HOME| مقالات من المجلة

التحول الاقتصادي في الصين يبشر بفرص عالمية

2016-03-22 13:51

منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، ظل الاقتصاد الصيني يحقق نموا بمعدلات عالية لمدة أكثر من ثلاثين سنة، حيث تجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي 10% سنويا في المتوسط. وقد اعتمد هذا النجاح أساسا على التصدير والاستثمارات. كان نمط التنمية الاقتصادية القديم هذا مناسبا للظروف السابقة، مثل عدم كفاية عوامل العرض والعمالة الرخيصة في البلاد، ولعب بالتأكيد دورا هاما في تعزيز النمو الاقتصادي وبناء وتحديث النظام الصناعي وتحسين معيشة الشعب. ولكن عيوبه الناتجة عن الاعتماد المفرط على الصادرات والاستثمار، أصبحت تدريجيا واضحة وسط الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة. فأولا، أدت المستويات العالية المفرطة في الاستثمارات إلى ظهور الإفراط في الطاقة الإنتاجية لبعض الصناعات، وانخفاض الكفاءة الإنتاجية، والاختلالات الاقتصادية.  وثانيا، أدى الاستثمار الواسع إلى الزيادة المطردة لنسبة الدين الحكومي. ثالثا، أن هذا النموذج من النمو المعتمد على الصادرات جعل الاقتصاد الصيني عرضة لتأثير التغيرات الدورية في الاقتصاد العالمي. منذ نوفمبر عام 2012، ومع تولي الجيل الجديد من قادة الصين إدارة شؤون البلاد، وُضِعت مخططات جديدة للتنمية الاقتصادية التي حددت خارطة طريق دقيقة لتحويل نمط النمو الاقتصادي.

في الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الثامنة عشرة للحزب الشيوعي الصيني، التي عقدت في الثاني عشر من نوفمبر 2013، تم اعتماد وثيقة "قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني حول بعض القضايا الرئيسية المتعلقة بتعميق الإصلاح بشكل شامل"، التي طرحت بوضوح تعميق الإصلاح الشامل للنظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحضارة الايكولوجية، والذي يغطي ستين مجالا، لتتناسب مع التحول الاقتصادي للصين. الخطوط العريضة الرئيسية للخطة الخمسية الثالثة عشرة تتضمن التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية من عام 2016 إلى عام 2020، التي وافق عليها المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، وتم تحديد الهدف الذي بموجبه سيتحول الاقتصاد الصيني خلال السنوات الخمس المقبلة، من اقتصاد يعتمد على الصناعات والاستثمار إلى اقتصاد تقوده الخدمات والابتكار والاستهلاك.

في إطار هذا النمط الجديد للتنمية، الاستهلاك هو القوة الدافعة الأساسية للنمو الاقتصادي. وتشمل نقاطه الرئيسية تحسين النظام الضمان الاجتماعي وإنشاء شبكة للضمان الاجتماعي، الأمر الذي سيزيد دخل المواطنين القابل للإنفاق وتحرير قوتهم الشرائية، وبالتالي تعزيز الاستهلاك. تسير التحركات في هذه الأثناء على قدم وساق لتعزيز اقتصاد السوق في سوق المال والقضاء على القيود المالية لتوفير بيئة تمويل جيدة، وأيضا لزيادة الاستثمار العقلاني في ظل تزايد الاستهلاك وتحسين بيئة التمويل، وبالتالي دفع نمو الاقتصاد وزيادة فرص العمل.

من وجهة نظر طويلة الأمد، تحول نمط نمو الاقتصاد الصيني يساعد في تحقيق تنمية مستدامة وسليمة للاقتصاد الصيني والعالمي على حد سواء. وبعبارة أخرى، فإن النمو الاقتصادي الصيني المستدام والمستقر، وترقية هيكل الاستهلاك لسكان الصين، وتحسين الهيكل  الصناعي، وتحقيق التحول الحضري سوف يجلب النفع للبلاد، وأيضا سيقدم فرصا جديدة للتنمية الاقتصادية في البلدان الأخرى.

مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي

يعمل اقتصاد الصين حاليا في إطار  "الوضع الطبيعي الجديد" حيث ينمو بمعدلات متوسطة إلى عالية. لكنه ما يزال المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي، ومعدل النمو الاقتصادي للصين يتجاوز بكثير متوسط المعدل العالمي. فقد نما الاقتصاد الصيني بنسبة 7ر7 % في عام 2012، وهي المرة الأولى التي ينخفض إلى أقل من 8% منذ عام 2000، وتراجع إلى 9ر6% عام 2015. وعلى الرغم من تراجع معدل نمو الاقتصاد الصيني، لا يزال يعمل ضمن نطاق معقول، ولم يخرج عن أهداف نموها السنوية المحددة. على نطاق العالم، تراجع نمو الاقتصاد الصيني والعالمي معا، لكن نمو الاقتصاد الصيني لا يزال يفوق نظيره في الاقتصادات المتقدمة في العالم واقتصادات الدول الناشئة (انظر الشكل 2). جدير بالذكر أنه على الرغم من تباطؤ الاقتصاد الصيني ظلت مساهمته السنوية في نمو الاقتصاد العالمي ترتفع. تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أنه بحلول عام 2020  سيرتفع نصيب الصين في الناتج  الإجمالي العالمي من 17% حاليا إلى ما يقرب من 20% .

الصين لا تزال تلعب دورا حيويا في الاقتصاد العالمي، ولا تزال القوة الدافعة الرئيسية لنمو الاقتصاد العالمي. وتظهر تقارير صندوق النقد الدولي المنشورة أن الصين ساهمت بنسبة 4ر32% في نمو الاقتصاد العالمي عام 2015، وتقدر أن ذلك سيسهم بأكثر من 25% كمتوسط سنوي في نمو الاقتصاد العالمي في الفترة من 2016 إلى 2020.

(الشكل1): النمو الاقتصادي في الصين والعالم، وبلدان ومناطق أخرى في جميع أنحاء العالم %.

ملاحظة: الأرقام الصادرة عن الفترة من 2012 إلى 2015 فعلية، في حين أن الأرقام للفترة من 2016 إلى 2020 متوقعة.

المصدر: استند الكاتب إلى قاعدة بيانات التوقعات الاقتصادية العالمية، أكتوبر 2015

الشكل2: مساهمة الصين في الاقتصاد العالمي من 2010 إلى 2020(%)

ملاحظة: (1) مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي (%) = نمو ناتج المحلي الإجمالي السنوي للصين/ نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي العالمي

(2): الأرقام للفترة من 2010 إلى 2015  فعلية، في حين الأرقام للفترة من 2016 إلى 2020 متوقعة

المصدر: استند الكاتب إلى قاعدة بيانات التوقعات الاقتصادية العالمية، أكتوبر 2015

 

الارتقاء بهيكل الاستهلاك يعزز الصادرات العالمية

مع تحول نمط التنمية الاقتصادية في الصين، سيتم إيلاء المزيد من الاهتمام للمطالب الاستهلاكية للصينيين، وسوف تعزز واردات الصين المتزايدة الصادرات والتنمية الاقتصادية للدول الأخرى. من منظور تاريخي، شهد استهلاك الصين انكماشا لفترة طويلة، حيث انخفض استهلاك الأسر من حوالي 51% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1985، إلى 38% في عام 2005. الأسباب الرئيسية تشمل أسعار العمالة غير المعقولة، ونظام الضمان الاجتماعي الغير سليم، والمعدل العالي للميل الطبيعي للادخار (MPS). ولكن سيتغير هذا الاتجاه مع إنشاء نمط النمو الاقتصادي المعتمد على الطلب. والأهم في تحويل نمط النمو الاقتصادي من اقتصاد معتمد على التصدير والاستثمار إلى اقتصاد الاستهلاك هو زيادة دخل المواطنين ورفع قدرتهم الشرائية، وبالتالي تحفيز الإنفاق الاستهلاكي. إن اتخاذ  بعض التدابير مثل، زيادة الرواتب وتحسين نظام الضمان الاجتماعي ودعم تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم وتشجيع أفراد المجتمع على إقامة المشروعات، سيساعد على زيادة الدخل المتاح للسكان وتعزيز توسع ونمو الفئات المتوسطة في الصين. ومن المتوقع أن أكثر من 75% من المستهلكين في المناطق الحضرية سيكون دخلهم ما بين  60 ألف يوان و229 ألف يوان ما يعادل (9 آلاف- 34 ألف دولار أمريكي) سنويا بحلول سنة 2022، بعد أن كانت نسبتهم 4% فقط عام 2000، وذلك وفقا لبحث أجرته مؤسسة ماكينزي. وعليه، فإن عدد أفراد الفئة الوسطى سيصل إلى 630 مليونا، وسيصبحون قوة الاستهلاك الرئيسية للسلع الاستهلاكية المتوسطة والعالية الجودة، والخدمات الحديثة والمنتجات الفكرية. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2020، سيشكل استهلاك السكان 45% من إجمالي الإنفاق الوطني في الصين. وسيزداد طلب المستهلكين الصينيين من السلع المستوردة العالية الجودة أو منتجات التكنولوجيا الفائقة ومنتجات خدمات التمويل والرعاية الصحية والتعليم. هذا سوف يوفر فرصا كبيرة للمصدرين لهذه السلع والخدمات في البلدان الأخرى. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تنمو واردات السلع والخدمات في الصين بمعدل 9ر3% سنويا في الفترة ما بين 2016 و2020.

