بحر الصين الجنوبي..لماذا الآن؟

بحر الصين الجنوبي، أو "نانهاي" باللغة الصينية، جزء من المحيط الهادئ، تبلغ مساحته أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف كيلومتر مربع. يجاور من الشمال مضيق تايوان، الذي يربطه ببحر الصين الشرقي، ويحده من الشرق تايوان الصينية، ومن الجنوب الشرقي الفلبين ومن الجنوب جزيرة بورينو التابعة لإندونيسيا، والحافة الجنوبية لخليج تايلاند والساحل الشرقي لشبه جزيرة مالايو، ويحده من الغرب والشمال بر آسيا الرئيسي. وهكذا، فإن الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي هي الصين؛ شاملة مناطق ماكاو وهونغ كونغ وتايوان، الفلبين، ماليزيا، بروناي، إندونيسيا، سنغافورة، وفيتنام. وهو يشكل مع بحر الصين الشرقي ما يسمى ببحر الصين. ويشمل بحر الصين الجنوبي المنطقة الممتدة من سنغافورة ومضيق ملقا حتى مضيق تايوان، والتي يمر بها ثلث سفن العالم، ويُعتقد أن تحت مياهها كميات كبيرة من النفط والغاز.

تَصَدَّر بحر الصين الجنوبي الأخبار في العالم بعد أن قامت سفينة حربية أمريكية، في السابع والعشرين من أكتوبر 2015، بدخول منطقة تعتبرها الصين ضمن مياهها الإقليمية. وقد أعربت الصين في ذات اليوم عن "استيائها الشديد" و"رفضها القوي" لقيام سفينة حربية أمريكية بدورية بالقرب من شعاب تشوبي التابعة لجزر نانشا الصينية ببحر الصين الجنوبي. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، لو كانغ: "تصرفات الولايات المتحدة الأمريكية تهدد سيادة الصين ومصالحها الأمنية وسلامة العاملين والمرافق بالشعاب، وتضر بالسلام والاستقرار في المنطقة." وحث السيد لو واشنطن على "التصحيح الفوري لأخطائها"، وقال إنه تم رصد وتتبع وتحذير السفينة الحربية الأمريكية، مضيفا أن الصين ستستمر في مراقبة الوضع و"فعل كل ما هو ضروري". من ناحية أخرى، حذر وزير خارجية الصين، وانغ يي، واشنطن من "خلق مشكلة من لا شيء"، وقال: "ننصح الولايات المتحدة الأمريكية بأن تفكر مرة أخرى قبل أن تقوم بأي فعل، وأن لا يتصرفوا بطريقة طائشة."

هذه الواقعة تذكرنا بما حدث في الخامس والعشرين من نوفمبر 2013، عندما قامت قاذفتان أمريكيتان غير مسلحتين من طراز بي-52 بالتحليق فوق جزر دياويوي ببحر الصين الشرقي دون إبلاغ بكين، متجاهلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية بنشر إحداثيات "منطقة تحديد الهوية للدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي"، وحينها حذرت الصين من أنها ستتخذ إجراءات دفاعية طارئة ضد الطائرات التي تحجم عن الكشف عن هويتها أثناء طيرانها في المجال الجوي. فماذا حدث بعد ذلك؟ لم تحلق طائرات أمريكية في تلك المنطقة منذ ذلك الحين، وواصلت الصين بناء منظومة دفاعها الجوي في بحر الصين الشرقي.

السؤال هو: لماذا بحر الصين الجنوبي الآن؟ وما هو هدف واشنطن من تلك التصرفات، وما هي عواقبها؟

فضلا عن الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي، تحتل جزر نانشا، أو سبراتلي، في هذا البحر مكانة جوهرية، وهي محور الخلاف بين الدول المطلة عليه، وخاصة الصين والفلبين وفيتنام وماليزيا. تضم هذه الجزر مصايد أسماك غنية، وكميات كبيرة من النفط والغاز، فحسب تقرير لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية في عام 2011، ربما يحتوي بحر الصين الجنوبي على نحو أحد عشر مليار برميل من النفط، ومائة وتسعين تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.

