المعهد الصيني للعلوم الإسلامية في ستين عاما

يصادف هذا العام الذكرى الستين لتأسيس المعهد الصيني للعلوم الإسلامية. بهذه المناسبة المباركة، نستعرض مسيرة تطور هذه المؤسسة التعليمية بفضل جهود رؤسائه ومعلميه من عدة أجيال، ليكون ذلك إحياء لذكرى السلف وتشجيعا للخلف.

مسيرة قضية التعليم

بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، استقبلت أراضي الصين أملا جديدا وأفقا واسعا، ونهضت الأعمال في شتى المجالات. وبجهود شخصيات بارزة من المسلمين الصينيين، ورعاية الحكومة المركزية ورئيس مجلس الدولة الراحل شو أن لاي، تم إنشاء المعهد الصيني للعلوم الإسلامية في بكين عام 1955، ليكون أول معهد ديني حكومي بعد ولادة الصين الجديدة.

المعهد الصيني للعلوم الإسلامية الذي يتبع الجمعية الإسلامية الصينية، هو مهد إعداد الأئمة ورجال الدين ذوي المستوى العالي في العلوم الدينية والاجتماعية. خلال الستين عاما المنصرمة، تخرج في المعهد أكثر من ألف وستمائة دارس من الأكفاء الممتازين الذين يجاهدون في سبيل حب الله والوطن والدين في أرجاء البلاد. وفي نفس الوقت، لم تقتصر منجزات المعهد على استكشاف أنماط متعددة في إعداد الأكفاء لتحقيق المواءمة بين الإسلام والنظام الاشتراكي الصيني، بل ساعد في خلق بيئة متناغمة لتطور الإسلام ومواكبة التغيرات السريعة في المجتمع الصيني. إن إنشاء المعهد وتطوره دليل على صواب سياسة حرية العقيدة التي تنتهجها الحكومة الصينية، ومرآة واضحة لتطور الإسلام ومكانة المسلمين في المجتمع الصيني.

مر تطور المعهد الصيني للعلوم الإسلامية بعدة مراحل خلال العقود الستة الماضية، نلخصها فيما يلي:

مرحلة الإنشاء: بدأ المعهد قبول الطلاب بعد تأسيسه في عام 1955. وخلال الفترة ما بين عام 1955 وعام 1965، أبدع المعهد نمطا تعليميا جديدا بديلا لنظام التعليم المسجدي الذي عرفته الصين مئات السنين، وأعد أكثر من مائة خريج ينتمون لثماني أقليات قومية مسلمة، منها هوي، الويغور، دونغشيانغ، القازاق، سالار، التتار، القرغيز، والأوزبك. شغل هؤلاء الخريجون مواقع مختلفة، فمنهم أئمة في المساجد، وموظفون في الجمعيات والمعاهد الإسلامية، ومنهم معلمون في الجامعات والمدارس الحكومية، وبعضهم الآخر أصبح خبراء في الدراسات الإسلامية والقومية.

إضافة إلى تطبيق التعليم النظامي، أقام المعهد في تلك الفترة دورات تدريبية متخصصة لأئمة المساجد، لرفع مستوياتهم في فهم ونشر سياسات الحكومة حول الشؤون العرقية والدينية، مما مهد طريقا جديدا لإعداد أكفاء من رجال الدين ذوي العلوم المتعددة، وفتح أفقا واسعا لقضية التعليم الإسلامي التي هيمن عليها التعليم المسجدي مئات السنين.

مرحلة التوقف: بعد انطلاق "الثورة الثقافية الكبرى" في أنحاء البلاد في عام 1966، حلت بالمعهد، كما هو الحال بكل البلاد، مصيبة ثقافية شديدة، حيث توقفت الجمعية الإسلامية الصينية عن كل أعمالها، ومنها أعمال المعهد التعليمية، حتى نهاية سبعينات القرن العشرين.

مرحلة استئناف التعليم: بعد انعقاد الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني، حظيت السياسة العرقية والدينية بالتنفيذ الكامل. عادت أعمال الجمعية الإسلامية الصينية إلى مسارها الطبيعي تدريجيا. كما استأنف المعهد الإسلامي الصيني قبول الطلاب في نهاية مارس عام 1980. الظروف الصعبة المتمثلة في نقص المال والمدرسين، لم تعق جهود رؤساء المعهد ومعلميه، فدخل المعهد مرحلة استئناف التعليم بعد التوقف عن قبول الطلاب لمدة خمس عشرة سنة، لإعداد الأئمة والأكفاء المسلمين للأوساط الإسلامية الصينية التي أصابتها جراح "الثورة الثقافية الكبرى".

