مقهى جيآنتشاي الإسلامي في تشيانمن

بين الأزقة العتيقة المتشابكة والدور الرباعية التقليديةفي منطقة تشيانمن وداشيلان التجارية ببكين، يفوح عبق تاريخي خاص من مقهى صغير يحمل اسم "مقهى جيآتشاي الإسلامي". صاحبة المقهى، السيدة وانغ شيو رن، ابنة قومية هوي، ورثت عن أسرتها هذا المكان الذي يرجع تاريخه إلى أربعمائه سنة.

أسرة وانغ

اشتهرت أسرة وانغ شيو رن بصناعة لزقة "وانغ هويهوي" الطبية في مدينة بكين منذ عام 1620. تُصنع هذه اللزقة من الأعشاب التقليدية الصينية وجلد الكلب، لعلاج التهاب المفاصل الرثياني (الروماتويد). وبعد جهود أجيال، أصبح لدى أسرة وانغ صيدلية باسم "جيآنتانغ" لبيع اللزقة الطبية ومصنع كبير في مدينة بكين القديمة. في سنة 1937، ومع اندلاع حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، واجهت الأعمال التجارية لأسرة وانغ كسادا كبيرا، فترك والد وانغ شيو رن، السيد وانغ ليانغ بكين وقصد إلى مدينة قويلين بمقاطعة قوانغشي في جنوبي الصين، حيث كان يعيش عمه الإمام الكبير ما سونغ تينغ، الذي أنشأ مدرسة لإعداد المعلمين في قويلين لخدمة الوطن. في الفترة من سنة 1937 إلى سنة 1940، عمل وانغ ليانغ في المدرسة كمعلم. من خلال هذه التجربة، تعرف وانغ ليانغ على العديد من الشخصيات البارزة. في عام 1940، عاد إلى بكين وانخرط في جهود دعم المقاومة الصينية. كان يقدم تبرعات للمدرسة كل سنة، وشارك في أعمال إدارة مدرسة مورن الابتدائية للمسلمين. وفي الوقت نفسه، بدأ وانغ ليانغ يدعم الأعمال الخيرية للمسلمين بكل نشاط. كان يقدم القسم الأكبر من دخله للفقراء والضعفاء، وخاصة من أبناء قومية هوي.

بعد تأسيس جمهورية الصين الجديدة في عام 1949، نشطت تجارة صيدلية جيآنتانغ مرة أخرى. ومن أجل دعم الجنود الصينيين المتطوعين في حرب الكورية، كان وانغ ليانغ يقدم كميات هائلة من اللزقات الطبية في ساحات الحرب، لتخفيف آلام المقاتلين الصينيين في الجو البارد. في عام 1956، ومن أجل دعم بناء الوطن، قدم وانغ ليانغ وصفة سرية توارثتها أسرته جيلا بعد جيل إلى المصانع العامة لإنتاج الأدوية، وألقى محاضرات كثيرة لتعليم الناس كيفية إنتاج واستخدام اللزقة الطبية. بالإضافة إلى ذلك، تبرع ببعض عقاراته للدولة، وعمل في مصنع عام كعامل عادي. وقد كتب عمدة مدينة بكين حينذاك، بنغ تشن، عبارة تقدير لوانغ ليان: "خبرات وانغ ليانغ كنوز للطب التقليدي في وطننا".

إحياء الثقافة التقليدية

في عام 2011، عندما بدأ مشروع إصلاح وترميم منطقة تشيانمن وداشيلان، من أجل استعادة الخصائص الثقافية الصينية بالصورة التي كانت عليها في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، قررت وانغ شيو رن أن تلعب دورا رائدا في هذا العمل. عقدت اجتماعا صغيرا لأفراد أسرتها، فاتفقوا جميعا على فتح مقهى حديث إسلامي في بيت أسرتها القديم، ومن أجل توارث روح الأسرة في خدمة المجتمع، أعطوا هذا المقهى اسم "جيآنتشاي".

يقع مقهى  "جيآنتشاي" في البناية رقم 66 في شارع يانغميتشو، ويتكون من طابقين. وهو في الحقيقة جزء من دار رباعية قديمة. في الطابق الأول للمقهى، عدة طاولات ودواليب خشبية وزهور ونباتات كثيرة. وفي الطابق الثاني، معرض صغير لتاريخ أسرة وانغ شيو رن، من بينها اللوحة الخشبية القديمة لصيدلية "جيآنتانغ"، وصور لأسلاف الأسرة، ومواد وأدوات إنتاج اللزقة الطبية. وانغ شيو رن تعتبر هذا المعرض "متحف الأسرة". يمكن للزبون الجلوس بالطابق الثاني في الهواء الطلق، فيرى بوابة تشيامن (البوابة الأمامية) وقاعة الشعب الكبرى. تحيط المساكن التقليدية العريقة بهذا المقهى المميز، وتختلط رائحة القهوة بعبق التاريخ، فيشعر الزائر أنه عاد إلى الزمن القديم.

