ثقافة وفن < الرئيسية

تصليح ساعات الأباطرة

حرفة عمرها ثلاثة قرون في متحف القصر

: مشاركة
2018-10-15 16:42:00 الصين اليوم:Source :Author

متحف القصر الإمبراطوري (أو المدينة المحرمة)، كان قصر أباطرة أسرتي مينغ (1368- 1644 م) وتشينغ (1644- 1911 م) في الصين. هذا المتحف، به حاليا أكبر مجموعة من الأعمال الفنية الصينية القديمة، ومنها أكثر من 1500 ساعة قديمة، معظمها فريدة من نوعها ولا مثيل لها.

كان قصر فنغشيان، بالجانب الشرقي لمتحف القصر الإمبراطوري، المكان الذي يقدم فيه أباطرة أسرتي مينغ وتشينغ القرابين لتمجيد وتوقير الأسلاف. تحول هذا القصر إلى صالة لعرض مقتنيات متحف القصر من أكثر من مائة ساعة حائط وساعة يد عتيقة رائعة مازالت تعمل حتى يومنا هذا وتتابع مسيرة الزمن، مما يدل على جودتها العالية ودقة صنعها.

منذ إنشاء مركز الساعات في المدينة المحرمة في عهد الإمبراطور كانغ شي (1654-1722 م) لأسرة تشينغ، توارثت أجيال على مدى أكثر من ثلاثة قرون مهارة تصليح الساعات القديمة، تلك المهنة التي تعد التراث الثقافي غير المادي الوحيد الذي تم تناقله عبر الأجيال دون انقطاع في المدينة المحرمة. في عام 2014، أُدرجت هذه المهارة في قائمة التراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني.

شغف أباطرة الصين بالساعات الغربية

ظهرت الساعات الميكانيكية في أوروبا أولا، ومنذ دخولها إلى الصين أبدى أباطرة الصين اهتماما كبيرا بها، وكان من بينهم الإمبراطور وان لي (1573-1620 م) لأسرة مينغ، الذي كان أول إمبراطور اقتنى هذا النوع من الساعات.

في عام 1601، عندما وصل المبشر الإيطالي ماتيو ريتشي إلى الصين قدم عدة هدايا إلى الإمبراطور وان لي، من بينها ساعتا حائط، إحداهما كبيرة الحجم والأخرى صغيرة. في ذلك الوقت، كانت الصين تعتمد بشكل رئيسي على الساعة المائية والمزولة الشمسية لحساب الوقت، والتي تحدد الوقت من خلال حساب تدفق المياه وتتبع حركة ظل أشعة الشمس. خلال الليل، كانت تقرع الطبول كل ساعتين لإعلان الوقت. أحب الإمبراطور وان لي الساعتين التي جلبهما ماتيو ريتشي، وكان يجد متعة في سماع دقات الساعة والحركة الآلية لعقاربها، فأغدق على ماتيو ريتشي بمكافآت سخية كثيرة. هاتان الساعتان هما الدفعة الأولى لمقتنيات القصر الإمبراطوري من الساعات القديمة.

ازداد اهتمام أباطرة أسرة تشينغ بساعات الحائط وساعات اليد الغربية، لأناقتها وتصاميمها المبتكرة. كانت تلك الساعات تحمل أنماطا مختلفة من الأشكال الزخرفية مثل الأجرام السماوية وعربات الخيل والشخصيات والحيوانات والأزهار والبنايات والقصور، وكلما دقت الساعة، تبدأ هذه الأشكال الزخرفية بالتحرك للدلالة على الوقت حيث تغرد الطيور، أو تتفتح الأزهار، أو تتسابق عربات الخيل، أو تتحرك عيون الحيوانات.

أعجب أفراد الأسرة الإمبراطورية بتلك الأشكال المبتكرة، والموسيقى اللطيفة، والدلالات والمعاني الميمونة التي تتضمنها تصاميم الساعات الغربية، والتي أصبحت رائجة بينهم، وازداد اهتمامهم بالبحث عن وسائل مختلفة لجمع الأنواع النادرة من تلك الساعات. كان الإمبراطور تشيان لونغ (1117-9179 م) لأسرة تشينغ مثالا على ذلك، حيث لم يدخر جهدا لاقتناء كافة أنواع ساعات الحائط وساعات اليد الفاخرة، حتى أنه أمر مسؤولي الجمارك في مقاطعة قوانغدونغ بتخصيص ميزانية كبيرة لشراء الساعات الغربية.

