ثقافة وفن < الرئيسية

حُب فتى.. صفحات من حياة سان ماو (2-2)

: مشاركة
2019-02-27 15:31:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

خوسيه، قد عُدتُ

في ذلك الوقت كان خوسيه في آخر شهرين له بالجيش، كانت أخت خوسيه الصغيرة مصرة على أن أكتب رسالة له. قلت: "لم أعد أعرف الإسبانية، كيف يمكنني أن أكتب له؟" أجبرتني فيما بعد على الكتابة. وأخيرا كتبت له بالإنجليزية: "خوسيه! قد عُدت، أنا أكو، وموجودة في العنوان التالي: ....." وصلت الرسالة إلى معسكره في الجيش، ولكن لم يكن هناك أي أحد يعرف الإنجليزية. وصلني رد سريع يقول فيه إنه لم يفهم ماذا كتبت له في الرسالة، ولذلك لم يستطع أن يرد علي، ولكنه قام بقص العديد من صور الكاريكتير للغواصين وأرسلها إلي، وأشار إلى صورة من بينها قائلا: "هذا أنا."

لم أرد على رسالته، وكانت النتيجة أن خوسيه اتصل بي من الجنوب قائلا: "سأعود يوم 23 إلى مدريد، انتظريني!" عندما جاء هذا اليوم، كنت قد نسيت تماما، وذهبت مع زميلة لي إلى مدينة أخرى صغيرة للتنزه، وعندما عدت إلى بيتي، قالت لي زميلتي في المسكن إن شابا اتصل عشرات المرات بي. في تلك اللحظة، تلقيت اتصالا من صديقة، وهي سيدة كبيرة، قالت إن هناك أمرا هاما ترغب التحدث معي بشأنه، وطلبت مني أن أركب سيارة تاكسي وأذهب إليها. انطلقت في الحال متجهة إلى بيتها، استقبلتني، وطلبت مني أن أغمض عينيّ، لم أكن أعرف أي لعبة تريد أن تلعبها معي، وبسرعة أغلقتُ قبضة يدي، ووضعتها وراء ظهري، كنت أخشى أن تضع حيوانا صغيرا في يدي وتفزعني. بينما كانت عيناي مغلقتين، سمعت صوت خطوات أقدام تتحرك صوبي، ثم سمعت السيدة تقول إنها ستخرج، ولكنها طلبت مني أن أستمر في إغماض عيني. فجأة احتضنتني ذراعان من الخلف، فانتفضت، وبمجرد أن فتحت عينيّ، رأيت خوسيه واقفا أمامي، صحت بحماسة، بالصدفة في ذلك اليوم كنت أرتدي فستانا طويلا، وكان يرتدي هو بلوفر نبيتي اللون. أمسكني ولف بي، وأخذ فستاني يرفرف، كنت أصرخ ولم أتوقف عن ضربه، وأيضا لم أتمالك نفسي من مسك وجهه وطبع قبلة على خده. كان الواقفون خارج صالة البيت يضحكون فرحين، لأن الجميع يعرف جيدا أننا لسنا حبيبا وحبيبة، ولكن تربطنا مشاعر وعلاقة جيدة للغاية. حملني القدر إلى خوسيه مرة أخرى، في السنة السادسة من قولي له إنني سأفترق عنه إلى الأبد.

هل مازلت تريد الزواج مني؟

 ذات يوم في مدريد، وتحديدا وقت العصر، دعاني خوسيه للذهاب إلى بيته. عندما دخلت إلى حجرته، كان وقت الغروب، قال: "انظري إلى الجدار." رفعت رأسي لأنظر، فكان على كل جانب منه صور لي بالأبيض والأسود بحجم كبير والتي كانت قد اصفر لونها. كان الضوء يتسلل من بين فراغات شباك النافذة، فينعكس على شعري القصير في الصور. نظرت إلى الصور صورة، صمت طويلا، وسألت خوسيه: "لم أرسل لكَ صوري من قبل، من أين أتيت بهذه الصور؟" فقال: "من بيت العم شو. كنت دائما ترسلين إليهم صورا، وبعد أن يروها كانوا يضعونها في علبة كارتون، وعندما أذهب إلى زيارتهم، كنت أسرقها، وأحضرها للمصوراتي لينسخها ويكبرها، ثم أعيد الصور مرة أخرى إلى العلبة خلسة." سألته: "ماذا يقول أهلك عندما يدخلون ويخرجون؟" قال: "يقولون إنني أصبت بمرض نفسي، وأنني حتى لم أعد أراها، ولكنني مازلت مهوسا بتعليق صورها." سألته مرة أخرى: "لماذا اصفر لون كل هذه الصور؟" رد قائلاً: "نعم، فإن الشمس غيرت لونها، وليس بيدي أي شيء، فأنا أنُزل شباك النافذة، ولكن الفراغات تسمح للضوء بالدخول، فتتعرض لأشعة الشمس." كانت على وجهه تعبيرات بالشعور بالأسف عندما كان يتكلم. مددت يدي بتلقائية والتقطت صورة من على الجدار، فتركت مكانها أثرا أبيض.

