الهروب إلى وادي البوق في هوايرو

تقع بلدة لاباقُومن (التي يعني اسمها بوابة وادي البوق) في حي هوايرو في شمالي بلدية بكين، متاخمة لحدود بكين مع مقاطعة خبي، وعلى مسافة مائة وخمسين كيلومترا من قلب مدينة بكين. اتخذت البلدة اسمها من الطبيعة الجغرافية لها، فهي جزء من واد على شكل البوق. وتعتبر "لاباقُومن " أكبر تجمع سكني لأبناء قومية مان "المانشو" في بكين؛ حيث يعيش أبناء مان في عشر قرى تابعة للبلدة.

تشتهر "لاباقُومن" في شمالي الصين بأنها البلدة العامرة وتجتذب الكثير من السياح، بفضل المساحات الخضراء الشاسعة فيها والهواء النقي وينابيع المياه والمناخ المعتدل، حيث أن متوسط درجة الحرارة في فصل الصيف لا يزيد عن عشرين درجة مئوية. حديقة لاباقُومن الوطنية في البلدة، تحتل أكثر من 60% من المساحة الإجمالية للبلدة.

مناظر جبلية طبيعية

المناظر الجبلية الطبيعية في لاباقُومن هي أكثر ما يجذب زوار البلدة ويفتن قلوبهم. في شهر أكتوبر كل عام، تكتسي الأشجار بألوان متعددة؛ الأحمر والأخضر والأصفر فتشكل مع السماء الزرقاء لوحة فنية رائعة الجمال.

يعتبر كثيرون من أهل بكين لاباقُومن "الحديقة الخلفية" لمدينتهم، فيتدفقون إليها في عطلات نهاية الأسبوع طلبا للاستجمام والراحة والتنزه. يمكن الوصول إلى لاباقُومن من قلب المدينة بسهولة خلال ساعتين فقط، عبر الطريق الوطني السريعG111، الذي يؤدي إلى المنطقة الجبلية الشمالية في هوايرو، حيث تظهر للعيان مناظر خلابة رائعة مختلفة تماما عن وسط المدينة.

يختار معظم السياح الإقامة في قرية سونتشاتسي القريبة من الحديقة الوطنية. في هذه الحديقة مكانان رئيسيان يفضلهما السياح، وهما: منصة فنغهوانغ (العنقاء)، وبحيرة وولونغتان (بحيرة التنانين الخمسة). تقع منصة فنغهوانغ على مسافة ثلاثة كيلومترات من سونتشاتسي، وهي المزارالأكثر شهرة، وتضم مناظر خلابة، منها أكبر غابة لأشجار البتولا البيضاء والبلوط في بكين. يتغير لون أوراق هذه الأشجار في فصل الخريف، حيث تتحول أوراق البتولا إلى اللون الذهبي اللامع، في حين تتحول أوراق البلوط إلى البرتقالي المتوهج.  وتساعد درجات الحرارة المعتدلة في هذه البيئة الجبلية على ازدهار ونمو النباتات والعديد من الحيوانات.

يمكن للسائح المستكشف أن يتبع مسارا تصاعديا، حتى قمة التل، ثم يواصل الصعود  إلى أعلى حتى يصل إلى قمة نانهودينغ على ارتفاع ألف وسبعمائة متر فوق سطح البحر،  وهي أعلى قمة جبلية في هوايرو، ورابع أعلى قمة جبلية في بكين.

بعد عبور غابة من الأشجار، والصعود إلى أعلى، تظهر أرض معشبة على حرف الجبل، في حين تلامس الأعشاب الطويلة سيقان المشاة ويداعب نسيم الهواء الشعر ويلاطف الوجوه. هذه المشاعر والأحاسيس الجميلة تزيد الرغبة في التسلق. ومع الاقتراب من القمة، تلوح أمام المتسلق كومة من الصخور الكبيرة المتناثرة، يبدو وكأنها قطعة من عمل فني تجريدي رائع. وبعد تلك المناظر والمشاعر، يصل الزائر إلى أعلى صخرة ضخمة ارتفاعها عشرة أمتار، تعد منصة تقدم للزوار أفضل وأروع المناظر الجبلية الطبيعية التي لا نهاية لها.

