في خطابه الذي ألقاه في لندن عام 2015، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى أنه مع تصاعد قوة الصين عالميا، فإنها تتحمل المزيد من المسؤوليات الدولية في حدود إمكانياتها، وتساهم بحكمتها وقوتها في خدمة نمو الاقتصاد العالمي وتحسين الحوكمة العالمية. وبصفتها أكبر دولة نامية في العالم وقاطرة نمو الاقتصاد العالمي، تعد الصين جسرا بين الشرق والغرب وبين الدول المتقدمة والدول النامية، وتلعب دورا محوريا في توجيه الاقتصاد العالمي إلى طريق أكثر عقلانية وعدالة.
ممارسات الصين في إصلاح الإدارة المالية العالمية
تأسس النظام المالي العالمي في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، تحت قيادة البلدان المتقدمة. بيد أن هذا النظام لم يعد يستوعب التغيرات التي طرأت على سياسة واقتصاد العالم في العصر الحالي. يتجلى ذلك في مشاكل عدة؛ مثل نقص تمثيل الدول الناشئة ومشاكل التنسيق والإشراف وعدم المتوازنة في الإدارة للعملات. وفي ظل هذه الظروف، تبحث الصين نمطا جديدا للإدارة المالية العالمية، وساهمت في دفع الإصلاح في هذا المجال.
أولا، بادرت الصين بتقديم مقترحات فعالة، وأنشأت وشاركت في المؤسسات المالية الدولية المتعددة الأطراف، في جهودها الرامية إلى إقامة نمط جديد للإدارة أو الحوكمة المالية العالمية. في السادس عشر من يناير 2016، تم في بكين افتتاح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB). وهو أول مؤسسة مالية متعددة الأطراف تأسس بمبادرةصينية، يضم 57 من الدول الأعضاء المؤسسة، 37 منهم في آسيا، والباقي في مناطق أخرى، من بينها دول متقدمة مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وأستراليا. هذا التنوع، يضفي مزيدا من النفوذ للبنك كمؤسسة مالية دولية، ويضفي حيوية جديدة لإصلاح الإدارة المالية العالمية. في الحادي والعشرين من يوليو 2015، أطلق بنك التنمية الجديدة لمجموعة دول بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا)، عملياته لتعزيز البنية التحتية في دول المجموعة وغيرها من البلدان النامية. الفكرة السائدة هي أنه يعزز ويسرع تطوير البنى التحتية في دول بريكس، ويعزز التواصل والتعاون المالي بين الدول الخمس.
هذا البنك، الذي أنشئ أيضا بمبادرة صينية، هو أول بنك للتنمية يؤسس من قبل الدول النامية، ويجسد حكمة الصين في إصلاح الحوكمة العالمية.
ثانيا، تسعى الصين بثبات، للحصول على صوت أكبر للدول النامية في النظام المالي الدولي القائم. وقد تم اختيار عدة عملات وطنية لتقوم بوظيفة عملات عالمية، ولكن هذه التركيبة لا تزال بعيدة كل البعد عن العقلانية. الدولار الأمريكي السائد يجسد اختلالا خطيرا في إدارة العملات بالعالم. ونتيجة لذلك، فإن البلدان النامية تعاني من الافتقار إلى التمثيل في نظام الإدارة المالية العالمي.
ولتغيير هذا الوضع، تسعى الصين لتدويل عملتها الرنمينبي (اليوان)، وتواصل المساعي من أجل إصلاح المؤسسات المالية الدولية القائمة، وذلك لزيادة تمثيل الدول النامية. في الأول من ديسمبر 2015، قام صندوق النقد الدولي (IMF) بإدراج العملة الصينية ضمن سلة حقوق السحب الخاصة (SDR). واعتبارا من الأول من أكتوبر 2016، سيصبح اليوان الصيني خامس عملة احتياط دولية، جنبا إلى جنب مع الدولار الأمريكي، اليورو، والين الياباني والجنيه الإسترليني. وستصبح قيمته 92ر10% في سلة حقوق السحب الخاصة الجديدة، في حين ستكون قيمة كل من العملات الأخرى: 73ر41% للدولار الأمريكي، و93ر30% لليورو، و33ر8% للين الياباني، و09ر8% للجنيه الإسترليني. وفقا لصندوق النقد الدولي، سوف تزداد حصة الصين من 996ر3 % إلى 394ر6%، وتزداد قوة التصويت من 8ر3% إلى 1ر6%. الدول النامية بشكل عام، ستكون لها حصتها وستتعزز حقوقها في قوة التصويت، وهو ما يؤدي بدوره إلى تطوير مكانة تلك الدول ومصالحها في الإدارة أو الحوكمة المالية العالمية الحالية.