التفت إلى خوسيه وسألته: "هل ما زلت تريد الزواج مني؟" في تلك اللحظة، جاء دوره ليندهش، وكأنني كنت عفريتا يقف أمامه، ورمقني بعينيه طويلا. قلتُ له: "ألم تقل 6 سنوات؟ ها أنا الآن أقف أمامك." فجأة لم أتمالك نفسي وانفجرت في البكاء، وقلت: "إذا لا تريد، فلا داعي." سألني متلهفا: "لمّ لا كيف لا أريد؟" في هذه اللحظة، بدا وكأن الأحزان القديمة والجديدة قد تدفقت مجتمعة فجأة، وقلت له: "لماذا لم تُريدني في ذاك الوقت؟ لو كنت تمسكت بي حينذلك، لكنت مازلت إنسانة سليمة، ولكنني عُدت اليوم، وفؤادي محطم." قال: "يمكن استخدام الصمغ للصق قلبكِ المكسور." قلت له: "بعد لصقه، سيظل هناك شرخ." جذب يدي إليه ووضعها على صدره وقال: "لايزال هنا قلب، مصنوع من الذهب، سآخذ قلبك المكسور ذلك، فدعينا نتبادل قلبينا!" تزوجنا بعد سبعة أشهر.

شعرت في قرارة نفسي أن ما حدث ترتيب من القدر، فشكرت الله، لأنه منحني حياة سعيدة لست سنوات. كنت أقول دائما في كتبي إنني لم أحب بجنون قبل الزواج، ولكن عندما تزوجت، تولدت بداخلي ثقة كبيرة، وتشابكت يدي في يده، ثم أدركت فيما بعد أن قراري كان صائبا. لو كان لا يزال على قيد الحياة، كنت سأظل أخبره أنني لستُ نادمة أبدا على زواجي منه. لذلك، أنا لا أعتقد أن السن، الحالة المادية، الجنسية، ولا حتى التعليم تعد شروط اختيار شريك الحياة. لا شك أن هذه الشروط هامة بالنسبة للجميع، ولكنني أعتقد أن الأهم من ذلك هو روح وشخصية كل منهما، فهذا هو الشيء الذي نسعى إليه ويسمى بـ"التوافق".

لا تموتي، لا تموتي!

عندما توفي خوسيه كان في الثلاثين من عمره. كنت أسأله دائما: "كيف تريد أن تموت؟"، وكان يسـألني أيضاً: "كيف تريدين أن تموتي؟"

كنت أقول دوما: "أنا لا أموت." ذات مرة طلبت مني مجلة ((عشاق الكتب)) مقالة موضوعها "ماذا سأفعل لو كان أمامي ثلاثة أشهر على قيد الحياة؟" قمت بحمل المسودة وأعطيتها لوخسيه ليقرأها، بل قلت بشكل تلقائي: "لا أحد يعرف، كيف يتصرف الإنسان عندما يموت!" قال: "هذا الموضوع غريب حقًا!" كنت أستكمل عجن الدقيق، فسألني خوسيه: "هل ستكتبين هذه المقالة أم لا! فماذا ستفعلين قبل الموت بثلاثة أشهر؟ وكيف ستكتبينها؟" قلت، وأنا أعجن: "دعني انتهي من العجن أولاً!" سأل بلا توقف: "هل ستكتبينها أم لا؟" التفتُ ونظرت إليه، ومسدت بيدي الممتلئة بالدقيق على رأسه، وقلت له: "غبي!، سأرفض كتابتها، لأنه مازال على أن أصنع لكَ جياوتسه (كرات من العجين محشوة باللحم والخضراوات). عندما انتهيت من هذا الكلام، استكملت العجن، وفجأة طوق خوسيه خصري بيديه، دون أن يتركه. قلت له ممازحة: "أنت مريض نفسي!" ولأن حينذاك لم يكن لدي نشابة، التقطت فنجان شاي لاستخدامه بدلا منها، ولكنه كان متشبثا بي، فقلت: "ابتعد." كنت أأأHأحاول أن أفلت من بين يديه بكل قوتي، ولكنه لم يتركني. "كم أنت سخيف ...." وفي منتصف الكلام، أدرت وجهي بغتة، فرأيت عينيه تفيضان بالدموع، ذُهلت، قال بدون مقدمات: "لا تموتي، لا تموتي، لا تموتي....." ثم قال: "فلنتجاهل مجلة عشاق الكتب هذه، لأن كلينا لا يموت." فسألته:" فكيف سنموت إذاً؟" أجاب: "عندما يتقدم بك العمر، وأنا كذلك، ولا نقوى على المشي أو الاتكاء، سنرتدي ملابس نظيفة مهندمة، ونتمدد سويا على الفراش، ونغمض عينينا قائلين: حسنا، فلنرحل سويا!" لم أكتب إلى الآن هذه المقالة التي طلبتها مني مجلة ((عشاق الكتب)). سألوني مؤخراً لماذا لم أكتب؟ فأخبرتهم، لأن لدي زوجا، على أن أصنع له جياوتسه، لذلك لم أستطع كتابتها.