تحسين الهيكل الصناعي يوفر الفرص للاقتصادات المتقدمة

في إطار النمط الجديد للتنمية الاقتصادية، ستوسع الصين من نسب الصناعات العالية، والصناعات الناشئة الاستراتيجية، والخدمات الحديثة في الهيكل الصناعي العام. بعد سنوات من التنمية، تزداد مزايا الصين في الصناعات ذات التكنولوجيا المتوسطة، مثل مرافق الاتصالات السلكية واللاسلكية والمنتجات الإلكترونية ومعدات السكك الحديدية العالية السرعة، والمنتجات الكيماوية والسيارات، والأجهزة الضوئية. ومع ذلك، وبالمقارنة مع الدول المتقدمة، لا تزال الصين متأخرة كثيرا فيما يتعلق بالصناعات ذات التكنولوجيا العالية والخدمات الحديثة التي تعتبر المالية جوهرا لها. إن التكامل أكبر من التنافس بكثير فيما بين الصين والدول المتقدمة   في مجالات الطاقة الجديدة ومنتجات الأدوية البيولوجية، والابتكار المالي. هذه العلاقة تجعل الصين سوقا ضخمة لصادرات الدول المتقدمة من المعدات المتطورة ووحدات التجميع اللازمة والتجارة في الخدمات الحديثة، كما توفر فرص التعاون الاستراتيجي في مجال التنمية الصناعية بين الجانبين. ومثال للتعاون في هذا الصدد، "التعاون الصناعي الاستراتيجي بين الصين وألمانيا، "صنع في الصين 2025"  يلتقي بالمشروع الألماني "4.0". وعلاوة على ذلك، فإن رفع مستوى الصناعة في الصين من شأنه أن يدفع البحوث والعلوم والتكنولوجيا في البلدان المتقدمة، وبالتالي حثها على تحسين السلسلة الصناعية الراقية من خلال الاستفادة من مواردها المتفوقة.

التحول الحضري فرصة جديدة لمستثمري العالم

سيعزز التحول الحضري الجديد بشكل كبير تطوير صناعة الخدمات في الصين والصناعات المتعلقة بها، مما يخلق فرصا استثمارية لرؤوس الأموال في الخارج. في عام 2015، بلغ عدد المقيمين الدائمين بالمناطق الحضرية الصينية 770 مليون نسمة، بزيادة بلغت 22 مليونا عن العام السابق، بينما بلغ عدد سكان الريف الدائمين 600 مليون، بمعدل انخفاض بلغ 2ر15 مليونا عن عام 2014. وبالتالي، فإن سكان الحضر يمثلون 1ر56% من إجمالي السكان. ومن المتوقع أن تصل نسبة سكان الحضر في الصين إلى 60% بحلول عام 2020، وفقا لبعض الإحصائيات. سوف يؤدي التطوير والتحول الحضري إلى زيادة الطلب على الاستثمار في قطاعات الخدمات العامة، بما في ذلك البنية التحتية وبناء المساكن بأسعار معقولة، والتعليم والرعاية الصحية وحماية البيئة. وفي المقابل، سيتم أيضا تعزيز الاستثمار في الصناعات المرتبطة بهذه العملية، مثل المواد الغذائية، الأجهزة المنزلية، السيارات والطاقة والصلب.  وبهذا المعنى، فإن عملية التحول الحضري الجديدة بالصين ستدفع الاستثمار نحو جولة جديدة من النمو من شأنها أن تسهم في توسيع اقتصادات الصين والعالم. وسوف تساهم مسيرة التحول الحضري الجديدة أيضا في تعزيز تطوير صناعة الخدمات. وبالتالي ستزداد مطالب سكان الحضر في التعليم والسياحة والرعاية الصحية ورعاية الأطفال وكبار السن، كما ستزداد متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للتمويل والخدمات اللوجستية والقانون، والتكنولوجيا والتدقيق والمحاسبة. وستصبح صناعة الخدمات في الصين منصة هامة لرؤوس الأموال الأجنبية للمشاركة في التحول الحضري الجديد بالصين.

وفي ظل تكامل الاقتصاد العالمي، تم إدراك أن التحول الاقتصادي في الصين سيتيح فرصا جديدة للبلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم. في استطلاع لمركز بيو الأمريكي للأبحاث، جرى في 43 بلدا، قال 53% ممن شملهم الاستطلاع إن الاقتصاد الصيني المتنامي، أمر جيد لاقتصادهم، بينما عارض 27% فقط ذلك.

 

لي قانغ، باحث في معهد الدراسات الأوروبية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.