ثالثا، تشارك الصين بنشاط في المؤسسات المالية المتعددة الأطراف القائمة في الدول المتقدمة،وتسعى إلى إقامة نمط جديد من التعاون المالي بين الدول المتقدمة والدول النامية. أحد عيوب النظام المالي العالمي الحالي هو عدم وجود آلية مشتركة بين الدول للإشراف والمتابعة. ومن مظاهر هذه المشكلة أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي فجرت أزمة الديون الأوروبية، والتي أغرقت بالتالي الاقتصاد العالمي في مستنقع. من دون التنسيق بين هيئات الرقابة المالية لمختلف البلدان، يمكن للمخاطر الكامنة بسوق رأس المال أن تمتد بسهولة إلى الاقتصاد الحقيقي وعبر الحدود. ولذلك، أصبح تعزيز الرقابة على الأسواق المالية العالمية من خلال تنسيق دولي أفضل لمنع المخاطر المالية من التصاعد إلى أزمة، واحتواء انتشار أزمة موجودة فعلا، قضيتين ملحتين تواجهان إدارة الاقتصاد العالمي.
الحدث الرئيسي الآخر في الإدارة المالية العالمية في عام 2015 هو انضمام الصين كدولة مساهمة في البنك الأوروبي للإنشاء والتنمية في الرابع عشر من ديسمبر 2015. عضوية الصين في هذا البنك تفتح آفاقا جديدة للتعاون المالي بين الصين وأوروبا، وتوفر قناة مالية جديدة للمشاريع المقترحة ضمن مبادرة الحزام والطريق. علاوة على ذلك، هذه المساعي للتعاون بين الصين والمنظمات المالية المتعددة الأطراف من الدول المتقدمة توفر وسيلة لتراكم الخبرة لتكون مرجعا للإصلاحات في الحوكمة المالية العالمية في المستقبل.
المشاركة الفعالة في إصلاح حوكمة التجارة العالمية
الصين، كعضو أساسي في نظام التجارة العالمي، واقتصاد عالمي كبير، من دعاة التجارة الحرة، وتقف بحزم ضد الحمائية التجارية بأي شكل من الأشكال. وتدعو في الوقت نفسه لإصلاح نظام حوكمة التجارة العالمية الحالي، وتقوم باستكشاف سبل جديدة للتعاون الاقتصادي الإقليمي.
منذ جولة الدوحة لمحادثات التجارة العالمية المتوقفة، يسير إصلاح نظام حوكمة التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة العالمية، بوتيرة بطيئة، ويواجه النظام التجاري المتعدد الأطراف العديد من التحديات. الصين، مع مكانتها الرائدة في التجارة العالمية، تصر على أن حوكمة التجارة العالمية يجب أن تعود إلى مسار إطار التجارة المتعددة الأطراف لمنظمة التجارة العالمية. ودعت الحكومة الصينية الى تعزيز المحادثات للتوصل إلى توافق وتحقيق نتائج ملموسة في المؤتمر الوزاري العاشر لمنظمة التجارة العالمية، المنعقد في نيروبي في ديسمبر عام 2015، وساهمت في تحقيق نجاح المؤتمر، وفي الأخير أصدر المؤتمر في العاشر من ديسمبر 2015، العديد من القرارات الفعالة، ومنها قرار الإلغاء الشامل لدعم الصادرات الزراعية، وتوسيع اتفاقية تكنولوجيا المعلومات. وقد أعطت هذه الإجراءات دفعة جديدة لنظام منظمة التجارة العالمية.
تنفيذ استراتيجية مناطق التجارة الحرة هو أحد الأساليب الأساسية التي تدفع بها الصين النمط الجديد لتعزيز التعاون التجاري الدولي. وقد حققت الصين تطورا جديدا في بناء مناطق التجارة الحرة في عام 2015؛ فقد دخلت اتفاقيتا التجارة الحرة بين الصين وكل من أستراليا وكوريا الجنوبية، حيز التنفيذ. الاتفاقيتان، هما المفتاح لدفع مبادرة الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، ودفع مفاوضات التجارة الحرة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. حتى الآن، وقعت الصين ونفذت أربع عشرة اتفاقية تجارية حرة، تشمل اثنتين وعشرين دولة ومنطقة في آسيا وأمريكا اللاتينية، وأوروبا وأقيانوسيا (انظر الجدول 1)، فهي تعمل على دفع التجارة والاستثمار بين الصين وشركائها، وتعزيز علاقات التعاون المتبادل المنفعة بين الأطراف المعنية، وكذلك تسريع التكامل الاقتصادي في شرقي آسيا.