عليكَ أن تناديه "بابا"

أتى والداي لزيارة إسبانيا، قبل أن يذهبا إلى جزر الكناري. سألني خوسيه كيف ينادي والدي حينما يراه: "ألا يجب أن أناديه بالسيد تشين؟" قلت له: "إذا ناديته بالسيد تشين، سيركب الطائرة التالية ويعود إلى تايبيه في الحال. ألا أنادي أنا والدك بكلمة بابا؟" قال: "ولكن جميع عائلتنا يشعرون أنكِ تبالغين." في إسبانيا لا ينادي الصهر حميه وحماته بـ"بابا وماما"، بل ينادونهم بالسيد فلان والسيدة فلانة، ولكنني كصينية، كنت أنادي حماتي بـ"ماما ماريا"، وكنت أنادي والد زوجي بـ"بابا سيزر".

قال خوسيه: "أنا سأنادي والدك بالسيد تشين، انتهى!" قلت: "لا يمكنك أن تناديه بالسيد تشين." كانت النتيجة أنني رافقت والديّ لمدة 16 يوما قضياها في إسبانيا، ثم عدنا إلى جزر الكناري، وطلب خوسيه إجازة لينتظرنا في المطار.

كنت أقول له دائما: "في حياتي ثلاثة أشخاص؛ أبي وأمي وأنتَ، بالإضافة إلى شخصي. من المؤسف أنه ليس لدينا طفل، وإلا كانت اتسعت دائرة حياتي قليلا، واليوم وجود والديّ معك، يبدو لي وكأنني حصلت على أكثر أمنية تمنيتها من أعماق قلبي. أعلم أن قلبك صاف، ولكن طريقة كلامك وسلوكك ليسا جيدين بالضرورة. أتوسل إليك عندما يأتي والديّ، لا تضجر أو تفقد أعصابك ولو لمرة؛ لأن تجنب الثرثرة أحيانا يكون أمرا صعبا بالنسبة للكبار." قال: "كيف يمكنني أن أفقد أعصابي؟ أنا أكاد أن أطير من فرط السعادة!"

ولأنه كان يتوق لرؤية والديّ، كان يدرس كل يوم اللغة الإنجليزية لبضع ساعات، فقد درسها قبل ثلاث سنوات في النرويج. عندما لمحنا خارجين من المطار، احتضن والدتي بيد، ووالدي بيده الأخرى، وحينما اكتشف أنه لا توجد لديه يد يحتضني بها، قال لي: "تعالي"، ثم جعلنا نحن الأربعة نشكل حلقة، فلم يكن رآني منذ 16 يوما. أزاح يده وبدأ يحتضن أمي، ثم أبي ثم يحتضنني بشدة. في المرة الأولى التي لمح فيها والديّ كان قلقا جدا، وفجأة صاح باللغة الصينية: "بابا!"، ثم نظر إلى والدتي وقال: "ماما!"، وكأنه لم يعرف ماذا عليه أن يقول فيما بعد. خفض رأسه محاولا أن يحمل الحقائب، رفعها وهو يحاول جاهدا أن يضعها في السيارة. عندما شغل محرك السيارة، قلت له: "خوسيه، فلتتكلم! لغتك الإنجليزية لا بأس بها، ليست سيئة للغاية." قال لي بالإسبانية: "في الحقيقة أنا متوتر للغاية، لم أنم لبضع ليال، أنا خائف جدا." أدركت حينها أنه ربما يكون أمرا مستساغا جدا أن ينادي الصيني والد ووالدة زوجته بـ"ابي وأمي"، ولكن حينما تطلب من أجنبي أن ينادي أشخاصا لم يرهم من قبل بـ"بابا وماما"، يكون الأمر ليس سهلا عليه بالمرة، إلا إذا كان يُكِن حبا ومودة شديدين لزوجته.