بعد معرفتهم بشغف أباطرة الصين لساعات الحائط وساعات اليد الأنيقة، حرصت البعثات الأجنبية والمبشرون الأجانب الذين كانوا يأتون إلى الصين على أن يجلبوا معهم ساعات متميزة بتصاميمها وروعتها، ليقدموها كهدايا إلى الأباطرة لكسب رضاهم وضمان مصالحهم في الصين. بدأت كذلك أنظار صانعي الساعات الأوروبيين تتجه إلى السوق الضخمة في الصين، واستغلوا تلك الفرصة لصنع ساعات ذات تصاميم صينية لبيعها لمحبي الساعات من الصينيين. تدريجيا، أخذت مقتنيات القصر الإمبراطوري من الساعات في الزيادة.

صنع ساعات الحائط في أسرة تشينغ

المجموعة الحالية من الساعات في المدينة المحرمة تشمل ليس فقط الساعات الأوروبية، وإنما أيضا ساعات مصنوعة في الصين محليا.

في عام 1648، بدأ في القصر الإمبراطوري لأسرة تشينغ صنع نسخ من الساعات الغربية وإدخال تعديلات بسيطة عليها. كان الإمبراطور كانغ شي شخصا مجدا يحب الدراسة والإطلاع، وكان لديه اهتمام قوي بالعلوم الغربية، وأعجب جدا بتلك الساعات التي كانت من وجهة نظره تجسّد التطور العلمي والتكنولوجي في أوروبا، فأنشأ مركزا للساعات كمؤسسة لجمع وتصنيع وصيانة ساعات الأسرة الإمبراطورية.

خلال عهد الإمبراطور تشيان لونغ، حفيد الإمبراطور كانغ شي، تحول مركز الساعات إلى مكتب صنع الساعات بأنواعها المختلفة، منها ساعات تجمع بين الطريقة الصينية في تحديد الوقت في المواسم المختلفة خلال فترة الليل والطريقة الغربية. كان سطح ساعات الحائط وساعات اليد التي تُنتج في القصر الإمبراطوري، تصنع عادة من الخشب عالي الجودة ويغطى بطبقة من المينا أو الورنيش الذهبي ليجعلها تبدو فخمة. كانت هذه الساعات تُصنع بتصاميم على شكل الأسلوب المعماري الصيني التقليدي مع دلالات لها معان مباركة، وتشكل نمطا إمبراطوريا فريدا.

كان لساعات الحائط في متحف القصر الإمبراطوري وظائف متعددة، فقد كانت تُستخدم لتحديد الوقت وكذلك كنوع من الأثاث والزخرفة. على سبيل المثال، هناك ساعة صممت لتكون مسندا ليتكئ عليه الإمبراطور عند شعوره بالتعب، وتصدر موسيقى لدى الضغط الخفيف عليها، وهناك ساعة الرف التي تعد نموذجا يجمع بين وظيفة تحديد الوقت وكقطعة تمثل الأثاث الصيني الكلاسيكي. وهناك ساعة رف الملابس التي كانت تستخدم لتعليق قبعات الإمبراطور، وساعة طاولة التزيين التي تحتوي على مرآة ودرج كانت تستخدمها محظيات الإمبراطور لحفظ مستحضرات التجميل فيها.

 هناك أيضا بعض الساعات التي أعيد تشكيلها من تصاميم الساعات الغربية، حسب تعليمات الإمبراطور. كانت إعادة تهيئة الساعات إحدى المهام الرئيسية لمكتب صنع الساعات، وبعض تلك الساعات التي لحقها ضرر معين بسبب الاستخدام الطويل وكانت بحاجة للتصليح، أو بعضها الآخر كانت بحاجة لتحسين مظهرها أو تزويدها بوحدات متنقلة جديدة. كان المكتب يقوم بتعديلات كبيرة أو بسيطة على الساعات بحسب تعليمات الإمبراطور، وفي بعض الأحيان كان يطلب إجراء بعض التعديلات لتتفق الساعة مع ذوق الإمبراطور.