الجدول (1) اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها الصين حتى الآن
أوروبا |
أقيانوسيا |
أمريكا اللاتينية |
آسيا |
الصين- سويسرا |
الصين- أستراليا |
الصين- كوستاريكا |
الصين- كوريا الجنوبية |
الصين- أيسلندا |
الصين- نيوزلندة |
الصين- بيرو |
الصين- سنغافورة |
|
|
الصين- تشيلي |
الصين- باكستان |
الصين- آسيان | |||
بر الصين الرئيسي- منطقة هونغ كونغ ومنطقة ماكاو (ترتيبات لتعزيز العلاقات التجارية معها) |
ومع التركيز على تعزيز الترابط والتعاون في مجال قدرة الإنتاج إقليميا، تأتي مبادرة الحزام والطريق لتمثل مسعى آخر من الصين لاستكشاف طرق جديدة للتعاون الاقتصادي الإقليمي. وقد أصدرت الصين رؤى وتطبيقات حول مبادرة البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين(الحزام والطريق)، والتي لقيت ترحيبا حارا من قبل ستين دولة ونيف على طول الطريقين. وتعزز هذه المبادرة بشكل كبير العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين وهذه الدول، وتحدث تغيرات نحو الأفضل في حياة ومستقبل شعوب هذه البلدان.
وفقا للبيانات الصادرة عن وزارة التجارة الصينية، فإنه خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر عام 2015، استثمرت الشركات الصينية 01ر14 مليار دولار أمريكي في تسع وأربعين دولة ومنطقة على طول "الحزام والطريق"، بزيادة سنوية قدرها 3ر 35%. وكانت أهم الوجهات لهذه الاستثمارات هي سنغافورة، كازاخستان، لاوس، إندونيسيا، روسيا وتايلاند. في مجال مشاريع المقاولات، وقعت الشركات الصينية 2998 صفقة في ستين دولة ومنطقة على طول "الحزام والطريق"، بقيمة إجمالية بلغت 63ر71 مليار دولار أمريكي، وهذا يمثل 9ر43% من جميع الاتفاقيات التي وقعتها الصين خلال هذه الفترة، مسجلة زيادة بنسبة 2ر11% على أساس سنوي.
الاستثمارات الصينية في البلدان الأخرى الواقعة على طول "الحزام والطريق" تزيد من القدرات الشرائية وتعزز النمو الاقتصادي المحلي لتلك الدول والمناطق، وتخلق فرص عمل جديدة، وتحقق فوائد ملموسة لشعوبها.
المساهمات في حوكمة التنمية العالمية
منذ انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح، وإلى جانب النمو الاقتصادي القوي، ترتقي الصين باستمرار بمؤشرات التنمية الاجتماعية الرئيسية. وحسب معيار البنك الدولي، كان معظم سكان الصين يعيشون تحت خط الفقر عام 1980. وبحلول عام 2010، انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 20%. إن تحسين مستوى معيشة هذا العدد الهائل من السكان وانتشالهم من الفقر، هو أكبر إنجاز ومساهمة حققتها الصين في مجال التنمية العالمية.
في سبتمبر 2015، وافق مؤتمر قمة الأمم المتحدة للتنمية رسميا على جدول أعمال التنمية لما بعد عام 2015، وكشف عن اتجاه التنمية الوطنية والدولية في السنوات الخمس عشرة القادمة. وقد أعربت الصين عن دعمها الكامل وتعهدت باتخاذ تدابير ملموسة لتعزيز التنمية المشتركة للبشرية جمعاء. ومن هذه التدابير، إنشاء صندوق مساعدة للتعاون فيما بين دول الجنوب، ودعم البلدان النامية الأخرى في تنفيذ جدول أعمال ما بعد 2015، والمزيد من الاستثمارات في البلدان الأقل نموا، والمزيد من إعفاءات ديون الدول الأقل نموا، وتقديم المزيد من القروض الميسرة، وإنشاء مركز للمعرفة من أجل التنمية الدولية، ومواصلة البحث مع الدول الأخرى لنظريات التنمية والممارسات المناسبة للظروف الوطنية لكل دولة، والسعي لمساعدة سبعين مليونا أو أكثر من سكان أرياف الصين، للخروج من الفقر خلال السنوات الخمس المقبلة.
كل ما سبق، يشهد بوضوح على أن الصين تدعو وتعمل بنشاط لإصلاح الإدارة الاقتصادية العالمية. ومع ذلك، فإن مساعيها الجادة تقابل أحيانا بالانتقاد والشك، حتى الافتراء. لذا، تحتاج الصين للدخول في مزيد من التواصل والتبادل مع بقية العالم، في سياق النهوض بالإدارة الاقتصادية العالمية وإصلاحها. ويجب التمسك بمفهوم " المناقشة والمشاركة والتمتع بالثمار معا" في الحوكمة العالمية.
لى قانغ، دكتور في الاقتصاد، باحث علمي في معهد الدراسات الأوروبية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.