كلنا شرق < الرئيسية

يانغشان.. ميناء في المحيط

: مشاركة
2018-02-05 15:50:00 الصين اليوم:Source محمد علام:Author

إذا أردت التقدم، فابدأ في العمل بما في جعبتك، فإن حدث التطور، ستصبح مطالبا بتطوير ما لديك، وإلا ستجد نفسك تقف حيث أنت، وربما تعود للخلف، إلى مكان أكثر ظلمة مما كنت فيه عندما بدأت في العمل، وستواجه الأزمات. وإن لم تكن من هذا النوع الذي يخلق من رحم الأزمات فرصا جديدة فلا مكان لك اليوم في عالم لم يعد يعتد بأنصاف الدول.

عندما بدأت الصين نهضتها في ثمانينيات القرن المنصرم، تنوعت المجالات التي عملت بها وعليها، لكن النقطة الهامة وسط كل هذا كان ضمان حركة التصدير والاستيراد؛ تصدير السلع الصينية لمختلف أنحاء العالم لزيادة دخل البلاد وإنتاجها الوطني والحفاظ على معدلات النمو المرتفعة، واستيراد السلع التي تحتاجها البلد وفي مقدمتها تلك التي تستخدمها في زيادة إنتاجها. كانت الموانئ هي العصب الرئيسي لكل هذا، وفي المقدمة كان ميناء شانغهاي كدرة تاج حركة النقل البحري الصينية.

عصر جديد

ترجع جذور مدينة شانغهاي إلى فترة أسرة مينغ، لكنها لم تكتسب أهمية شديدة إلا بعد العام 1842، حيث اعتبرت "ميناء معاهدة"؛ وهو مصطلح كان يشير وقتها إلى الموانئ الصينية المفتوحة أمام تجارة القوى الغربية، بعد أن وضعت حرب الأفيون أوزارها. واستمرت مكانة ميناء المدينة في الارتفاع والتطور حتى حلول مطلع القرن العشرين، حيث أصبح الميناء ومعه المدينة الأكبر في منطقة شرقي آسيا بالكامل.

لكن الميناء تعرض لفترة ركود كبيرة أثرت على مكانته تماما، واستمر ذلك في الفترة ما بين بداية الغزو الياباني الثاني للصين وما عقبه من معارك الحرب العالمية الثانية. ثم استمر الركود حتى عام 1991. في ذلك العام، تم إدراج شانغهاي ضمن مناطق الإصلاح الاقتصادي، وبالنظر إلى موقعه الجغرافي المتميز، لم يتطلب الأمر كثيرا من السنوات كي يستعيد الميناء حيويته ومكانته الطبيعية كأهم ميناء في شرقي آسيا، وكانت تلك هي مجرد البداية.

يختلف الأمر كثيرا حينما نقارن سفن الشحن البحري في الفترة ما بين عام 1842 إلى مطلع القرن العشرين، بتلك التي تبحر في أيامنا، أو حتى الأقدم قليلا التي أُنتِجت في تسعينات القرن الماضي، سواء من حيث سرعة السفن أو حجمها وقدرتها على حمل البضائع. وإذا كان الأمر سهلا على ميناء شانغهاي في التعامل مع السفن القديمة، فإن الصورة اختلفت تماما في هذا العصر الجديد للشحن البحري.

سلسلة من المشكلات

بدأت المشكلات تتجمع أمام ميناء شانغهاي في سلسلة تزيد حلقاتها كل يوم؛ فمع تطور سفن النقل البحري، ترتفع أيضا التجارة الخارجية الصينية سنويا بنسب مرتفعة يصل متوسطها إلى 30%، وما يزيد الأمر تعقيدا اعتماد الصين كثيرا على مينائها الهام "شانغهاي". في عام 2010، أصبح الميناء هو أكثر ميناء حاويات ازدحاما في العالم وليس على المستوى الوطني فحسب. وكما أسلفنا، فإن مشكلة حجم السفن الجديدة العملاقة ذات الغاطس الكبير والتي تحتاج إلى مياه عميقة للإبحار، تضافرت مع حالة الجزر التي تحدث لمياه نهر اليانغتسي التي تمر بها السفن في طريقها لدخول الميناء، مما يجعل المياه ضحلة بشكل أكبر ويعيق حركة السفن أكثر فأكثر.

فوق كل هذا، فإن السفن لكي تصل إلى الميناء عليها أن تمر أولا بمجرى مائي ضيق، هذا المجرى هو نهر هوانغبو. حالة من الازدحام الشديد وشبح خطر التصادم بين السفن يلوح في كل لحظة، كما أن قدرة السفن العملاقة أصلا على المناورة أقل من تلك الصغيرة الحجم. ويضاف إلى ذلك، أن عرض النهر الصغير يحد بشكل أكبر من القدرة على التحكم في السفينة أو الانعطاف أو الاستدارة بها.