في الفترة ما بين عام 1982 وعام 1995،  دخل المعهد مرحلة جديدة، حيث حدد المعهد قبول الطلاب المسلمين من سن الثامنة عشرة حتى الخامسة والعشرين، والذين أكملوا الدراسة الثانوية، وعرفوا مبادئ العلوم الإسلامية تحت إرشاد أئمة المساجد. وتمت أعمال القبول عن طريق الامتحانات النظامية التي تشمل المواد الدينية والاجتماعية، لاختيار الطلاب وفقا لنتائج الامتحانات.

في هذه الفترة، أجرى المعهد أعمال التعليم بالدرجات العلمية المختلفة، حيث استقبل 19 مجموعة من الطلاب، ست منها بشهادة البكالوريوس وأربع منها بشهادة الدبلوم، وست منها بشهادة التدريب، ومجموعتان لتدريب الطلاب المستعدين للدراسة في الخارج، ومجموعة واحدة للتدريب على اللغة العربية. خلال هذه الفترة، بلغ عدد خريجي المعهد خمسمائة واثني عشر طالبا ينتمون لست أقليات قومية مسلمة. عمل معظمهم في الأوساط الإسلامية داخل البلاد، وصاروا القوة الرئيسية في المساجد والمعاهد والجمعيات الإسلامية والدوائر الحكومية.

مرحلة التطور المستدام: على أساس استكشاف الخبرات التعليمية، دخل المعهد فترة التطور المستدام منذ عام 1996. منذ ذلك العام حتى الآن، يقبل المعهد فصلين كل عام، واحد منهما يمنح شهادة البكالوريوس للطلاب الذين أكملوا الدراسة الثانوية، والآخر يمنح شهادة التدريب لأئمة المساجد الذين يرغبون في رفع مستواهم في العلوم الدينية والاجتماعية.

من أجل مواكبة متطلبات العصر، أضاف المعهد بعض المقررات الجديدة، مثل اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، إلى جانب تحسين أسلوب التعليم بالأجهزة الحديثة، لرفع قدرات الطلاب في شتى الجوانب. كما استكمل المعهد المواد الدينية الإسلامية بمقررات "علوم الفقه الإسلامي"، و"علم التوحيد"، و"علم تفسير القرآن الكريم"، و"تاريخ الحضارة الإسلامية"، و"التطبيقات في خطبة الوعظ"، وغيرها من المواد الدراسية الإسلامية.

تحت رعاية المصلحة الوطنية للشؤون الدينية، بدأت الجمعية الإسلامية الصينية في عام 2001، مشروع "تأليف المواد الدراسية للمعاهد الإسلامية على نطاق البلاد"، بهدف إصلاح أعمال التعليم في المعاهد الإسلامية وتحسين جودة التعليم.

وفي عام 2005، خصصت حكومة الصين المركزية أموالا لدعم "مشروع إصلاح وتوسيع المعهد الصيني للعلوم الإسلامية"، لتحسين بيئة سكن الطلاب ودراستهم. حيث توسعت المساحة الإنشائية للمعهد من عشرة آلاف متر مربع إلى أكثر من اثنين وعشرين ألف متر مربع. وهكذا تم وضع أساس ممتاز لرفع مستوى التعليم بالمعهد.

مميزات المعهد

بعد مرور ستين عاما على إنشائه، يعتبر وجود المعهد الصيني للعلوم الإسلامية وتطوره رمزا من الرموز المضيئة في تاريخ الصين الديني. وتحت رعاية ودعم الحكومة، وصل المعهد إلى نقطة انطلاق جديدة، في كيفية مواصلة خطواته  لتحسين وإبداع أنماط إعداد الأكفاء لتلبية احتياجات المسلمين والمجتمع.

الخطة والأهداف: سيواصل المعهد الصيني للعلوم الإسلامية برنامجه التعليمي بصفته معهدا دينيا، وإبراز مهامه الرئيسية في إعداد الأكفاء ذوي القدرة العالية في دراسة العلوم الإسلامية، إضافة إلى إجراء التدريبات للأئمة ورجال الدين الممتازين الذين يشتغلون في المساجد والمعاهد الإسلامية في أرجاء البلاد.