يقدم المقهى القهوة والوجبات البسيطة وأنواعا من الخبز والحلويات الحلال للزبائن. وقالت وانغ شيو رن: "أعيش في أسرة مسلمة متدينة، وأضمن للزبائن أن كل الأطعمة في المقهى حلال. أشتري اللحم والحليب من شارع نيوجيه، وقد تعلمت الأسلوب الغربي لإعداد الأطعمة. الآن أشهر طبقين في المقهى هما هامبورجر لحم البقر والأرز بلحم البقر. كما أن الخبز بسمك التونة ممتاز جدا. أحاول تجديد قائمة الأطعمة كل عدة شهور، لتوفير مذاقات متنوعة لزبائننا. وبالإضافة إلى المسلمين، يأتي إلينا كثير من الزبائن من غير أبناء قومية هوي، بل ومن الأجانب. هم يحبون أجواء المقهى، ويقولون إن الوجبات هنا لها مذاق أصلي خاص. وأثناء جلوسهم في المقهى، أحكي لهم قصة أسرتنا، وأتقاسم معهم قصص حياتهم كذلك."

بالإضافة إلى تقديم القهوة والوجبات، يبيع المقهى بعض الهدايا التذكارية والأدوات الدراسية. قالت وانغ شيو رن: "لن أنسى أقوال وأفعال أبي. لقد تعلمت منه أن المسلم يجب أن يفعل الخير لخدمة المجتمع. يوجد مسجد ومدرسة ابتدائية للمسلمين بالقرب من المقهى، فأدعو الأئمة والإخوة المسلمين إلى المقهى للتمتع بالاستراحة. كما أبيع الأدوات الدراسية بسعر رخيص، لأن هذا المكان ملك لأسرتنا، فلا أتحمل تكلفة الاستئجار. يأتي التلاميذ إلى المقهى لشراء الدفاتر والأقلام، وأعتقد أننا بذلك نقدم مساعدة صغيرة لأبنائنا." بفضل نشاطها في الأعمال الخيرية، تتمتع وانغ شيو رن بشهرة طيبة في منطقة تشيانمن وداشيلان. وعندما تكون أعمالها كثيرة في عطلة نهاية الأسبوع، يذهب كثير من الشباب المتطوعين إلى المقهى لمساعدتها. وهم لا يعتبرون ذلك عملا في وفت الفراغ، وإنما يشعرون بأنهم يقضون وقتا رائعا مع أهلهم.

حماية البيئة

السيدة وانغ شيو رن لديها وعي كبير بحماية البيئة. عندما قررت ترميم وتجديد المقهى، ناقشت مع أفراد أسرتها كيفية توفير الطاقة وجعل المكان صديقا للبيئة. وبعد مشورات من الأصدقاء قررت استخدام مواد عضوية في الترميم، واستخدام بعض الأشياء القديمة في صنع قطع أثاث جديدة. وعلى سبيل المثال، تم تحويل مصراع الباب الخشبي القديم إلى مائدة طويلة، فتحفظ ببصمات التاريخ. وتحول ما بقي من الباب إلى مقاعد صغيرة وزخارف. وفوق ذلك، تشجع وانغ شيو رن الزبائن لأخذ زجاجات المشروبات الفارغة إلى بيوتهم لاستخدامها في زراعة النباتات. تباع في المقهى نباتات صغيرة مثل النرجس. وهكذا، يظل بين الزبون والمقهى رباط دائم.

قالت وانغ شيو رن: "حاليا، تختفي كثير من الأشياء القديمة، ولكننا لن نتخلى عن روح التوفير والتوارث التقليدية. في السادس والعشرين من أكتوبر عام 2015، زار ملك هولندا فيليم ألكساندر المقهى، حيث تعرف على تاريخ الأسرة وزار معرض "متحف الأسرة". أثنى الملك على جهودنا في حماية البيئة، وقال إنه يتمنى أن نتوارث الثقافة التقليدية لأسرتنا جيلا بعد جيل. في الحقيقة، أعتقد أن روح أسرتنا هي مساعدة الآخرين، ويساهم كل أفراد الأسرة بدوره لخدمة المجتمع. لذا، قررت أن أفتح هذا المقهى لتوفير مكان رائع للناس."

تواكب وانغ شيو رن خطوات العصر، فمن أجل الدعاية للمقهى وروح الأسرة ووعيها لحماية البيئة، فتحت حسابا لها على موقع التواصل الاجتماعي ويشات، تنشر فيه مقالات رائعة حول أسرتها والمقهى. وتقوم أيضا بتصميم بطاقات بريدية وتوزيعها.

مع أن ملامح منطقة تشيانمن وداشيلان تغيرت كثيرا، مازال الناس يشعرون في هذا المقهى الصغير بروح الاجتهاد والخدمات المتيزة الدائمة. إن مثابرة هذه الأسرة على مساعدة الآخرين تعبر العصور، وتكمن في كل فنجان القهوة، وفي كل طبق من الأطعمة اللذيذة، وفي المساكن الرباعية والأزقة المتشابكة. قالت وانغ شيو رن: "لأسرتنا قصصها الخاصة، وأظن أن لكل أسرة في منطقة تشيانمن وداشيلان قصصا رائعة. أتمنى أن تُعرض هذه القصص في المقهى معا يوما ما. علينا الاهتمام بالابتكار والمحافظة على الثقافة التقليدية. هذه الثقافة تخص بكل أبناء الصين."