كل هذه العوامل كانت تتجمع معا لخلق مشكلة ضخمة للغاية؛ مشكلة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى أن يصيب الركود ميناء شانغهاي مجددا ولن يتوقف الأمر على فقدانه القدرة على استمرار المنافسة كالأكبر والأهم عالميا، خصوصا أن الأزمة تكبر مع الأيام مع حالة من التسابق بين كبرى شركات تصنيع سفن الشحن العالمية على بناء سفن شحن أكبر حجما تستطيع نقل حاويات أضخم وبأعداد أكبر، وهو سباق مدفوع برغبة شركات الشحن البحري في تحقيق الكثير من الأرباح. على سبيل المثال، العديد من سفن الشحن في وقتنا هذا لا تستطيع دخول قناة بنما من الأصل بسبب أبعادها- (الطول، العرض، الغاطس)- الأكبر مما تستطيع القناة تحمله. مصير كهذا قد يحيق بشانغهاي في أيام بدت وكأنها أيام نحسات.

وسط أمواج المحيط

إذا كانت الحروب والظروف الدولية والداخلية هي التي أدت للركود الأول لميناء شانغهاي، فلماذا نقف هنا وننتظر خسارة قادمة بفعل عدم وجود حلول لتلك المشكلات؟ فلندفع الأمور إلى الأمام قبل أن يحدث الركود الثاني. كان ذلك هو التفكير الصيني في تلك الأوقات. وإذا كان الصيني القديم قد بنى سور الصين العظيم لحماية بلاده من أعدائها، فعلى الصيني الآن أن يبني شيئا كي لا تضمحل علاقته التجارية مع أصدقائه.

المشكلات كثيرة ومتنوعة الأسباب، لكنها من منبع واحد. إذا كان ميناء شانغهاي القديم لن يكون قادرا على مواجهة متطلبات القرن الحالي، فعلينا أن ننشئ ميناء جديدا يكون قادرا على حل كل تلك المشكلات دفعة واحدة ليس لليوم فحسب وإنما لعقود قادمة. بحلول عام 2002، كانت الأنظار قد توجهت إلى مجموعة من الجزر في المياه العميقة على بعد 32 كيلومترا من ساحل شانغهاي. هنا سيبنى الميناء الجديد الذي تستطيع أن تدخله وتخرج منه أي سفينة شحن بأي حجم بسهولة ويسر وانسيابية في الحركة، دون خوف من تصادم وشيك أو جنوح مخيف.

حددت الخطة أن يكون الميناء ذا مواصفات متقدمة على جميع المواني المنافسة في المنطقة؛ وتحديدا في سنغافورة واليابان، أن يكون قادرا وفي نفس اللحظة على القيام بعمليات شحن وتفريغ لخمسين سفينة. كان هذا الأمر كله مرتبطا بجدول زمني ضيق للغاية، إذ يجب أن يتم الأمر قبل عام 2007، وإلا فإن شركات النقل البحري الدولية ستحول سفنها لأي ميناء منافس آخر، في صناعة يمثل فيها الوقت مالا.

قهر الصعاب

اصطدم التخطيط في البداية بمفهوم هام تتبناه الصين هو "التنمية الايكولوجية"، ذلك أن السعي للتنمية الاقتصادية دون مراعاة البيئة وموارد الطبيعة المحدودة التجدد سيقودنا حتما إلى نتائج وخيمة وربما عكسية، وسيدفع الإنسان فاتورة إصلاح ما أفسده أكثر مما كسب من فوائد، وربما لن يستطيع أصلا إصلاح ما فسد. كان التصادم أنه لابد من إجراء تعديلات كبيرة وتغييرات واسعة على طبيعة الجزر لكي تستطيع استقبال منشآت الميناء الجديد، في النهاية صدر القرار: لن نغير الطبيعة، بل سنبني ما نحتاج إليه.

لبناء جزيرة اصطناعية في موقع إنشاء الميناء، لابد أولا من الحصول على التربة اللازمة لذلك. تم الدفع بسفينة مخصصة لسحب طمي نهر اليانغتسي الراكد ثم نقله إلى موقع البناء. في النهاية، بني الصينيون جزيرة من صنع الإنسان وسط المحيط.

ربما يمكن أن نطلق على ذلك، عملية إنشاء الشكل أو الهيكل. لكن المضمون، وهو الأهم، في ميناء يطمح أن يكون الأول عالميا، لابد أن يكون متميزا عن الجميع، بأن يبنى ميناء يعتمد التقنيات العالية في كافة مراحل العمل ومجالات التحكم والسيطرة على كل ما فيه، بل وصل الأمر إلى عربات ووسائل الشحن والتفريغ.

على سبيل المثال، لدينا الرافعات الضخمة التي تقوم بتفريغ أو شحن الحاويات من وإلى السفن. على الرغم من أن الصين تصنع نسبة كبيرة من الحاويات التقليدية التي تستخدم في مختلف دول العالم، تطلع المسؤولون عن ميناء يانغشان إلى أمر يضعهم أمام الجميع بمسافة كبيرة. فمع أن الرافعة التقليدية يمكن أن تتعامل مع ثلاثين حاوية في الساعة الواحدة، فإن مواصفات الرافعات التي طلبها مسؤولي الميناء الجديد تصل بقدراتها إلى ضعف ذلك الرقم تقريبا. في النهاية، يصب هذا في صالح الميناء، فمع تسريع عمليات الشحن والتفريغ سيتقدم يانغشان على جميع منافسيه.

