إذا كانت بعض جماعات حقوق الإنسان الغربية ترغب فعليا في مساعدة بعض البلدان على تحسين وضع حقوق الإنسان بها، ينبغي لها أن تدرس بحرص ما تحتاجه هذه الدول وتقدم بعض المساعدات العملية لها." أن تضئ شمعة خير من أن تلعن الظلام. أضيئوا الشموع يتبدد الظلام، حيثما وُجِد.