كلنا شرق < الرئيسية

مقتطفات من شيآن

: مشاركة
2018-06-28 11:58:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

قبل ذهابي إلى مدينة شيآن بيوم، قابلت الكاتبة الكبيرة بي شو مين، فقالت لي: "من شاء أن يرى تاريخ الصين فليذهب إلى شيآن، ومن شاء أن يرى الصين المعاصرة فليذهب إلى بكين".

مدينة شيآن، حاضرة مقاطعة شنشي، ظلت نقطة البداية لطريق الحرير البري لألف سنة ونيف. في طريقي إلى شيآن، كنت أنظر من نافذة القطار الفائق السرعة، فإذ بكل شئ يمر في لمح البصر، تماما كالوقت، يمر حاملا معه كل الأشياء ماعدا الأشياء الصادقة. زرت شيآن وأنا طالبة بالسنة الجامعية الثالثة، والآن أزورها وأنا مترجمة، فأراها مدينة أخرى جديدة. ربما السبب في ذلك، ليس تطورها وازديادها جمالا فحسب، وإنما أيضا لأن عيوني تراها بشكل مختلف.  

تستغرق الرحلة من بكين إلى شيآن خمس ساعات، يمر خلالها القطار الفائق السرعة عبر أرض خضراء وجبال، ويتوقف عند قرى صغيرة، فيذهلني التطور الذي طرأ على هذه الأماكن. يجلس إلى جواري رجل تبدو عليه البساطة، ربما عامل أو فلاح، وأنظر إلى المقعد الخلفي، فأرى امرأة جميلة يبدو عليها الرقي؛ فإن حق المواطن في التمتع بوسيلة مواصلات مريحة ونظيفة لا تحتكره طبقة بعينها.

أعاود النظر من النافذة، فيطفو من باطن الذاكرة إلى سطحها نص كتبه الأديب الصيني الكبير تشو قوه بينغ تحت عنوان "خارج نافذة القطار"، فأنغمس في استرجاع كلمات من النص: "عندما تشتد سرعة القطار، يصبح المنظر خارج النافذة مطموسا ومتجددا إلى ما لا نهاية. في الحقيقة لا يهمني على الإطلاق ما هو المنظر الذي يمر في لمح البصر خارج النافذة، لأنني أحب شعور التدفق والانسياب. يتدفق المنظر، والفكر أيضا، ليندمج أحدهما مع الآخر ويذوب فيه، يتراءى  لي أنني أنغمس في عالم سلس من الأحلام. عندما أشرد في المنظر المتدفق خارج النافذة، تُفتح نافذة في روحي، وفي هذه اللحظة تنبثق بشكل تلقائي في رأسي أشياء كثيرة حدثت في الماضي كنت قد نسيتها؛ مشاعر لقاء وفقد، وتفكير أرتمي في بحره. يمر المنظر في قلبي بشكل خاطف سريع، تماما مثلما يمر خارج النافذة."

نصل إلى غابة الكتابات الحجرية القديمة في شيآن، لحضور افتتاح  برنامج "مشاهير طريق الحرير 2018"، بحضور مشاركين من نحو ثماني دول. يركز البرنامج على تعريف المشاركين بمقاطعة شنشي، وخاصة مدينتي شيآن ويولين، ومدى تطورهما، وتذوق ثقافتهما المختلفة وزيارة مصانع وأماكن ثقافية وتاريخية وأثرية وفنية. اشتمل حفل الافتتاح على عدد من العروض الفنية الصينية، بالإضافة إلى كلمات مسؤولين من شيآن، وإذاعة الصين الدولية وبعض المشاركين في البرنامج. يخبرك الجميع عن قصص حول المدينة، وعن تجاربهم فيها، ولكن تبقى تلك التجربة التي خضتها وحدها هي القصة الحقيقية.
يقال إن الوقت القصير غير كاف للتعرف على مكان ما، ولكن بدا لي أنه قد يكون دافعا للتعرف عليه أكثر. أستيقظ في الرابعة والنصف فجرا، فمازال فرق التوقيت يؤرقني. أقرر التجول في الصباح الباكر في شوارع شيآن، فأرى أناسا يركبون الدراجات ذاهبين لأشغالهم، وتلاميذ صغارا في الطريق إلى مدارسهم، وجدة تصحب طفلا إلى الحضانة، وسيدات مسنات يمارسن الرياضة على أنغام موسيقى صينية. أستمتع بالسير بينهم، ولكن يستوقفني جدار ممتد بطول الطريق، أُستبدلت حجارته بأزهار مبهجة. يبدأ صباحي برؤية شيء جميل، فيستوطن الجمال بداخلي.

 نذهب إلى معرض طريق الحرير الدولي الثالث، ونزور أجنحة  ترويج الصناعات؛ حيث تعرض فيه كل مدينة صينية أهم صناعاتها ومنتجاتها. وصل حجم استثمارات المشروعات في هذا المعرض إلى 02ر1 ترليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر6 يوانات).