هناك أيضا ميزة أخرى، تم تزويد ميناء يانغشان بها، وهي أنظمة رقمية عالية التقنية تساعد على تحديد أفضل مكان لوضع الحاويات على ظهر سفينة الشحن لضمان ثباتها أثناء الرحلة البحرية، التي قد تواجه السفينة خلالها أمواجا عاتية أو رياح شديدة. إن ضمان أن لا تسقط حاوية من على ظهر السفينة خلال الرحلة هو أمر شديد الأهمية فيما يتعلق بمدى الثقة في شركات الشحن البحرية. فلن يرضى أي عميل عن سقوط بضاعته أو جزء منها في مياه البحر، الأكثر من هذا أن ميناء يانغشان سيكون هو المفضل لدى بقية الموانئ في التعامل معه، فوضع الحاوية في أفضل مكان لها على ظهر السفينة يعني عملية تفريغ أكثر سهولة في الموانئ الأخرى التي ستبحر إليها سفن الشحن التي تم تحميلها في يانغشان.

العربات والشاحنات المخصصة لنقل الحاويات من وإلى الرافعات، ليست شاحنات عادية، بل هي من نوع خاص تم تصميمه بشكل يتيح للسائق زوايا رؤية أفضل بكثير من الشاحنات العادية.

ماذا بعد؟

هناك أغنية قديمة للمطرب المصري الشهير محمد رشدي يعرفها العرب جميعا، تتحدث عن هواء طائر للميناء يحمل معه أخبار قصة حب. لكن، بكل تأكيد لم يكن بمقدور الصينيين الاعتماد على الهواء لنقل الحاويات التي تحملها السفن من وإلى البر الرئيسي، فمع أن ميناء يانغشان وضع حلا لمشكلة ميناء شانغهاي القديم، فإن مكانه الجديد وسط المياه العميقة خلق مشكلة أخرى؛ وهي كيف ستصل الحاويات التي وصلت من السفن القادمة من جميع أنحاء العالم أو تلك التي ستصدرها الصين من وإلى الميناء؟ كان الحل مميزا أيضا، ألا وهو "جسر دونغهاي". لكن الحل خلق بدوره حفنة أخرى من المشكلات؛ كيف سيبني المهندسون والعمال الصينيون جسرا بطول 32 كيلو مترا؛ هي المسافة الفاصلة بين يانغشان والبر فوق مياه المحيط، ومن أسفلها ماء طيني غير ثابت، بعمق يتراوح بين 20 و40 كيلومترا في مناطق أخرى؟ وفوق كل هذا، مطلوب من هذا الجسر أن يستطيع تحمل أي إعصار يهب في هذا المكان. باختصار، مطلوب جسر يتحدى المحيط.

طوال 42 شهرا، واصل جيش من ستة آلاف مهندس وعامل ومختص في العمل حتى تم افتتاح الجسر في العاشر من ديسمبر 2005، ليصبح وفقا لبعض المصادر ذات المصداقية العالية، ثاني أطول جسر يمر فوق مياه البحار أو المحيطات في العالم. كانت شهادة النجاح الكبرى عام 2006 عندما صمد أمام الإعصار الشديد الذي ضرب الصين وقتها. كما روعي في تصميم هذا الجسر الفريد من نوعه، أن تكون بعض أجزائه من الكابلات التي تحمله بدلا من الأعمدة بهدف ترك مساحة شاغرة أسفله تكفي لمرور السفن العملاقة، مما يسمح بحركة متواصلة دون توقف للسفن المتعاملة مع الميناء، وعلى جانبيه هناك محطات لوزن البضائع فلا يسمح بدخول أي شاحنة تتخطي الوزن المسموح به للسير على الجسر.

الثمار

بميناء يانغشان، قفزت شانغهاي إلى الصدارة عالميا في حركة الشحن، ومن المتوقع أن تحتفظ بمركزها لفترة طويلة. ومع تطور سفن الشحن والسعي وراء بناء سفن أكبر حجما يوما بعد يوم، لتحقيق مكاسب أكبر ونقل أكبر كمية من البضائع في الرحلة الواحدة، قد يصبح ميناء يانغشان مجرد خطوة أولى في طريق الصين نحو ميناء أكبر بكثير. ومن يدري، فقد يرتبط الميناء ببر الصين الرئيسي ذات يوم. وبصورة عامة، فإن قصة النجاح التي كتبها الصينيون في يانغشان هي لبنة في بناء كبير للغاية يسمي "طريق الحرير"؛ هذا المشروع العالمي الذي تسعي الصين من خلاله لربط قارات العالم بعضها ببعض؛ برا وبحرا وجوا. إن نجاح يانغشان وما يماثله من مشروعات هو دليل تأكيد على إمكانية تحقيق الحلم الصيني، وعلى مشروعية أن يحلم الإنسان بالتواصل المفيد والربح المشترك مع أخيه الإنسان في طريق تبادل المنافع والربح المشترك.

-

محمد علام، باحث مصري في الشؤون الدولية.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4