بيد أن الأهمية الاستراتيجية لجزر نانشا بالنسبة للصين أبعد كثيرا من تلك الثروات الطبيعية. هذه الجزر تبعد عن جنوب شرقي مقاطعة هاينان الصينية مائة وثمانين ميلا بحريا، وعدم سيادة الصين على تلك الجزر تعني أن مياهها الإقليمية تبدأ من ساحل هاينان الشرقي، في حين أن تأكيد سيادتها على نانشا يجعل مياهها الإقليمية تبدأ من نانشا.فإذا كان النزاع حول مياه بحر الصين الجنوبي بالنسبة لدول آسيان يتعلق في المقام الأول بالمصالح الاقتصادية، فإنه بالنسبة للصين يرتبط باستراتيجية أمنها الوطني. وقد كان الرئيس الصيني شي جين بينغ واضحا في ذلك، عندما قال أثناء جولته الأوروبية سنة 2014، إن بلاده لن تثير أي مشكلة ولكنها ستحمي بثبات حقوقها الشرعية، عندما يصل الأمر إلى السيادة وسلامة أرضيها.

وقد أدركت الصين مبكرا، منذ أن بدأت بوادر ظهور ثروات بحر الصين الجنوبي، أنها بحاجة إلى صياغة علاقات مع الدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي، وكلها أعضاء في رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، تضمن التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع حول جزر نانشا. وقد تبنت الصين ورابطة آسيان في عام 2002، ((إعلان بشأن قواعد سلوك أطراف بحر الصين الجنوبي))، تم بمقتضاه الاتفاق على حظر قيام أي طرف بأية إجراءات أحادية استفزازية خاصة في عمليات التنقيب عن النفط والغاز، والشروع في التفاوض على إيجاد صيغة للاستثمار المشترك للمنطقة المتنازع عليها. لاحقا، خرقت العديد من دول آسيان هذا الاتفاق. وبرغم أن الصين أقامت في عام 2003 شراكة استراتيجية مع آسيان وارتبطت معها بعلاقات اقتصادية قوية، بدا أن ذلك لم يكن كافيا لإقناع بعض دول آسيان، التي تحظى بتأييد وتحريض أمريكي، بالكف عن أعمالها الاستفزازية. احتلت فيتنام ثلاثا وعشرين جزيرة في البحر، تستخرج منها ثلاثين مليون طن من النفط سنويا، بل وطرحت مناقصات دولية لاستغلال المنطقة البحرية. وقامت الحكومة الفلبينية بإدخال بعض جزر نانشا والحيود البحرية، وجزيرة هوانغيان ضمن أراضي الفلبين، بعد إقرار قانون الخط الأساسي للمياه الإقليمية للفلبين. وفي عام 2009، أعلنت ماليزيا أن حيد دانوان البحرى في جزر نانشا أرض ماليزية، وذلك بعد استيلائها على خمسة حيود بحرية أخرى. وفي عام 2009، تقدمت دول مطلة على بحر الصين الجنوبي بطلبات حول المناطق الاقتصادية الخالصة والأرصفة القارية إلى لجنة لجنة الأمم المتحدة لترسيم الحدود بغرض فرض سيادتها على جزر بحر الصين الجنوبى. وفي يوليو عام 2011، ذهب عدد من أعضاء البرلمان الفلبيني جوا إلى جزيرة "تشونغيه داو" في بحر الصين الجنوبي ورفعوا العلم الفلبيني على أرض الجزيرة.

المثير في هذا الأمر، أن فيتنام تحالفت ضد الصين مع عدوتها الألد السابقة؛ الولايات المتحدة الأمريكية، التي غيرت سياستها من عدم التدخل فى النزاع حول جزر نانشا إلى تكثيف جهودها للتسلل العسكرى فى منطقة بحر الصين الجنوبى. وبرغم ذلك، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ في الأسبوع الأول من نوفمبر 2015 بزيارة إلى فيتنام، ضمن جولة شملت أيضا سنغافورة.

وقد شهدت مياه بحر الصين الجنوبي خلال السنوات الأخيرة احتكاكا وتحرشا من قبل بعض دول آسيان ضد الرعايا والمصالح الصينية. في مايو 2014، اعتقلت السلطات الفلبينية أحد عشر صيادا صينيا في مياه جزر نانشا. وفي نفس الوقت، قامت فيتنام بإعاقة عمليات حفر لشركة صينية في مياه جزر شيشا التي تعتبرها الصين خاضعة لسيادتها، بينما تعرضت شركات صينية في فيتنام لأعمال نهب وحرق. في مواجهة هذه الاستفزازات، التزمت الصين بضبط النفس لأن اختيارها الأول في حل النزاعات الدولية مع الدول الأخرى يقوم على المفاوضات والمشاورات السلمية. في عام 2014، دخلت الصين في مشاورات ومفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف بهدف تسوية النزاعات الإقليمية بطريقة مرنة وبراغماتية، تماشيا مع سياسة "المسار المزدوج" التي تنتهجها بكين في معالجة النزاعات الثنائية من قبل الدول المعنية مباشرة عبر التفاوض الودي، مع ضرورة حفاظ الصين ودول آسيان بشكل مشترك على السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي.