البتولا والأزاليا

الصعود إلى أعلى نانهويونغ اختبار جاد  للياقة البدنية، ولكن ذلك المشهد البانورامي المميز الذي يراه المتسلق يستحق الجهد المبذول ويعطيه الفرصة لالتقاط الأنفاس على طول الطريق الذي يسير فيه. 

غابات البتولا تجذب معظم السياح إلى لاباقومن. تتمتع أشجار البتولا بصفة أدبية فنية في الصين، حيث أغنية عاطفية صينية مشهورة عن أشجار البتولا للمطرب الصيني بو شو. ولذلك، يربط العديد من الشباب الصيني أشجار البتولا بالحب والنضارة والحنين إلى الماضي. أما بالنسبة للجيل الأكبر سنا، فإن أشجار البتولا ترمز إلى تقلبات الحياة، تزامنا مع التغيرات التي تحدث في المجتمع الصيني.

الخريف هو أفضل موسم للتمتع بأشجار البتولا، حيث تشمخ أوراقها الذهبية أمام زرقة السماء الصافية فتشكل مشهدا طبيعيا يفوق الخيال ويقدم لعيون أهل المدن المتعبة وجبة دسمة من جمال الطبيعة ودررها. تبدو جذوع البتولا الفضية  المتعرجة ممتدة بشكل فني معقد. لاباقومن، التي تحتضنها غابات مساحتها أربعة آلاف وسبعمائة هكتار أكبر منطقة غابات في بكين. هناك، يستمتع الزائر بحفيف أوراق الأشجار ومشاهدة أشعة الشمس وهي تخترق الظلال وأماكن الزوار. هذه المشاهد تمحو هموم وتعب المدينة الصاخبة وتشجع سكانهاعلى الهروب إلى هذا المكان الهادئ الرائع لبضعة أيام.

في أكتوبر 2010، رأت لي هاو، وكانت طالبة دراسات عليا في بكين، تلك المناظر في لاباقُومن، فوقعت في غرامها. لي هاو، ابنة مدينة هانغتشو، حاضرة مقاطعة تشجيانغ، وصفت زيارتها الأولى لهذه الغابات الرومانسية بشمالي الصين بأنها فرصة لا تقدر بثمن. وقد تركت هذه الزيارة في نفسها انطباعا مختلفا عما شعرت به  أثناء زيارتها للبحيرة الغربية في مسقط رأسها.

اليوم، تواصل لي دراستها للدكتوراه في هونغ كونغ، لكنها تقول إنها لا زالت تحتفظ بذكرياتها في لاباقُومن وستظل محفورة في ذاكرتها ووجدانها مدى الحياة. بالنسبة لها، غابة البتولا البيضاء تمثل جزءاً من أيام شبابها في بكين.

تكتسي أوراق البتولا باللون الذهبي لمدة أسبوع فقط، ثم تتساقط مع انخفاض درجات الحرارة وهبوب الرياح الشمالية. فلا عجب أن هذا الجمال السريع الزوال يذكّر الناس بسرعة مرور الوقت والحياة والشباب.

في شهر مايو من كل عام، تغطي نباتات الأزاليا المزهرة جبال لاباقُومن، وتستمر زهورها يانعة لمدة شهر تقريبا. تعكس هذه الزهور الحمراء شعورا بالحيوية. وقد كتب الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، أبيات شعر شهيرة قال فيها: "عندما يزهو التل بالزهور المتوهجة، سوف تبتسم هي بينها"، في إشارة إلى زهور الأزاليا.

في الصين، تنمو أشجار الأزاليا بشكل رئيسي في شمالي البلاد؛ في سلسلة جبال خينقان الكبرى (داشينغآنلينغ) وجبال تشانغباي وفي منغوليا الداخلية. ونادرا ما توجد في جبال أومي في سيتشوان. ولكنها تكثر في لاباقُومن وهذه البلدة تقع تقريبا على نفس خط العرض مع منغوليا الداخلية وارتفاعها أكثر من ألف متر عن مستوى سطح البحر.