عندما عدنا إلى البيت، تركنا حجرتنا لوالدي للبقاء فيها، أما أنا وخوسيه فبقينا في حجرة أصغر منها. ذات يوم، كنت أدردش بسعادة مع وأبي وأمي على مائدة الطعام، قال لي خوسيه فجأة، إن الدور عليه ليتكلم، ثم قال بمنتهي الصرامة بالإنجليزية: "دادي، قل لأكو إنني سأشتري دراجة نارية، اتفقنا؟" كان يريد شراء دراجة نارية منذ فترة، ولكن بموافقتي. سمعت جملته هذه، ووقفت وسرت إلى الحمام، وأخذت منشفة وغطيت بها عينيّ، ولم أخرج. فباستخدام خوسيه لكلمة "دادي"، صدقت أنه وأهلي قد اجتازا فجوة كبيرة بينهما.

اتفقنا أنا وخوسيه أن لا ننجب طالما نحن معا، لأننا إذا أنجبنا فتاة، فيمكن أن أضربها ضربا مبرحا؛ لأن الغيرة ستشتعل في قلبي، وإذا أنجبنا ولدا، فسيشنقه خوسيه في الشرفة، لأنني سأحب هذا الولد جدا. بعد ذلك ذُهلت للغاية من أن يتفوه زوجان بمثل هذا الكلام الطفولي والأناني.  بعدما أتى والديّ بشهر، سألني خوسيه فجأة: "ألا تشعرين أنه قد حان الوقت لننجب طفلا؟" قلت: "نعم أشعر بذلك." قال: "بعد أن جاء والداك إلى هنا، أضافا إلى البيت جوا أسريا، لم يكن موجودا في بيتي من قبل."

وداع أبدي

عندما كنت سأصطحب والديّ في رحلة إلى لندن وأوروبا، جاء خوسيه لتوصيلنا إلى المطار وتوديعنا. ضم أمي وقال لها: "ماما، لا أحب أن أراك تذرفين الدموع، في شهر يناير من العام المقبل، ستستقبلينني في مطار تايبيه، لا تحزني أبدا. أكو سوف ترافقك للتجول."

ركبنا طائرة مروحية صغيرة، ولأننا كنا سنبقى في تلك الجزيرة الصغيرة، فلا يمكن لطائرة نفاثة أن تصل إلى هناك. قبل أن أصعد إلى الطائرة، توقفت عند المحرك أنظر إلى خوسيه. في هذه اللحظة، قفز خوسيه أعلى مجموعة من الأزهار، آملا أن يتمكن من رؤيتنا مرة أخرى من مكانه، وعندما صعدنا إلى الطائرة، لم أتوقف عن التلويح له بيدي، وهو كذلك، حتى أشارت إلى المضيفة أن أجلس. بعد أن جلست، كانت تجلس إلى جواري امرأة عجوز، وسألتني: "هل هذا زوجك؟" قلت لها: "نعم." سألت مرة أخرى: "لماذا أتى؟" أجبتها باختصار إنه أتى لتوديعي أنا ووالديّ، لأنني أصطحبهم لقضاء إجازة، أما هي فقد أخبرتني على الفور: "أنا جئت لرؤية ابني." ثم أعطتني بطاقة التعريف الشخصية لها. في إسبانيا إذا كانت المرأة أرملة، يتبع اسمها المكتوب على بطاقة التعريف، عبارة "أرملة فلان". هذه الكلمات الموجودة على البطاقة صدمت عيني وجعلتني أحملق، وأشعر بالضيق يجثم على قلبي. لم أعرف ماذا أقول لها بعد ذلك، فقط قلت لها: "شكراً!" لم أتوقع أبدا أنني بعد يومين من أخذ هذه البطاقة ستصير حالتي الاجتماعية مثلها......

(عندما وصلت سان ماو بالحديث إلى هنا، ارتعش صوتها، ظلت واقفة على المنصة لوقت طويل، لم تنطق بشيء، ثم قطعت الندوة ولم تكملها.......)

-         سان ماو، كاتبة صينية من تايوان، تزوجت من إسباني اسمه خوسيه ماريا كيرو، يصغرها بثماني سنوات، وعاشت معه قصة حب رائعة انتهت نهاية مأساوية عندما مات غرقا.

-         مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4