"تفسير الكتب الدينية" وتعميم وسطية الإسلام، قضية هامة للأوساط الإسلامية الصينية لإظهار ملامح الإسلام الحقيقية، ومقاومة الأفكار المتطرفة. يعتبر المعهد الصيني للعلوم الإسلامية من أفضل منصات إجراء هذه الأعمال التي تتعلق بمصير الإسلام وتطوراته اللاحقة في الصين. سيركز المعهد جهوده على تحسين تربية الوعي بوسطية الإسلام، ونشره بين المسلمين الصينيين بجهود الخريجين. إضافة إلى إكمال النظام التعليمي، وتحسين نظام الإدارة الفعالة، ليكون المعهد مشهورا في البلاد والعالم بمستواه العالي في التعليم والدراسات الإسلامية.

المبادئ التعليمية: ذلك يتمثل في: أولا، إعداد الأكفاء ذوي العلوم المتعددة والمواهب التطبيقية، باتخاذ المواد الدينية رئيسيا، والعلوم الاجتماعية فرعيا في برامج التعليم. ثانيا، التماسك الوثيق بين نظرية العلوم وتطبيقها. ثالثا، الاهتمام بالترابط بين التعليم والدراسة. رابعا، تعددية الأنماط التعليمية. خامسا، تعزيز التبادلات والحوار بين المعهد الصيني للعلوم الإسلامية والمساجد والمعاهد الإسلامية الأخرى في مجال التعليم والدراسة. سادسا، الاهتمام بالاستفادة من خبرات الجامعات الإسلامية في الدول الأخرى عبر التبادلات والحوارات. سابعا، استكشاف موارد التعليم خلال عمليات تفسير الكتب الدينية. ثامنا، تعزيز عملية التعليم بالوسائط المتعددة، وتحقيق مشاركة الموارد التعليمية. تاسعا، الاهتمام بتعزيز قدرات المعلمين في التدريس. عاشرا، تطبيق نظام الاتصال بالخريجين وإعادة الدراسة لمن لا يناسب التخرج.

المواد الدراسية: تنقسم المواد الدراسية في فصل البكالوريوس، إلى المواد الإسلامية، بنسبة 70% والمواد الاجتماعية بنسبة 30%. وتضاف سنة واحدة لأبناء قومية الويغور لتقوية مستواهم في اللغة الصينية. أما المواد الإسلامية، فهي تفسير القرآن الكريم والحديث، وعلم القرآن، وعلم التجويد، وتلاوة القرآن، وعلم تفسير القرآن، والحديث النبوي، وعلم الحديث النبوي، والفقه الإسلامي، وأصول الفقه، وتاريخ الفقه الإسلامي، وتاريخ الفلسفة الإسلامية، وعلم المقارنة بين الأديان، وعلم المنطق، وتطبيق خطبة الوعظ، واللغة العربية والخط العربي وغيرها من المواد. أما المواد الاجتماعية، فتشمل مقرر السياسة الصينية، واللغة الصينية، واللغة الإنجليزية، والكتابة التطبيقية، والتاريخ، والحاسب الآلي والتربية البدنية.

المهام أثقل

خلال الستة عقود المنصرمة، وفضلا عن إعداد عدد كبير من الأكفاء المسلمين في العلوم الإسلامية ، وفر المعهد خبرات ثمينة للمعاهد الإسلامية الأخرى في كيفية تحسين عملية التعليم لمواكبة متطلبات العصر الجديد. كما أحدث تأثيرات إيجابية في داخل الصين وخارجها. المعهد الصيني للعلوم الإسلامية باعتباره هيئة جديدة في التعليم الإسلامي، قام بعملية إصلاح التعليم المسجدي في أسلوب التعليم والمواد الدراسية، مما اختصر وقت التعليم بشكل ملحوظ، وقدم عددا كبيرا من الأكفاء الممتازين للمجتمع.

تحظى أعمال المعهد ومساهمته بتقدير المسلمين الصينيين والحكومة الصينية المركزية. مع إتمام مشروع الإصلاح والتوسيع، يستقبل المعهد عهدا جديدا في التعليم الإسلامي. قد يعني بلوغ سن الستين الكبر والعجز بالنسبة للفرد، ولكن بالنسبة  للمعهد الصيني للعلوم الإسلامية، يمثل ربيعا في تاريخه الباهر. ونحن على ثقة بأن المعهد سيواصل القيام بمهامه المقدسة، وسيقدم للبلاد مساهمات أكبر في بناء مجتمع متناغم ونهضة الأمة الصينية العظيمة.

 

(عبد الوهاب تسونغ أن لين: نائب رئيس المعهد الصيني للعلوم الإسلامية)