الأزاليا تنطق في اللغة الصينية "ينغشانهونغ"، وتعني حرفيا الشيء الذي يجعل الجبال حمراء اللون. تتميز زهور الأزاليا في لاباقُومن بلونها المائل للوردي الفاتح، الذي يتناغم مع ألوان الصخور والأشجار، مشكلا منظرا طبيعيا ساحرا واستثنائيا.

تطوير السياحة

في الماضي، كان الوصول إلى لاباقُومن صعبا بسبب وعورة موقعها الجبلي؛ كانت القرى تتناثر على نطاق واسع ويصعب الوصول إليها. ولهذا، لم يكن السياح يعرفون شيئا عن روعة المشاهد الطبيعية الجميلة هناك. ظلت البلدة ملاذا هادئا بعيدا عن الصخب والضوضاء، حتى طورت بكين خلال السنوات العشر الماضية شبكة مواصلات واسعة النطاق في الضواحي من خلال بناء عدد من الطرق المؤدية إلى القرى النائية. لذا، تحسنت وسائل النقل إلى لاباقُومن كثيرا.

الآن، على سبيل المثال، عند مدخل سونتشاتسي، الطريق واسع ونظيف، بحيث يمكن رؤية المناظر الطبيعية الممتدة على طول الطريق من نافذة السيارة.

في الخريف، عندما تكتسي الأرض حُلة صفراء بسبب الأوراق المتساقطة، يكون المشهد رائعا للغاية، ويخيل للمرء كأنه يقود  السيارة في غابة كندية.

أصبحت السياحة الريفية إحدى ركائز اقتصاد لاباقُومن. ومن أجل جذب الزوار، قررت حكومة لاباقُومن المحلية نقل بعض السكان المحليين من منطقة حديقة الغابات الوطنية، وبناء مساكن لهم بنفس السمات المعمارية لقومية مان. هذه الخطوة لم تساهم فقط في المحافظة على البيئة الإيكولوجية الطبيعية وتحسينها من خلال بناء المرافق السياحية، وإنما أيضا ساعدت على تحسين نوعية حياة السكان ووضع الأساس لتمهيد طريق الازدهار. بعد سنوات، نجحت جميع القرى في إقامة مشروعات سياحية خاصة بها، بالاعتماد على مواردها الخاصة. وقد برزت في هذا المكان بيئة المنافسة السليمة والتنمية المشتركة.

قرية سونتشاتسي على سبيل المثال، استفادت من موقعها بالقرب من مدخل الحديقة الوطنية للغابات، فلم تكتف بتقديم مجموعة من المنازل المتطورة؛ كل بيت به غرفتان أو ثلاث مخصصة للزوار، بل وسعت في منافستها مع القرى الأخرى لتحسين الخدمات السياحية، فقام العديد من المحليين بإنشاء مواقع إلكترونية للإعلان عن منازلهم وفنادقهم البسيطة لتقديم خدمات الحجز عبر  المنصات المتخصصة في الهواتف النقالة وعبر الإنترنت.

يسعى كل فندق ليكون له ميزته الخاصة به وتقديم خدمات متعددة. وقد أصبحت خدمة "واي فاي" ضرورة لا غنى عنها. وهنا نقترح على زائر البلدة أن يتوجه في الليل إلى شرفة الفندق لاقتناص فرصة التمتع بمنظر النجوم المتلألئة في السماء الصافية، والتقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي لتبادل الخبرات ومشاطرة الأصدقاء هذه اللحظات الجميلة من الحياة الريفية الساحرة الهادئة.

يتطور المجتمع والحياة بسرعة هذه الأيام، وسيكون من المؤسف للآخرين حقا إضاعة هذه الفرصة للاسترخاء في هذا الملاذ والتمتع بالهدوء والابتعاد عن ضوضاء وصخب المدينة.

--

وي ياو، مصور في مجلة " Beijing Review"