وجهة النظر الصينية في هذه الخلافات، هي أن للصين حقوقا تاريخية في جزر بحر الصين الجنوبي، فالصيادون الصينيون وصلوا إلى جزر نانشا وشيشا وعملوا بها منذ آلاف السنين. والجزر والمياه التي تطالب بها الصين كانت تحت سيادة وحكم الصين قبل أي دولة أخرى من دول جنوب شرقي آسيا بحدودها الحالية، ولم تعترض على تلك المطالب التي توضحها الخرائط الصينية أي دولة؛ بما في ذلك الفلبين وفيتنام. وفي ديسمبر عام 1947، استعادت الحكومة الصينية بقيادة حزب الكومينتانع السيادة على جزر بحر الصين الجنوبي من اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.

وعندما قضت المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي بهولندا في الثلاثين من أكتوبر 2015، بأن لها اختصاصا قضائيا للنظر في بعض الدعاوى التي أقامتها الفلبين ضد الصين بشأن مناطق متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، اعتبرت الحكومة الصينية هذا الحكم الصادر "باطلا" وأنها غير ملزمة بتنفيذه. وقال بيان لوزارة الخارجية الصينية: "الصين تمتلك سيادة لا جدال فيها على جزر بحر الصين الجنوبي والمياه المتاخمة لها"، مشيرا إلى تمسك الحكومات الصينية المتعاقبة بسيادة الصين وحقوقها في بحر الصين الجنوبي التي أيدتها قوانينها الداخلية والتي يحميها القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية قانون البحار للأمم المتحدة. وأضاف البيان: "لن تقبل الصين بأي حل يُفرض عليها أو لجوء طرف واحد لتسوية المنازعات عن طريق طرف ثالث."

التنسيق بين دول آسيان بشأن جزر بحر الصين الجنوبي جعل بكين في مواجهة تكتل كبير مدعوم بقوة دولية كبرى وليس دولا صغيرة منفردة. وقد تجسدت ملامح هذا التحول خلال القمة السادسة عشرة لآسيان في العاصمة الفيتنامية هانوي في أبريل 2010، عندما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون، في كلمتها أمام القمة: "إن استمرار التوتر في بحر الصين الجنوبي يقوّض المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة"، وطالبت بضرورة إيجاد آلية دولية لحل النزاع. وفي الثامن من أكتوبر 2015، أدلى المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي، جوش إيرنيست، بتصريحات تثير الدهشة، إذ قال: "قيام السفن الحربية الأمريكية بدوريات بالقرب من جزر اصطناعية بنتها الصين في بحر الصين الجنوبي يجب ألا يثير ردود فعل بارزة من الصينيين. وهنا نُذِّكر بأنه عندما قام الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1962 ببناء مواقع صواريخ في كوبا، وليس في الأراضي الأمريكية، قال الرئيس الأمريكي، آنذاك، جون كينيدي إن الولايات واشنطن لن تتساهل مع وجود مواقع الصواريخ. فكيف يتوقع السيد إيرنيست أن يتقبل الصينيون مرور سفن حربية أمريكية في مياه يعتبرونها ضمن سيادة بلادهم؟

أمام هذه التحديات، لم يكن أمام الصين إلا أن تتخذ خطوات فعلية على الأرض تؤكد من خلالها سيادتها على جزر نانشا، فقررت أن تقيم منشآت مدنية في جزر نانشا والصخور التي تقع في نطاق سيادتها، ومن بينها منارتان على الشعاب المرجانية بهدف إرشاد السفن المارة بالمنطقة.

في حوار مع محطة الإذاعة البريطانية (BBC) قلت إن تصرفات واشنطن في بحر الصين الجنوبي تهدف إلى طمـأنة حلفائها في المنطقة، ولكنها لن تغامر بالدخول في مواجهة مفتوحة مع بكين. وأضفت أن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هو محاولة لتسجيل مواقف، بينما ما تقوم به الصين هو عمل على أرض الواقع، ما يعكس حالة يعيشها العالم منذ سنوات، ألا وهي أن هناك قوة دولية آخذة في الأفول، وقوة عالمية صاعدة. وسوف تستمر هذه الاحتكاكات طالما استمرت عملية إعادة صياغة النظام الدولي، الذي ينبغي أن يكون للدول النامية، ومن بينها الدول العربية دور فيها.