لم تتغير شوارع شيآن الفسيحة ذات الطابع التاريخي، فقط ازدادت جمالا وتطورا. باتت الميادين مزينة أكثر، صارت المدينة أروع من ذي قبل. المدن كالبشر، لها صفات وملامح، ومن ملامح مدينة شيآن شارع هويمين، الذي يعبق بالثقافة الإسلامية الممتزجة بالثقافة الصينية، فهذا الشارع مركز لتجمع لأكثر من 60 ألف مسلم صيني، وبه عشرة مساجد مختلفة الحجم، ترجع إلى فترات تاريخية متفاوتة. المتاجر الصغيرة والبنايات ذات الطراز المعماري لفترة أسرتي مينغ وتشينغ تدهشك. وهنا يمكنك أن تتذوق أكثر من 300 نوع من الأطعمة، بالإضافة إلى المتاجر الصغيرة التي تبيع الهدايا الصينية التقليدية. الشارع الآخر هو شويوانمن، والذي استمتعت بالتجول فيه كثيرا، وشاهدت متاجر للفنون الصينية المختلفة، ولوحات مبهرة من الخط الصيني، وآلات موسيقية تقليدية، ومتجرا لبيع الورق المقصوص، وهنا أيضا تعلمت طريقة فن قص الورق وتفريغه. 

ها أنا أقف أمام خيوط الشمس التي تتسلل إلى نافذتي، مُعلنة عن صباح جديد يحمل تفاصيل جديدة لن تُنسى. نستعد للذهاب إلى ضريح الإمبراطور تشين شي هوانغ (259 – 210 ق.م)، أول إمبراطور في الصين الموحدة. يعد الضريح من عجائب الدنيا، وأعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين. ظننت أن الاندهاش سيتبخر في المرة الثانية التي أزور فيها الضريح، ولكن على العكس، فقد اكتشفت أنه ازداد أكثر، ربما لاني أصبحت أرى الأشياء بمنظور أعمق. تصحبنا المرشدة، وتعطي لكل منا سماعة أذن لنستمع بها إلى شرحها، ولكي تحفظ للمكان هدوءه وتمنع تداخل أصوات المرشدين الآخرين. لم يتيسر لي الاطلاع على الكثير من معروضات المتحف في ذلك اليوم، فكان عطلة نهاية الأسبوع، ويبدو أن الصينيين يقومون بزيارة المتاحف في أيام العطل.

في المساء ذهبنا لمشاهدة مسرحية "قصيدة الأسى الأبدي" الاستعراضية، وربما هذا العرض هو أكثر ما أبهرني في شيآن. هل من الممكن للحب أن يتجاوز حدود الزمان والمكان ليصير أبديا؟  هذه القصيدة الطويلة كتبها الشاعر الصيني باي جو يي (772- 846)، وهو واحد من أعظم شعراء عصر أسرة تانغ، وهي تحكي قصة الحب الشهيرة بين الإمبراطور شيوان تسونغ، إمبراطور أسرة تانغ، ومحظيته يانغ قوي فيّْ، علما بأن عصر تانغ هو العصرالذهبي في الصين الذي ازدهرت فيه جميع المجالات، وخاصة الفنون والشعر والأدب. سقط حكم الإمبراطور شيوان تسونغ بسبب انقلاب أحد القادة عليه، وقيل إن قصة الحب بين الإمبراطور ومحظيته كانت من أسباب انهيار سلطته. 

الفن يلامس الروح، ويلامسها أكثر لو كان مبهراً ومُتقنا. خلال العرض المسرحي لا تشعر أن ما تشاهده من أحداث يدور على المسرح، بل يعود بك الزمن إلى عصر تانغ لتعيش القصة بكل تفاصيلها، فكل من الإخراج والديكور والملابس والمؤثرات الصوتية والبصرية يعيدك إلى حقبة من التاريخ الصيني. في مشهد من العرض امتلأ المسرح برحيق فاكهة ليتشي الصينية، تلك الفاكهة المفضلة للمحظية يانغ قوي فيّْ. ومن العلامات التي جسدت مدى حب الإمبراطور لمحظيته، أنه أمر بتمهيد طريق لتنقل عبره الفاكهة من مقاطعة سيتشوان إلى شيآن في يوم واحد. عرض مسرحية "قصيدة الآسى الأبدي" جعلني أتأكد من أن صدق الحكايات يخلدها.

يقول البعض إنه يكتفي بزيارة المدينة مرة أو اثنتين، وبعدها يفضل الانتقال لاكتشاف مكان آخر، فهل أعرض عن الذهاب إلى شيآن مجددا؟، بالطبع لا. هناك أماكن كثيرة لم أذهب إليها بعد، وأناس أريد الالتقاء بهم والتعرف عليهم، وأتمنى أن أتعرف فيها على الحياة الصينية التقليدية عن قرب. عندما كنت طالبة بقسم اللغة الصينية، كانت غايتي القصوى هي أن أتحدث الصينية كما يتحدث بها أهلها. ولكن، مع مرور الوقت أدركت أن  اللغة للتواصل وفهم الآخر، ولاكتشاف خبايا الثقافات وأسرارها. وإذا كان الأفق يتسع أمام من يسعون إلى اكتشاف العالم، فإن مشاركتي في برنامج "مشاهير طريق الحرير 2018"، بداية جديدة بالنسبة لي، حيث أتاح لي فرصة اكتشاف جزء لم أره من قبل في الصين. انتهى البرنامج، ولكن نهايته هي قطعـا بداية جديدة لي.

--

مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4