حرفة توارثتها الأجيال

بسقوط أسرة تشينغ، توقف مكتب صنع الساعات عن العمل، ولكن بقيت الأجيال تتوارث هذه الحرفة القديمة حتى يومنا هذا. كان يتم التقاط صور للساعات التي يراد تصليحها قبل البدء في عملية التصليح. يتم في البداية إزالة الغبار المتراكم على الساعة قبل فك قطعها، كما تتم إزالة الصدأ وتنظيف الساعة باستخدام مادة محللة لإزالة البقع والعيوب المتراكمة. الدقة مطلوبة بشكل كبير خلال عملية التصليح برمتها، حيث أن معظم الأجزاء الداخلية للساعة صغيرة الحجم ومتناهية في الصغر. فقدان وتلف أي قطعة أو حلقة قد يؤدي إلى عطل. أحيانا يكون الجزء المفقود في حجم حبة السمسم، ولا يكون طوله أكثر من ميلمتر واحد. واختلافا عن الساعات الحديثة التي يمكن استبدال الجزء المتعطل فيها بآخر جديد، في أغلب الأحيان كان لا بد من تصليح الأجزاء المتعطلة، حيث لم يكن من الممكن استبدالها.

بعد الانتهاء من جميع هذه الإجراءات، تبدأ عملية إعادة تركيب الساعة، والتي قد تتكرر عدة مرات حتى يتم التأكد نهائيا من أن الساعة تعمل بشكل صحيح. فإذا لم تعمل الساعة بعد إعادة التركيب، يجب تفكيك قطعها بدقة مرة أخرى ومحاولة معرفة أين تكمن المشكلة من جديد. تلك كانت مهمة مضنية وتستغرق وقتا طويلا، حيث كانت تستغرق عملية تصليح ساعة واحدة فقط أحيانا عدة شهور، بل سنوات.

هذه الساعات الرائعة المعروضة في المدينة المحرمة ليست فقط قطعا زخرفية رائعة، وإنما أيضا تؤدي وظائفها المحددة لها. الجزء الأصعب في تركيب هذه الساعات ليس أجزاءها الداخلية، بل الأشكال الزخرفية، فعلى سبيل المثال الزينة على شكل مظلة دورانية صغيرة قد تحتوي على أكثر من ألف جزء، ناهيك عن الأشكال المعقدة الأخرى. ولذلك، يتم تطبيق التقنيات الحديثة بالإضافة إلى المهارات التقليدية لمعالجة جميع أنواع المشكلات، ليس فقط لجعل هذه الساعات تحدد الوقت بشكل دقيق، وإنما أيضا لإظهار أدائها الرائع السلس.

بالإضافة إلى ذلك، كل ساعة في متحف القصر الإمبراطوري مصنوعة يدويا بدون رسم تصميمي، ومن ثم فإن لكل منها هيكلها الداخلي الخاص وتفاصيل تركيبها الخاصة التي لا تنطبق على غيرها من الساعات الأخرى. بالنسبة إلى المصلحين، إدخال تغييرات على الساعات أمر محظور تماما فهو لا يعد مساسا بالتاريخ فحسب، وإنما أيضا يشوه الهوية الكلية للساعة.

كان معظم هذه الساعات القديمة ضمن المقتنيات الإمبراطورية، ولهذا فإن المعلومات حول تاريخها نادرة، مما يسبب عوائق أمام الباحثين والوارثين. من أجل حل هذه المشكلة، توصل الخبراء المختصون بقياس الزمن إلى طريقة جديدة، فأعدوا ملفا لكل ساعة يحتوي على رقم تعريفي خاص بها و"بطاقة هوية" لمراجعة تاريخها. وهناك أيضا خطة لوضع الكود الثنائي الأبعاد على كل واحدة من الساعات بحيث يمكن للباحثين مسح الكود الثنائي الأبعاد من خلال تطبيق الماسح الضوئي بهواتفهم الذكية لعرض معلومات الوسائط المتعددة المفصلة عن الساعات.

مهارات تصليح الساعات في فترة أسرة تشينغ تم توارثها إلى الجيل الرابع من المصلحين في متحف القصر الإمبراطوري. يقوم المتحف بتنظيم دورات تدريبية بهدف تدريب المزيد من الحرفيين على مهارة تصليح الساعات في متاحف مختلفة في أنحاء الصين، كما يتم إصدار كتب وكراسات لإطلاع الأجيال القادمة على المهارات القيمة.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4